تقدير موقف: انضمام المغرب إلى الاتحاد الإفريقي وفكرة طرد البوليساريو "مسارات جيوسياسية وتعقيدات قانونية"    الجمعية العامة للأمم المتحدة ال 79.. إجماع دولي على مخطط الحكم الذاتي بإعتباره المقترح الأكثر مصداقية والأوسع قبولا    المجلس الوطني لحزب الاستقلال سيكون مغلقا في وجه الصحافة وإجراءات صارمة للدخول لقاعة المجلس    عزيز غالي.. "بَلَحَة" المشهد الإعلامي المغربي    آسفي.. حرق أزيد من 8 أطنان من الشيرا ومواد مخدرة أخرى    الجيش الإسرائيلي ينذر سكان بلدات في جنوب لبنان بالإخلاء فورا ويقطع الطريق الدولية نحو سوريا    وزير خارجية إيران يصل إلى مطار بيروت    توقعات أحوال الطقس ليوم الجمعة    العدل الأوروبية تلغي اتفاقيات مع المغرب    معرض الفرس بالجديدة يواصل جذب الزوار.. و"التبوريدة" تلقى متابعة واسعة    جمارك عبدة تحرق أطنانا من المخدرات    بايتاس يُشيد بالتحكم في المديونية    محنة النازحين في عاصمة لبنان واحدة    هل تغيّر سياسة الاغتيالات الإسرائيلية من معادلة الصراع في الشرق الأوسط؟    مشفى القرب بدمنات يواجه أزمة حادة    طرائف وحوادث الإحصاء    "النملة الانتحارية".. آلية الدفاع الكيميائية في مواجهة خطر الأعداء    بايتاس: الحكومة تتابع عن كثب أوضاع الجالية المغربية المقيمة بلبنان    بذل عمل جديدة لعناصر الجمارك "توضح تراتبية القيادة" شبه العسكرية    فاتح شهر ربيع الآخر 1446 ه يوم السبت 5 أكتوبر 2024    غارات إسرائيلية عنيفة على ضاحية بيروت وتقارير إعلامية تتحدث عن استهداف هاشم صفي الدين    المياه المعدنية "عين أطلس" لا تحترم معايير الجودة المعمول بها    رسميا: فيفا يعلن عن موعد انطلاق مونديال كرة القدم سيدات تحت 17 في المغرب    الحسيمة.. عائلة من افراد الجالية تتعرض لحادثة سير خطيرة على طريق شقران    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    إسبانيا على وشك خسارة استضافة مونديال 2030 بعد تحذيرات الفيفا    "مجموعة العمل من أجل فلسطين": الحكومة لم تحترم الدستور بهروبها من عريضة "إسقاط التطبيع" ومسيرة الأحد تؤكد الموقف الشعبي    أسعار النفط العالمية ترتفع ب 5 في المائة    مومن: قائمة المنتخب المغربي منطقية        بايتاس: الحكومة تتابع عن كثب أوضاع الجالية المغربية المقيمة بلبنان    الركراكي: الانتظام في الأداء أهم المعايير للتواجد في لائحة المنتخب المغربي    فتح باب الترشيح لجائزة المغرب للكتاب 2024    الركراكي يساند النصيري ويكشف هوية قائد المنتخب        أعترف بأن هوايَ لبناني: الحديقة الخلفية للشهداء!    مهرجان سيدي عثمان السينمائي يكرم الممثل الشعبي إبراهيم خاي    قراصنة على اليابسة    مقاطع فيديو قديمة تورط جاستن بيبر مع "ديدي" المتهم باعتداءات جنسية    أخبار الساحة    استدعاء وزراء المالية والداخلية والتجهيز للبرلمان لمناقشة تأهيل المناطق المتضررة من الفيضانات    بسبب الحروب .. هل نشهد "سنة بيضاء" في تاريخ جوائز نوبل 2024؟    "جريمة سياسية" .. مطالب بمحاسبة ميراوي بعد ضياع سنة دراسية بكليات الطب    إطلاق مركز للعلاج الجيني في المملكة المتحدة برئاسة أستاذ من الناظور    مؤتمر علمي في طنجة يقارب دور المدن الذكية في تطوير المجتمعات الحضرية    الذكاء الاصطناعي والحركات السياسية .. قضايا حيوية بفعاليات موسم أصيلة        مندوبية طنجة تعلن عن منع صيد سمك بوسيف بمياه البحر الأبيض المتوسط    المغرب يشرع في فرض ضريبة "الكاربون" اعتبارا من 2025    مستقبل الصناعات الثقافية والإبداعية يشغل القطاعين العام والخاص بالمغرب    مغربي يقود مركزاً بريطانياً للعلاج الجيني    الرياضة .. ركيزة أساسية لعلاج الاكتئاب    الزاوية الكركرية تواصل مبادراتها الإنسانية تجاه سكان غزة    دراسة: التلوث الضوئي الليلي يزيد من مخاطر الإصابة بالزهايمر    القاضية مليكة العمري.. هل أخطأت عنوان العدالة..؟    "خزائن الأرض"    موسوعة تفكيك خطاب التطرف.. الإيسيسكو والرابطة المحمدية للعلماء تطلقان الجزئين الثاني والثالث    اَلْمُحَايِدُونَ..!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وجهة نظر: الثورة في فصلها الثاني.. الأنظمة الملكية: الهدف المقبل للربيع العربي؟
نشر في لكم يوم 01 - 01 - 2013

ليس "الربيع العربي" حدثا، بل هو مسلسل. وفي الدول التي مضت بعيدا في درب التحرر السياسي، يغدو السؤال الأساس هو كالآتي: هل يمكن أن تتمأسس الديمقراطية؟ ورغم أن الإنجازات المتحققة تظل هشة، والعلاقات بين المجتمعات والدول تحكمها المواجهة، فالجواب هو "نعم"، مع بعض الحذر. ففي بعض الدول المعنية، نلاحظ استحداث مؤسسات من المفروض أن تصبح ديمقراطية.
وتصبح الآفاق واعدة أكثر في إفريقيا الشمالية. وغير خاف أن مأسسة الديمقراطية تفترض انتظام الحياة السياسية حول ثلاثة أقطاب تشكل أسس دولة الحق والقانون، وهي الانتخابات والبرلمان والدستور. وكلما كانت هذه الأقطاب أمتن وأبقى، ظلت الحكومات عموما بمأمن من الجماعات الراديكالية والقوى الرجعية وغاب شبح النكوص إلى أشكال الحكم السلطوية. وتتطلب الديمقراطيات التي تجعل من احترام القانون ونزاهة الانتخابات قيمتين ساميتين تناوب الأحزاب المتنافسة على الحكم.
وفي تونس وليبيا ومصر، يشق مسلسل المأسسسة طريقه، وإن اعترضته صعوبات هنا وهناك . وفي هذه البلدان الثلاثة، نظمت انتخابات تشريعية في ظل تنافس وتعدد ما كان بالإمكان تصورهما في عهد النظام السابق. وفي تونس، تنكب الجمعية التأسيسية المنبثقة عن الانتخابات على صياغة الدستور. وتكتسي الأزمة في هذا البلد بعدين اثنين: موقف السلبية المتواصل تجاه أعمال العنف على يد السلفيين، والتي توقفت بعد الهجوم على السفارة الأمريكية؛ والتأخر الحاصل في إنجاز الإصلاحات الاقتصادية، وخاصة في المناطق الأكثر تضررا من الأزمة. ورغم التوترات الخطيرة أحيانا، والصراعات المحتدمة بين أطراف سياسية مختلفة المصالح، فلا أحد، ما عدا شرذمة قليلة، يضع موضع سؤال قواعد اللعبة الديمقراطية.
