تخلت أحزاب سياسية مغربية معدودة، دون سبب معلن، عن تجربة " الجامعات الصيفية" التي بادرت إلى فتحها في غضون السنوات الماضية، كوسيلة للاستقطاب والتثقيف السياسي وتعميق الوعي بآصرة الانتماء إلى التنظيم الحزبي بين المنتسبين، من خلال نقاش متحرر يجري بين النخب في قمة التنظيم والقاعدة العريضة. حوار دعيت لتنشيطه فعاليات أكاديمية وخبرات سياسية مستقلة من داخل البلاد وخارجها. وكان مفروضا، بالنظر إلى الدينامية السياسية والمجتمعية التي يعرفها المغرب، وأجواء الحرية الفكرية التي تطبع العهد الجديد، أن تكثر الجامعات المفتوحة من قبل الأحزاب والنقابات على مدار فصول السنة، للتداول الحر بين الفاعلين، بخصوص القضايا والإشكالات الكثيرة التي تواجه المجتمع المغربي المتغير بإيقاع سريع،على جميع الأصعدة، تكون مناسبة لتجديد ومقارعة الأفكار وتوضيح الرؤى. وما حدث أن الأحزاب القليلة التي كانت سباقة للانخراط في تلك التجربة المعرفية، ولت وجهها عن فضاء سياسي وثقافي استثنائي، توفره الجامعات الصيفية ؛ يعوض الفراغ الناتج عن قلة المؤسسات ومراكز البحث البديلة في المجتمع حكومية كانت أو مستقلة، يمكنها الاضطلاع بهذا الدور وسد الخصاص الفادح وتقديم المشورة الفنية والنصح لصناع القرار وواضعي المخططات. غياب هذا التثقيف الموازي، لا يشعر المغاربة بأثره السلبي إلا عندما ينزل عليهم كالصاعقة، محتوى تقارير دولية، تنذرهم بالخطر المحدق بهم في قطاعات محددة مرتبطة بحياتهم ومستقبل بلادهم. صحيح أنه توجد مؤسسات حكومية، لا يعلم الكثير عنها، من قبيل المندوبية السامية للتخطيط، تنحصر مهمتها في مراقبة حركية مؤشر الوضع والنشاط الاقتصادي وتطور المعيشة والاستهلاك في المغرب. فإذا ما سجل خبراؤها خللا، فإنهم ينبهون الأطراف الحكومية المعنية أولا، إلى الوضع المستجد، ثم يستأذنوهم في نشر التقارير على نطاق واسع ؛ وهو ما لا يحدث إلا لماما. وبعبارة أخرى، فإن تلك المؤسسة هي بمثابة "مرصد للزلازل " أو محطة الأرصاد الجوية، تتنبأ بوقوع طوارئ لكنها لا تستطيع منع حدوثها بل حتى الإخبار بموعدها، خشية إثارة الهلع بين الناس. وظيفة الجامعات الصيفية، كما هو الحال في المجتمعات المتقدمة، تضاهي وتكمل دور الجامعات التقليدية ومنتديات فكرية أخرى عامة ومتخصصة، تتيح التناظر وتبادل الرأي بين مشاركين من مختلف المشارب،انطلاقا من أرضية أو برنامج عمل، يعرضهما الحزب الراعي للجامعة لتحقيق جملة، بضعة أهداف دفعة واحدة : التعريف بخط الحزب السياسي وهويته الإيديولوجية لضمان انتشارها في المجتمع،ما يتيح له إشهار موقفه ووجهة نظره حيال القضايا المجتمعية الملحة التي تتابين الحلول والمواقف بشأنها.وكلما احتد التنافس بين الجامعات الحزبية، إلا وتحولت البلاد إلى ورش سياسي كبير، يتفاعل معه الرأي العام. لقد فاجأ العاهل المغربي، الملك محمد السادس، المغاربة، أخيرا، في خطاب ثورة الملك والشعب، برسم لوحة قاتمة لواقع منظومة للتربية والتعليم في المغرب.