يترقب المغاربة نتائج ما ستفسر عنه المشاورات السياسية الجارية حاليا وسط تكتم، من أجل ترميم الأغلبية الحكومية التي تصدعت بخروج خمسة وزراء من حزب الاستقلال. وتركزت الأنظار في الأيام الأخيرة إلى موقف حزب التجمع الوطني للأحرار، من المشاركة أو عدمها في حكومة بنكيران الثانية .ولا توحي التسريبات عن أجواء التفاوض، أن الأمور سهلة بالنسبة للطرفين ؛ فالتجمع وزعيمه، صلاح مزوار،ربما وجدها فرصة لتبييض سمعته مما لحقها من أذى الحملات التي شنت عليه على خلفية حصوله على تعويضات مهمة، من وزارة المالية، إضافة إلى أجرته الشهرية، حيث تحدثت الصحف عن وجود "تواطؤ أو تفاهم " بغطاء "قانوني" بين الخازن العام للملكة ووزير المالية، تبادلا بمقتضاه "المنافع "المالية في أجواء تستر مطلق من جانبهما . فأن يلتجئ "بنكيران" زعيم العدالة والتنمية إلى غريمه "مزوار" لترميم الحكومة المتصدعة، فهذا مؤشر على الحرج الكبير الذي يواجهه رئيس أول حكومة مغربية في ظل الدستور الجديد. ولا تقل أزمة "الأحرار" التي يتجنبون الحديث عنها، عن ما يواجه "بنكيران" فهؤلاء بدورهم، حائرون بين الحسم المطلق أو المعلق بخصوص مشاركتهم في الفريق الحكومي المقبل. لكن المعضلة الحقيقة،تتمثل في الأسماء التي سيقترحونها على زعيم العدالة والتنمية ؛ فالمرشحون المتداولون لشغل حقائب حكومية،لا يخرجون عن الأسماء المعروفة التي شاركت في حكومة عباس الفاسي السابقة والتي قبلها أي حكومة ادريس جطو، بل إن بعض المرشحين أمضوا في الكراسي الحكومية حوالي عقد ونصف. وهذا يتنافى مع مبدأ تجديد النخب وإتاحة الفرصة للشباب والمرأة ومن المقترحات التي ستشكل بالغ الإحراج ل"بنكيران" عودة زعيم حزب التجمع، لوزارة المالية، كما يدفع بذلك بعض "بارونات "الحزب، متعللين بتجربة زعيمهم في وزارة المالية، لكنهم يقفزون عن الإشكال الأخلاقي الذي سببته له قصة "العلاوات" خارج الأجرة. ويستبعد متتبعون للشأن السياسي المغربي، إسناد وزارة المالية إلى "مزوار" إذ سيكون ذلك علامة على انتحار سياسي له وللحكومة،فالصحافة والأحزاب اليسارية والمجتمع المدني، لن يسكتوا عن ما سيعتبرونه استهتارا بالرأي العام، بل قد يشجع استلام "مزوار " لوزارة المالية على عودة جماعات شبابية للتظاهر بالشارع بعد أن خمدت الحرائق التي أشعلتها. ولن يكون الأمر أسهل إذا تقرر جلوسه على كرسي رئاسة مجلس النواب. صعوبة أخرى واجهت "بنكيران" على ما يبدو، أثناء تفاوضه مع "الأحرار" تتمثل فيما يطالب به الأخير من أنه ليس رقما مكملا بل اساسيا في المعادلة الحكومية المقبلة، ما جعله يطالب بإعادة النظر في البرنامج الحكومي، وهذه في حد ذاتها ليست مشكلا عصيبا، وإنما الأصعب منه هو أن تكون ل "التجمع" الكلمة الفصل في "الهندسة الحكومية " ما سيترجمه في المطالبة بحقائب محورية. في هذا السياق، عبر حزب الحركة الشعبية عن مطلب مماثل، بأن يمنح الثقل المستحق له في الحكومة المنتظرة. إذا انصاع "بنكيران" كليا أو جزئيا، لمطالب حزبي "الحركة " و"التجمع" فماذا يبقى له من هيمنة على الحكومة الثانية ؟ إن المشهد يبدو معقدا وقاتما وحافلا باحتمالات التأزيم والتجاذب التصعيدي. وكان بإمكان "بنكيران " أن يخرج، أثناء مشاوراته، ورقة الاستعانة بحزب "الاتحاد الاشتراكي" لكنه فشل في أقناع الأمين العام،ادريس لشكر، لإنقاذ مخططه بل إن هذا الأخير قال صراحة إن حزبه يفضل أن تقوم الحكومة بدورها، بينما تؤدي المعارضة رسالتها. لقد ضاقت رقعة المناورة السياسية على "بنكيران" بعد انسحاب "الاستقلال" وامتناع "الاتحاد الاشتراكي" عن الانضمام إلى فريقه . سيصبح من الصعب عليه أن يقود حكومة قائمة على أحزاب "حليفة" لا يمكن أن تسايره في كل أهدافه : فالتجمع والحركة، لا يستطيعان بحكم تكوينهما وولائهما للنظام والاستقرار، أن يتخطيا الحدود المرسومة لهما. تلوح في الأفق المتأزم، بعض الاحتمالات: أولها أن يمارس الملك دوره الدستوري التوفيقي، بحيث يقرب وجهات النظر بين الفرقاء، لاستكمال الولاية التشريعية الحالية، في إطار "حكومة التوافق" على غرار التجربة التي قادها عبد الرحمن اليوسفي، المسماة "حكومة التناوب التوافقي" هذا الاحتمال مرهون بقبول "العدالة والتنمية " حتى يضفى عليه الطابع الدستوري. الاحتمال الثاني، انفراط الأغلبية الحالية، وتحول حزب "العدالة" إلى المعارضة، وهذا توجه محاط بكثير من المحاذير السياسية والعيوب الدستورية، وسيعقد المشهد السياسي أكثر مما يهدئه. يبقى الاحتمال الثالث، أي اللجوء إلى تعديل دستوري، يعيد صياغة بعض البنود "الملتبسة" في اتجاه توضيح أكثر لدور الملك، كحكم وضامن لحسن سير المؤسسات الدستورية. وهذا الإجراء يتطلب كذلك مرونة من "العدالة والتنمية" مثلما يخشى أن تفتح "التعديلات الدستورية " الباب على مصراعيها أمام المطالب المتطرفة من لدن جهات لم يرضها ما حققته في الدستور الحالي. إن الظرف دقيق حقا، يضاعف من ذلك الوضع في المشرق والمغرب العربي وخاصة في تونس ومصر وسورية، حيث لم تحسم الأمور بشكل نهائي. هل اصبحت الظروف ناضجة في المغرب لتشكل حكومة "توافق وطني" ترسم لها أهداف محددة، للانتقال إلى مرحلة أكثر استقرارا وهدوءا ؟ ليس الحل سهلا، حتى على المخيلة السياسية مهما كانت قدرتها على التحليق وابتكار السيناريوهات. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.