ويختلف الأمر في ليبيا حيث يعاني النظام السياسي الذي أعقب انهيار نظام معمر القذافي الأمرَّين لفرض سلطته أمام قوة الجماعات المسلحة . وشهدت الانتخابات الرئاسية بمصر فوز مرشح الإخوان المسلمين محمد مرسي. وكان أول عمل قام به رئيس الدولة الجديد منذ تسلمه منصبه تثبيت السلطة المدنية على الجيش عن طريق إقالة المارشال محمد حسين طنطاوي. وتمثل هذه الخطوة الأولى نحو إعادة رسم العلاقة بين المدنيين والعسكريين قطيعة مع تاريخ طويل من هيمنة العسكر على الدولة بمصر.
ويمكن القول إن معظم الفاعلين السياسيين، ما عدا بعض الجماعات الراديكالية كالسلفيين، أو فئات ممن يشدهم الحنين إلى شكل الحكم الفردي السلطوي السابق، تكيفوا مع المعطيات الجديدة وأصبحوا يتحركون وفقها. وهذا لا يعني أن الديمقراطيات المنخرطة في مسلسل المأسسة ستصبح بالضرورة ليبرالية. فديمقراطيات "الربيع العربي" لم تعانق الثورة لتجعل مجتمعاتها مطابقة لرؤى الغرب التي تقتضي في السياق العربي المساواة بين الجنسين ورفع الرقابة عن المنتجات "غير الأخلاقية" كالخلاعة وحرية التعبير والتجديف. والليبرالية السياسية، كمذهب سياسي يقدس الحريات الفردية، لا يمكن أن تنشأ إلا في مرحلة لاحقة من ترسيخ الديمقراطية. ومن المستبعد أن تؤدي المرحلة الحالية، بما يطبعها من مواجهة بين العلمانيين والأصوليين الدينيين، إلى خلق إطار معياري "على الطريقة الغربية"، بل ولا حتى إلى توافق حول القيم.
وفي هذه البلدان التي تعيش حالة انتقال، لا تعطى الأولوية إلى الصراع الإيديولوجي، ولكن لبقاء المؤسسات واستمراريتها. ولا يقتضي التطبيع الديمقراطي انخراط كل مواطن وكل حزب في نفس الإطار الإيديولوجي، ولكنه يفترض بالأحرى أن تصبح القوانين والمساطر الديمقراطية القواعد النهائية للعبة. وحتى الإسلاميون أصبحوا يدركون أن الفوز في الانتخابات لا يقوم فقط على الشعارات. وعليهم على غرار أي حكومة منتخبة ديمقراطيا أن يلبوا انتظارات ناخبيهم عن طريق خيارات سياسية، وليس بالوعود الجوفاء المبشرة بالسعادة أو بالتصلب العقدي.
وكم كانت صدمة الطبقة السياسية ووسائل الإعلام في الغرب كبيرة وهم يرون أحزابا سياسية كالنهضة بتونس أو الإخوان المسلمين بمصر تفوز في انتخابات جاءت بها ثورة لم تشارك فيها إلا قليلا. ومع ذلك، هناك عدة عوامل من شأنها أن تبدد بعض الخوف من أسلمة شاملة للمجتمع.
ففي المقام الأول، ينسى المراقبون الغربيون أغلب الأحيان أن الإسلاميين لا يملكون أي احتكار رمزي لتأويل النصوص المقدسة في الفضاء العمومي. وفي مصر، هناك مؤسسات تاريخية كالأزهر، إلى جانب حركات دينية مثل الصوفية، تمتلك تصورا خاصا عن الأسس التي تقوم عليها العلاقة بين الدين والسياسة، يختلف تماما عن التصور السائد لدى الإسلاميين. بل وحتى داخل الحركة الإسلامية الشاسعة الأطراف التي تشكل منظومة الإسلام السياسي، تنشأ خلافات عنيفة أحيانا بين مختلف التيارات الفكرية، حول قضايا اجتماعية وسياسية كبرى، كما هو الشأن مثلا بين الإخوان المسلمين وسلفيي حزب النور. ويمكن القول إن حرية التأويل الممنوحة لكل مؤمن تشكل أحسن عقبة تكبح جماح طموحات كل من يسعون إلى بسط سيطرتهم على الإسلام خدمة لمصلحتهم السياسية الخاصة.
