لعل أبرز هواجس الشارع التونسي في الفترة الأخيرة ما تشهده البلاد من عودة لأزلام النظام السابق ورفاق زين العابدين بن علي إلى الحياة السياسية بأسماء جديدة، وبمباركة من القيادة الحاكمة منذ نجاح الثورة عام 2011. بعد عامين وسبعة أشهر من سقوط النظام السابق، عاد أركانه التجمعيون (حزب التجمع الدستوري الحاكم سابقاً) إلى الواجهة وأصبح حضورهم علنياً بعد فترة من الصمت والاختفاء. فقد قدّم رفاق وأزلام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، طلباً رسمياً للحصول على ترخيص لحزب جديد باسم «الحركة الدستورية». وحمل الطلب اسماء قيادات في الحزب الحاكم المُنحلّ ووزراء سابقين من حقبة زين العابدين بن علي، مثل نائب رئيس الحزب الوزير الأول (رئيس الحكومة) حامد القروي، ووزير النقل عبد الرحيم الزواري، والأمين العام للحزب الذي تولى حقائب وزارية عديدة، الشاذلي النفاتي، وغيرهم. الحزب الجديد سيكون بأمانة عامة يشغلها المحامي الطاهر بوسمة، الوجه البورقيبي المعروف. خطوة فاجأت عدداً من الناشطين السياسيين تزامنت مع الإفراج عن عدد من وزراء بن علي مثل مستشاره للشؤون السياسة عبد الوهاب عبد الله، الذي يُعتبر المسؤول الأول عن توجيه السياسة الإعلامية المعروفة بالتشديد وغياب الحريات في ذلك العهد، والأمين العام السابق للحزب الحاكم محمد الغرياني. ويكشف الحكم ببراءة مسؤولي نظام بن علي عن تحولات جوهرية في الشارع التونسي، فقد خفتت حدة النقد التي كان يواجهها رموز نظام الجنرال المخلوع بعد الفشل الذريع الذي انتهى اليه الحكام الجدد، ما جعل عدداً كبيراً من التونسيين، بل حتى من الطبقة السياسية، يتحسّرون على ذلك النظام الذي حافظ على هيبة الدولة وكان يتحكم في الأسعار ويقاوم الفساد الذي تفاقم بشهادة المنظمات الدولية المتخصصة. في غضون ذلك، ينظر عدد من التونسيين إلى النظام المخلوع على أنه كان ضحية مافيا العائلات القريبة من الرئيس وخاصة من زوجته ليلى الطرابلسي، التي لن يغفر له التونسيون دورها في تخريب بلادهم والقضاء على مشروع التنوير والتحديث بعد صعود الترويكا إلى الحكم في اول انتخابات شفافة على إثر سقوطه عام 2010. أما ظهور أنصار النظام السابق فليس جديداً، إذ حدث ذلك منذ الأيام الأولى لسقوطه عندما أسس عدد من وزرائه وسفرائه ومحافظيه مجموعة من الأحزاب منها حزب «الوطن» بزعامة وزير الداخلية والسياحة مدير ديوانه الرئاسي الى حدود 1999 محمد جغام، وحزب «المبادرة» بزعامة آخر وزير خارجية في حكمه كمال مرجان، وحزب «المستقبل» بزعامة آخر سفير في الصين الصحبي البصلي، وحزب «الإصلاح الدستوري» بزعامة عضو في آخر برلمان فوزي اللومي. لكن كل هذه الأحزاب الصغيرة وغيرها لم يكن لها أي تأثير في الشارع السياسي، بل مُنِعت من تنظيم اجتماعات شعبية ولقاءات فكرية. إلا ان تأسيس السياسي المخضرم الباجي قائد السبسي كسر العزلة السياسية على الحركة الدستورية الحاكمة سابقاً بعودة رموز النظام السابق بشكل ملحوظ ومتواتر فسّره بعض المتابعين للشأن السياسي التونسي برغبة حركة النهضة في التحالف معهم لقطع الطريق على حزب «نداء تونس» الذي يقود المعارضة. وشكّل الصعود القوي لهذا الحزب الذي أسسه السبسي وهو محام انشق عن الحزب الدستوري بقيادة الزعيم الحبيب بورقيبة، احتجاجاً على غياب الديموقراطية سنة 1970 عندما كان سفيراً لدى باريس، هاجساً مرعباً لحركة النهضة بعد أن أكدت كل نتائج سبر الآراء تراجعها أمام «نداء تونس». لكن هذا لا يمكن أن يفسر فقط عودة رموز النظام السابق، إذ إن الشارع التونسي اكتشف بعد عامين ونصف «وهم الثورة» بعد حالة الإحباط التي تسيطر على الشارع. فقد خسر التونسيون الأمن وتضاعف عدد العاطلين من العمل ولم ينته الفساد بل ازداد وتواصل تهميش المناطق الداخلية التي خرجت منعاً الاحتجاجات مثل القصرين وسيدي بوزيد وقفصة وغيرها. كذلك تواصلت هيمنة الحزب على الدولة واعتماد مبدأ الولاء عوضاً عن مبدأ الكفاءة. وكانت كل هذه العوامل وراء العودة القوية للنظام السابق ورموزه. ولا يخفى على أحد أن أنصار النظام السابق يقفون وراء جانب كبير من الحراك الشعبي في الشارع. فشعارات «أزلام النظام السابق» و«الثورة المضادة» لم تعد تقنع أحداً من التونسيين بعد أن استقبل الرئيس المؤقت محمد المنصف المرزوقي، الذي يعتبر نفسه مؤتمناً على «الثورة» في قصر قرطاج، حامد القروي المسؤول الأول عن القبضة الأمنية والسياسية التي عاشتها تونس خلال عشر سنوات، وبعد أن اصبح نواب حزب «المبادرة» بزعامة كمال مرجان، آخر وزراء خارجية بن علي، أعضاء فاعلين في جبهة الإنقاذ الوطني. فهل فشل «الثورة» التي أصبح التونسيون يشككون فيها علناً هو الباب لعودة النظام القديم لحماية الدولة من الاندثار؟