شهدت نهاية الأسبوع الماضي وبداية الأسبوع الحالي في المغرب حدثا مهما، خطيرا، أبان من جهة أولى على قوة وحيوية المجتمع المدني في المغرب (في بعض مكوناته على الأقل) وقدم الدليل، من جهة ثانية، على قدرة ملك المغرب على التفاعل الإيجابي والسريع مع مطلب كان يبدو - في أذهان الكثيرين العاجزين عن فهم حركية الشارع وتطور الأزمنة - مطلبا عسيرا بل وربما عصيا على التحقق. ما الأمر تحديدا؟ وما دلالته على صدق ما نسوق من ادعاء؟ اعتاد ملك المغرب، في الأعياد الدينية والمناسبات الوطنية الكبرى، أن يصدر عفوا على أعداد من المحكوم عليهم بالسجن أو الغرامة أو هما معا واعتاد الناس أن تكون اللائحة أكثر اتساعا في عيد العرش. وهذه السنة سبقت ذكرى جلوس الملك على عرش أسلافه زيارة رسمية قام بها للمغرب ملك إسبانيا خوان كارلوس. والظاهر أن ملك إسبانيا قد التمس من ملك المغرب أن يشمل بالعفو جملة من المعتقلين الإسبان. وما حدث بعد ذلك فيما يظهر كذلك هو أن الحكومة الإسبانية تقدمت بقائمة في هذا الصدد بواسطة سفارة بلدها في المغرب جريا على الأعراف الدولية وعملا على تطبيق أحكام اتفاقية قضائية مغربية - إسبانية تجيز لكلا البلدين تمكين المعتقلين الذين يحملون جنسية أحد البلدين من قضاء أو إتمام عقوبة السجن في بلده. ما جرى بعد ذلك هو أن لائحة المشمولين بالعفو، بمناسبة عيد العرش في المغرب، شملت 48 إسبانياً من نزلاء السجون المغربية. وبكيفية غير مفهومة تضمنت القائمة اسم دانيال غالفان المدان بجريمة اغتصاب 11 طفلا حكم عليه القضاء المغربي بثلاثين سنة سجنا ولما يمضِ على الحكم ثلاث سنوات. أيام قليلة بعد تنفيذ العفو الملكي (ومغادرة دانيال السابق ذكره أرض المغرب) ثارت ثائرة مجموعة كبيرة من جمعيات الدفاع عن الطفل (وفي مقدمتها جمعية تأسست بعد حادثة الاغتصاب التي كان الفاعل فيها الإسباني المذكور) ومن جمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان وكذا زمرة من الصحافيين والفنانين والمثقفين وكان الخروج إلى الشارع الرئيس في العاصمة في الليل الرمضاني حيث تكون الشوارع مكتظة مليئة بالحيوية)، كما جرى منع مظاهرات في مدن أخرى، فيما انطلقت حملة واسعة من جمع التوقيعات على بيانات الاستنكار في مواقع على الشبكة وذاع الخبر عبر قنوات دولية كثيرة. بيد أن رد الفعل أتى قويا، مفاجئا لكثير من التوقعات، في صورة بيانات متلاحقة صادرة من الديوان الملكي (ثلاثة بيانات خلال ثلاثة أيام متتالية). في البيان الأول، إخبار بأن الملك لم يكن على علم بوجود مجرم من نوع دانيال السيئ الذكر، وطلب من وزير العدل أن يتقدم بمشروع قانون لتقنين مسطرة العفو، ووعد بمعاقبة المسؤول أو المسؤولين عن الخطأ الشنيع. وفي البيان الثاني، إعلان الملك تراجعه عن شمول الإسباني السالف ذكره بالعفو الملكي. والبيان الثالث، أمر بإقالة المدير العام لمؤسسة السجون في المغرب، لكونه المسؤول المباشر عن القائمة التي تشمل طلبات العفو التي تقدم إلى الملك. ثم إن الملك استدعى عائلات