وفي المقام الثاني، فإن النزعة الإسلامية وإن كانت تجمع معا أعمالا اجتماعية خيرية وجماعات جهادية مقاتلة، فإن أقوى تياراتها وأكثرها نفوذا سياسيا، وهو تيار الإخوان المسلمين، لا يمتلك بتاتا أي سمة تجعل منه طليعة ثورية. فالإخوان المسلمون أحجموا مثلا عن دعم النداء الصادر سنة 1979 عن إيران للقيام بثورة إسلامية تطيح بالديكتاتوريات العلمانية. وهم أيضا أصموا آذانهم ولم يستمعوا إلى النداء الذي أطلقه أسامة ابن لادن في التسعينات.
وفي المقام الثالث، فإن الإسلاميين وإن حققوا انتصارات كاسحة، فإنهم مع ذلك لم يحصلوا على ترخيص لإطلاق يدهم دون رقيب أو حسيب. مما يعني أن النزعة الإسلامية لا يمكن أن تعتبر التعبير الوحيد عن الجماهير العربية. صحيح أن الإخوان المسلمين، وبدرجة أقل السلفيين، فازوا فوزا ساحقا في أولى الانتخابات ما بعد مبارك، المنظمة في دجنبر 2011، وانتزعوا ثلاثة أخماس مقاعد البرلمان، ولكن شعبيتهم ما انفكت منذئذ عن التراجع، كما يدل على ذلك الفوز الصغير لمحمد مرسي بنسبة 51 في المائة، في مواجهة محمد شفيق أحد رجالات النظام السابق المطاح به.
والشيء نفسه يصدق على النهضة بتونس التي تتحكم في 40 في المائة من مقاعد الجمعية التأسيسية، بأغلبية واضحة ولكنها تظل نسبية، مما يفرض عليها التحالف مع تشكيلات علمانية وتقدمية. وفي ليبيا، كاد حزب العدالة والبناء، النسخة المحلية من الإخوان المسلمين، أن يمنى بالهزيمة بعد أن حصل فقط على 10 في المائة من الأصوات في الانتخابات التشريعية في يونيو 2012.
وأخيرا، رغم أن الإسلاميين كانوا في البداية يستشعرون نفورا كبيرا من الانخراط في اللعبة السياسية، فمن المرجح أنهم لن يغادروها إلا وقد تغيروا. وفي مصر، يظل السؤال مطروحا حول الكيفية التي سيندمج بها الإخوان المسلمون والسلفيون أبناء عمومتهم الألداء في المسلسل الديمقراطي على المدى البعيد. مهما يكن، فإنهم لن يتمكنوا فيما يبدو من الاستيلاء على السلطة بالقوة، فالإخوان المسلمون يشكلون حركة اجتماعية محكمة التنظيم، ولكنهم يفتقرون إلى الوسائل والقوة التي تمكنهم من فرض توجهاتهم.
وتبين مظاهرات الغضب التي جاءت كرد فعل على فيلم أميركي معاد للإسلام درجة التطبيع المتنامي للفاعلين الإسلاميين. فهذا الحدث قد أجبر التشكيلات الأصولية الكبرى على أن تأخذ مسافة واضحة تميزها عن الجماعات الأكثر راديكالية. ولا ننس أيضا أن العديد من الزعماء الإسلاميين اعترضوا على الفيلم مستندين إلى حجج مستقاة من القانون العام مثل القذف، ولم يحيلوا على تعليمات الشريعة القرآنية، أي الحدود، ضد التجديف والنيل من الرموز الدينية. والملاحظ أنه كلما تراجعت المطالبة بتطبيق الشريعة كنظام قانوني، ازداد التشبث بالإيمان والسعي إلى التشبع به. ومن المعلوم أن الهدف الأساس لأغلب الأصوليين يتمثل في ترسيخ أسس الإسلام في المجتمعات الإسلامية طبقا لمبادئ الشريعة. وتبعا لذلك، فالإخوان المسلمون ليسوا بالتأكيد منظمة ليبرالية. وهذا ما يفسر تخوف الأوساط العلمانية من إقامة نظام حكم ديني. ومع ذلك، يجب ألا ننسى أن أقوى التيارات الإسلامية، متمثلا في الإخوان المسلمين، من مصلحته أن يتبنى المعايير الديمقراطية بشكل يحافظ في الآن نفسه على أهمية الهوية الدينية، والقواعد المؤسساتية للتنافس الانتخابي، فذاك هو السبيل الوحيد الذي يجعله يجني الكثير من المكاسب التي حققها من دوره السياسي في المرحلة الانتقالية الجارية.