ودلت العبارات القوية التي استعملها عاهل البلاد، على أن بحوزته ما يكفي من الحجج والمؤشرات السلبية على عمق الأزمة.المفارقة أن أي حزب لم يدق قبله ناقوس الخطر في الوقت المناسب ؛ ليس بالشعارات الشعبوية التي يضج بها الشارع السياسي يوميا،وإنما بتشخيص وافتحاص موضوعي للواقع المريض واقتراح بدائل العلاج والإصلاح قابلة للتطبيق وبأقل قدر من الأضرار والتكاليف. وقبل الخطاب الملكي الأخير،صدم الرأي العام الوطني، من محتوى التقرير الذي أنجزه المجلس الاقتصادي والاجتماعي، في عهد رئيسه السابق، شكيب بن موسى.فهل صدر من قبل تنبيه عن حزب سياسي قبله ؟، من الأغلبية والمعارضة على حد سواء ؛مع أن المجلس يضم ممثلين عن الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني، ما يدل على أن من ينال عضوية المجالس المتخصصة يتخذها مزية اجتماعية، فيتحول إلى صم أبكم. وكما هو معلوم، تنحصر وظيفة الأحزاب، في تأطير للمواطنين، باعتبارها فاعلة في الحياة السياسية،ما يستوجب تحليها باليقظة مما يتهدد البلاد. تلفت النظر بصوت مرتفع، كقوة اقتراحية، إلى الاختلالات القائمة وتحذر من خطورة استفحال الأزمات المحتملة. تكون سباقة، من أي موقع، إلى إطلاق صفارة الإنذار لإجبار السلطات الرسمية على تقديم روايتها وتشخيصها وتبريرها للوضعية المثار حولها الجدل. تبتعدقدر الإمكان عن الكلام الفضفاض العام وأسلوب الاتهام والتحريض وإنما باستعمال المفردات العلمية والمعطيات الدقيقة. ويخيل للملاحظ، أن بعض الأحزاب السياسية المغربية، أفرغت من الموارد البشرية التي كانت تتباهى بها في الماضي،ممثلة في الكفاءات الأكاديمية والخبرات الميدانية. لم يعد لها فضاء أو منبر تصرف فيه معرفتها، سواء في رحاب جامعة صيفية أو صقيعية. وفي المقابل، كان الموسم الحزبي المنتهي، حافلا بألوان النميمة والفكاهة وصيغ التندر والكوميديا السوداء، وغزارة التنابز بالألقاب وتبادل الاتهامات المجانية بل التفنن في إنتاج وترويج "أخبار السوق" ضد هذا الحزب أو ذاك، مستغلة منجزات التكنولوجيا وأدوات التواصل الحديثة التي اخترعها غيرنا كوسيلة لنشر العلم والمعرفة. بات المشهد السياسي غريبا في مغربنا، حيثما تولي وجهك، تصطدم بالضحك والفكاهة الهابطة: في المؤسسة التشريعية، داخل الأحزاب، في وسائل الإعلام... فكأن الفاعليين المحركين لأوراق شجرة السياسة المغربية، تحولوا إلى متسابقين في "كرنفال العبث" لحصد ميداليات الفكاهة والقدرة على إضحاك الناس. وهي الذخيرة المعرفية التي يتم إعادة إنتاجها في المسلسلات الرمضانية المسببة عسر الهضم. هذه الصورة القاتمة، لا تحجب جهودا منيرة، مبعثرة هنا وهناك، تنتجها نخب متخلى عنها من طرف الدولة والأحزاب وكذا المؤسسات الاقتصادية القادرة على التشجيع والتمويل والترويج. ومن حسن الحظ أنها، على محدوديتها، مستمرة ومصرة على إنتاج معرفة نافعة للمجتمع، رغم استمرار مهرجان "الضحك". عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.