ضحايا حالات الاغتصاب التي اقترفها دانيال المذكور ليعبر لهم عن عميق حزنه لما أصابهم وللخطأ الفظيع الذي كاد يجعل المجرم يفلت من العقاب. تلك هي وقائع الأحداث المتسارعة التي عاشها المغرب والتي جعلت كلا من الملك والمجتمع المدني أمام اختبار غير يسير، بيد أن الاختبار كلل بالنجاح ونحسب أنه كان كذلك لاجتماع سببين اثنين أساسيين نود بسطهما في حديثنا هذا. أما السبب الأول، الذي يحمل على الحديث عن النجاح فيكمن في القوة والفعالية اللتين أبان عنهما المجتمع المدني في المغرب وفي قدرته على القيام بالدور الخطير الذي يستوجب الوجود الاجتماعي المعاصر والدولة الحديثة، دولة القانون، القيام به: ما يقال عنه في أدبيات الفكر السياسي المعاصر إنه دور القوى المضادة للسلطة التنفيذية (contr pouvoir) تلك التي يتعذر قيام التوازن الضروري مع غيابها أو وهنها. والجمعيات والتنظيمات المختلفة، شأنها في ذلك شأن الصحافة، ومنابر التعبير الكثيرة والمواقع الاجتماعية على الشبكة - على سبيل المثال - إحداها، كيفيات ووسائل تملك أن تحد من غلواء السلطة التنفيذية ومن شططها فتكون الوعي النقدي للأمة والضمير اليقظ للشعب على نحو لا تقدر قوى المجتمع السياسي على القيام به أو إنه لا يدخل، في الأحوال كلها، في صميم المهام المطلوب منها القيام بها وعلى النحو الذي تحسنه الجمعيات الحقوقية بأصنافها الكثيرة (مثل جمعيات الدفاع عن حقوق المستهلك). ونحسب أن الجمعيات التي رفعت عقيرتها بالاحتجاج ضد ما سيتبين أنه قد كان خطأ فادحا، تدخل ضمن شبكة المعايير هذه فهي تقدم لإمكان دولة القانون بعض الضمانات الضرورية لقيامها، ضمانات لحمتها الضمير الحي والوعي اليقظ. وأما السبب الثاني، فيرجع بطبيعة الأمر إلى ملك المغرب وإلى ما أبان عنه من حكمة في تدارك الموقف وإصلاح الخطأ بالإقدام على الفعل الملكي الشجاع بالتراجع عن عفو تبين أن إقراره لم يكن في الموقع الطبيعي. لا يملك المرء إلا القول بأن الخطأ شأن بشري وأن الفضيلة تقوم في القدرة على المراجعة والارتفاع فوق سجن عادات مهترئة تحمل على الاستعلاء والتمادي في الخطأ. نعم، في المغرب قانون ينظم التمتع بالعفو ويبين المسطرة التي يكون بها التماسه من الملك غير أن هذا القانون (والمسطرة المتبعة خاصة) غدا في حاجة إلى مراجعة وإعمال جديد للنظر بعد مضي أزيد من خمسين سنة على صدور ذلك القانون، وأبانت التجربة أنه في حاجة إلى رؤية جديدة. دعا الملك في البيان الأول الصادر عن الديوان الملكي، بخصوص النازلة موضوع الحديث، إلى استصدار قانون تنظيمي جديد والرأي عندي أن في هذا الأمر جنوحا إلى التأويل الإيجابي للدستور؛ ذلك أن منطوق الفصل 58 من الدستور الذي أقره المغاربة قبل عامين يقضي بأن الملك «يمارس حق العفو» ويجعل النص مطلقا فلا تقيده جملة تقضي بوجوب صدور قانون تنظيمي في هذا الشأن ووجه الإيجاب هو أن الباب يفتح على إمكان اللجوء إلى صياغة تشريعية تعين بدقة الحالات التي لا يجوز فيها اللجوء إلى التماس العفو. "الشرق الأوسط"