بعبارة أخرى، ليس من الضروري الانصياع للإيديولوجية الليبرالية الغربية لتحقيق الديمقراطية. وكل من إسبانيا والبرتغال لم تكونا تتوفران على مثل هذا الإطار الفكري وهما تنخرطان في عملية الدمقرطة في السبعينات. وأمريكا اللاتينية أيضا وهي تخضع في الثمانينات لما سماه سامويل هنتنغتون "الموجة الثالثة من الدمقرطة" . فمنطق الديمقراطية يتمثل في القبول بالاختلافات التي تميز هذه الأطراف عن تلك، داخل إطار دستوري قائم على التعدد وضرورة الخضوع للمحاسبة، وإلا كان البديل هو الاضطرابات والصراع والطريق المسدود.
وما إن يبلغ المخاض الديمقراطي نقطة اللاعودة الحاسمة حيث تتكيف أغلب التشكيلات مع مبدأ الانتخابات والمشاركة، يمكن حينها للمواطنين والقادة أن ينخرطوا في نقاش حول تحول المجتمع في اتجاه ليبرالي بهذه الدرجة أو تلك. يعني هذا بوضوح أن بلدانا مثل ليبيا وتونس ومصر ليست بحاجة كي تقود مسلسلها الديمقراطي إلى بر الأمان أن تتشرب العلمانية كما يحلو للغربيين أن يرددوا. ففي البلدان الغربية نفسها لم تسبق العلمانية الديمقراطية.
وفي تونس ومصر وليبا، كان الشباب المحتجون، وأغلبهم من سكان المدن، ومن الطبقات المتوسطة العلمانية عن اقتناع-بمعنى أنها لا تنتمي إلى جماعات إسلامية- يتصدرون الصفوف الأولى من الثورة، وهم الآن مهمشون في هذه البلدان، بما يستتبع ذلك من تهميش أيضا لتصورهم للمستقبل، ضمن رؤية أكثر علمانية وديمقراطية. ومرد ذلك أنهم عجزوا عن خلق جبهة سياسية موحدة ومنسجمة، في الوقت الذي انهارت فيه الأنظمة السلطوية التي كانوا يحاربونها. وبينما أفلح الإسلاميون في استغلال الفراغ بتعبئة أتباعهم، وحققوا نجاحات انتخابية متفاوتة، رفض الشباب الانخراط في معمعان السياسة المؤسساتية.
وقد نجمت عن هذا الموقف الرافض عواقب وخيمة، فالشباب حرموا أنفسهم من أي سلطة وأي تمثيل في المؤسسات الديمقراطية الجديدة كالبرلمان والمجالس الشعبية، وفضلوا الشارع كفضاء للتعبير السياسي، مركزين على الاحتجاج المباشر والعفوي، مديرين الظهر لسبل أقل حماسا وأكثر تنظيما.
والواقع أن سياسة الشارع تحدث أثرين، فهي تسمح من جهة أولى للمواطن بأن يمارس حقه في مراقبة الدولة، ولنتذكر أن ثورة 25 يناير المصرية مثلا ما كانت لتقع لولا أن طلبة وعمالا وأفرادا من الطبقة الوسطى اكتسحوا ساحات المدن في تحد للنظام المركزي، مطالبين بحقوقهم. ومن جهة ثانية، فإن ضجيج الاحتجاج المتواصل الذي يرفض شرعية النظام، لا يمكن أن يعوض الصخب المؤسساتي المصاحب للانتخابات والحملات السياسية. والحال أن الديمقراطية لا يمكن أن تنشأ إلا إذا قبل أغلب مواطنيها قواعدها المشتركة.
