هل «الربيع العربي» بداية تحوّل في السلطة أم خطوة تغيير في المجتمع؟ الإجابة تفترض إعادة قراءة المدلول السياسي للاحتجاجات والانتفاضات التي هبّت على المنطقة العربية في لحظات متقاربة. تقارب الفترات الزمنية للانفجارات السياسية يؤشر إلى وجود مشترك عربي يربط حلقات السلسلة من المحيط إلى الخليج. الخيط المشترك الذي تمظهر في الساحات والميادين لا يعني بالضرورة أنّ المشهد السياسي يدلّ على الوحدة الجامعة وإنّما لا بدّ من رؤيته من منظار تماثل السلطة وتشابه أنماطها في التعامل مع الجماعات الأهلية. التشابه السلطوي والتقارب الزمني للانتفاضات لا يلغيان احتمال التباعد بين النتائج المترتبة عن كل احتجاج. فالاختلاف في التكوين البنيوي للجماعات يبدو هو المرجّح نظراً للانقسامات الناجمة عن الانشطارات السياسية للهيئات الأهلية. وسيفرض الواقع في النهاية شروطه على التحولات وسيكون له دوره في إعادة تشكيل البنية السياسية التي يفترض أن تأخذ موقعها في هيكل السلطة البديلة. بطبيعة الحال لا يمكن أن يظهر من تحت أنقاض سلطة مستبدة (الصفوة المختارة) إلا تلك الأشكال السياسية التي تكوّنت خارج أو بالضدّ من القوة المهيمنة التي تحكمت بمفاصل القرار ومصادر الثروة ومخارج الأموال. فالطبيعة الاجتماعية للسلطة التي أدارت الأجهزة خلال فترة نصف قرن، ساهمت في تأخير نمو الدور الدستوري للدولة (الهوية الجامعة) وحطمت احتمال قيام بنية موحدة يمكن التأسيس عليها، ودفعت الجماعات الأهلية إلى الانكفاء بحثاً عن ملاذات آمنة سواء على مستوى المنطقة أو العشيرة أو الطائفة أو المذهب. وأعطت هذه الملاذات مع تراكم الوقت فرصة لتشكيل خصوصية أهليّة غير «حداثية»، تعتمد آليات ذاتية مطبوعة بظروف المحلة أو الحيّ في ضواحي المدن أو البيئة الطبيعية في النواحي النائية (جرود جبال، سهوب صحاري، وديان منعزلة). هذا النوع من التكوّر الأهلي الاضطراري هو أقرب إلى الكتلة العضلية الاجتماعية التي تعاضدت بحثاً عن هوية تضمن الحماية وتعطي جرعة للتكيف مع واقع منشطر إلى ولاءات غير موحّدة في المصالح وأنماط المعاش. وبسبب طبيعته الاضطرارية لا يمتلك هذا النوع من التوحد البنيوي (العضلي الاجتماعي) بالضرورة إمكانات البقاء على ما هو عليه في حال توافرت ظروف تختلف عن مرحلة «التقوقع» الأهلي التي تأسست رداً على استبداد سلطة. إعادة ترسيم صورة المشهد السياسي الذي بدأت ملامحه تتمظهر جزئياً في تونس وليبيا ومصر والسودان واليمن والبحرين وسوريا وغيرها من البلدان لن تكون غريبة بالتأكيد عن خريطة الواقع الذي أخذ يتجلى في عودة الجماعات الأهلية من طور الانكفاء إلى معادلة الخروج إلى مسرح التاريخ. وبدأ هذا الأمر يتمظهر الآن في انكسار حالات الانكفاء على الذات بعد تحطّم الفزّاعة السلطوية. والعودة إلى السياسة، بعد فترات اللجوء إلى حماية الجماعات الأهلية، يعطي فكرة موجزة عن المشهد العام الذي يمكن أن تستقر على أرضه الاحتجاجات بعد أن انكسر حاجز الخوف. هذا الأمر المتأزم يطرح من جديد ذاك السؤال عن وجود «مؤامرة إسلامية» تريد الإطاحة بالربيع العربي بغية مصادرة الديموقراطية والتحكم بالسلطة (إلى الأبد) من طريق صناديق الاقتراع وفرض حكم «سلطة الغالبية» كما كان يشير المفكّر الفرنسي الكسيس دو توكفيل إلى مخاطرها حين قرأ خصوصيات الديموقراطية الأميركية في النصف الأول من القرن التاسع عشر مقارنة بالديموقراطية التقليدية في أوروبا. والخصوصية، التي تحدّث عنها دو توكفيل في زمنه، يمكن ملاحظة أطيافها في حالات متشابهة في البلدان العربية. فالسلطة المنغلقة أسهمت في تشكيل مجتمع مأزوم على صورتها التاريخية (الأهلية) ودفعت الجماعات السياسية إلى الاختباء في منظومات معرفية تتماهى مع الماضي (الإسلامي). أنتج المعطى السياسي، الذي ارتسمت ملامحه على أرض الواقع خلال فترة العقاب السلطوي، صورة مقاربة لذاك النسيج الاجتماعي المتفرّق على عصبيات (انقسامات عمودية) تشطر المجتمع إلى دوائر ومناطق وطوائف ومذاهب وأقليات تحتاج إلى وقت للتعارف والتخاطب قبل الانتقال من طور الانشطار الأهلي إلى مرحلة الانقسام المدني وثم الاستقطاب السياسي. المشكلة الآن ليست في الانقسام وإنّما في طبيعته الاجتماعية والتكوينية والبنيوية الديموغرافية. فالانشطار الأهلي ينتمي في شروطه إلى مجتمع ما قبل الدولة بينما الانقسام المدني يؤسس الخطوة الأولى نحو نهوض دولة دستورية جامعة للتنوع والتعدد. وهذا التشرذم لا يمكن عزله عن الديموقراطية بوصفها تلك المرآة التي تعكس توازن الاستقطابات السياسية، وهي لن تكون بعيدة في نتائجها التصويتية عن الانقسامات الأهلية. وبما أنّ المجتمعات المنتفضة على سلطة الاستبداد تعود الآن إلى صنع مصيرها، بعد خمسة عقود من الانكفاء إلى شبكات الحماية والرعاية التقليدية والمتوارثة، فإنها تحتاج فعلاً إلى وقت ضائع تتحرك فيه وتخضع لشروطه قبل الانتقال إلى دائرة الضوء (الحرية). مرحلة الانتقال لها شروطها، لأنها بطبيعة الحال تتشكل من مجموعة تعارضات ليست هي قديمة كلياً وليست هي بالضرورة جديدة. إنها مرحلة تمهيدية تبدأ خطواتها الأولى في سياق عفوي متعثر تشبه فترة الطفولة ومطلع التدرب على المشي (السير) باستقلال عن رعاية الأهل وتحت رقابتهم. فهذه المرحلة تأسيسية، ولأنها كذلك، فإنها ستشهد الكثير من التخبط والفوضى حتى تنتظم الخطوات وتستقر. بعد ذلك يرجح أن تستعيد الجماعات الأهلية ثقتها بالآخر وتبدأ بمدّ الجسور معه بقصد إعادة هيكلة دولة كانت غائبة فعلياً عن مسرح التاريخ الاجتماعي للبلدان العربية. وتحتاج عملية الانفتاح على الآخر إلى وقت حتى يتمّ ترميم الدمار الاجتماعي الذي أصاب مختلف الأطياف. ما حصل في تونس والمغرب وما يحصل في مصر وليبيا واليمن وما يمكن أن يحصل في سوريا والبحرين لا يمكن أن يكون خارج المألوف الذي تكيفت واعتادت عليه الجماعات الأهلية في العقود الماضية. والنموذج الانقسامي الذي تمظهر في العراق (بعد الاحتلال وتقويض الدولة) وما تجلى بعد خروج القبيلة إلى المسرح السياسي في أفغانستان واليمن، وما حصل في الصومال (تبعثر السّلطة) ويمكن أن يحصل في السودان (انقسام عنصري وفرز ألوان) كلّها حالات تؤشّر إلى ضعف الدولة بوصفها الرافعة التاريخية لوحدة الجماعة. وحين تكون الدولة ضعيفة تاريخياً والسلطة مستبدة سياسياً تبدأ الجماعات الأهلية المنغلقة على ذاتها بالبحث عن صورة تكون على نموذجها ومثالها. بهذا المعنى، تصبح ظاهرة نجاح القوى الإسلامية في معظم الانتخابات التشريعية مسألة عادية وبديهية ولا تحتاج إلى استغراب أو استنكار. فالإسلام في تجلياته المختلفة (شعبوية، سياسية، عنفية، حداثية، وحزبية) يشكل في إطاره التاريخي تلك الذاكرة الجمعية التي توحد الجماعات الأهلية في حلقاتها المنعزلة أو هوياتها الضيقة. لذلك يمكن أن يلعب الدين في البداية (طور الطفولة) دور القوة الأيديولوجية الجامعة التي توحد الحلقات المتفرقة في سلسلة تشد العصب أو العصاب الأهلي إلى بيئة متجانسة تمنع احتمال الانهيار وربما الانزلاق إلى سلطات محلية (دويلات طوائف ومذاهب وقبائل وأقليات) تتشتت على مساحات جغرافية واسعة. والخريطة السياسية التي كانت قد بدأت تتكوّن في دائرة السلطة بعد الانتخابات التونسية أو على هامش الانتخابات المصرية أو حتى الانتخابات الليبية ليست بعيدة عن التضاريس الاجتماعية للجماعات الأهلية. فالناس تنتخب من يقترب منها أو يشبهها وتتخوّف في الوقت الضائع من البدائل الإيديولوجية المقولبة أو الجاهزة في البرامج والدراسات والأبحاث. والتصويت عادة في مجتمعات تعطّلت فيها السياسة يذهب عموماً إلى القوى الميدانية التي تتحرك على الأرض ولا يتّجه نحو اختيار الفكرة الهابطة بالمظلات على الواقع. وصول شرائح متنوّعة من الإسلاميين إلى السلطة يمكن وضعه في إطار تاريخي - اجتماعي ينسجم مع المألوف لمعاش الناس ومستوى تطور الوعي السياسي في لحظة الخروج من حلقات العزلة (التعايش السّلبي) إلى دائرة الضوء (الحرية). والفوز بالانتخابات التشريعية بالتأكيد ليس نتاج المؤامرة، وهو أيضاً ليس نتيجة رغبة عواصم القرار في جرجرة القوى الإسلامية إلى التجرية وميدان الاختبار. الاحتمال الأخير ليس مستبعداً، لكنّه يمكن أن يأتي في أدنى درجات السلّم لأنّ القراءة العقلانية تتطلّب فعلاً إعادة دراسة شبكة العلاقات الأهلية وخريطة الطريق وتضاريس الاجتماع الذي يتدرّج إليه الواقع العربي في مرحلة ما قبل نشوء الدولة المدنية. هذه القراءة البديلة ترشد فعلاً إلى مكمن الأزمة، وهي ضعف الدولة وتلازم الضعف مع قوة مجتمع تفرّع إلى شجرة أهلية، استمدت حيويتها من عناصر مستعصية على الدّمج، ولا تقوى الأجهزة والاستطلاعات على معرفتها أو التعرّف إليها إلاّ بعد فوات الأوان.