وعلى هؤلاء الشباب إن أرادوا مواصلة إسهامهم في "الربيع العربي" أن يكيفوا مصالحهم مع المؤسسات الناشئة. وقد حان الوقت بالنسبة إليهم كي يستثمروا طاقتهم وفكرهم في السياسة الرسمية، ومكانها البرلمانات والانتخابات. وقد يصبحون مساعدين على خلق مشهد سياسي جديد يشجع على التعبير عن النزعة الدينية المحافظة، والتيارات القومية، والمطالب العلمانية، والقيم الوسطية والتقدمية التي تشكل الخريطة الإيديولوجية الكبرى في المجتمعات العربية.والحال أن احتجاجات الشارع إذا خرجت عن السيطرة أدت إلى فشل أفضل السياسات. وإذا لم تجد المصالح الشعبية التي يدافع عنها الشباب داخل النظام قنوات مؤسساتية لتصريفها، فليس من المستبعد أن تعمد أقلية محكمة التنظيم إلى الاستيلاء على السلطة وإحياء ممارسات الماضي السلطوية.
ولا نعدم نماذج عن ذلك في "الموجة الثالثة من الدمقرطة"، فالديكتاتوريون لا يجدون عناء كبيرا في العثور على وسائل لتحريف المؤسسات الجديدة عن مسارها. وأكبر ما يتهدد العالم العربي ليس العودة إلى الديكتاتوريات الدموية البئيسة، ولكن بالأحرى ظهور أنظمة سلطوية جديدة قائمة على تحالفات أوليغارشية أو على انحرافات شعبوية تتلاعب بوسائل الديمقراطية.
وعلى غرار كل التحولات التاريخية الكبرى، خلف "الربيع العربي" منتصرين ومنهزمين. ولا شك أن النخب المثقفة تنتمي إلى الفئة الثانية، إلى جانب حركات الشباب. والحال أن هذه النخب كررت أخطاء أجيال المثقفين السابقة، إذ لم تفلح في ربط الإيديولوجيات التي تعلمتها في الجامعة بهموم السكان الملموسة.
ومنذ ظهور القومية العربية في العشرينات والثلاثينات، اتخذت أجيال من النخب المتعلمة مواقف تقدمية جعلت الصحافة توليها اهتماما خاصا، وأكسبتها مكانة خاصة في صفوف الطبقات المتوسطة. وكان الرفض المبدئي للتهديدات الخارجية من صهيونية وإمبريالية ورأسمالية واستعمار يتكامل لديها مع مطالب أكثر إيجابية من وحدة قومية عربية وعدالة اجتماعية ومساواة مع الغرب. ومع أن المثقفين العرب كانوا أكثر تقدمية من المجتمعات التي ينتمون إليها، فإنهم ظلوا مقيدي الأيدي عاجزين عن الفعل بسبب عجزهم عن إسماع صوتهم في أوساط الشعب والأحزاب السياسية.
وهناك سبب آخر يفسر التهميش الذي لحق بهم، ويتمثل في الخطاب الذي يعتمدونه، وهو خطاب منفصل كل الانفصال عن الواقع الحي، ولا أثر فيه لأي تطلع أو رغبة في حدوث الثورة في البلاد العربية. هكذا لم يعد لخطبهم النارية المكرورة ضد الصهيونية والإمبريالية الأمريكية اللذيْن يعدونهم مسؤولين عن كل الأعطاب التي يعاني منها المغرب العربي والشرق الأوسط أي دلالة، مع تأجج الرغبة لدى الشعوب العربية لوضع حد لاستبداد قادتها وفسادهم. ولم يتورع بعض المثقفين، أمام فشل تحليلاتهم للواقع، عن القول إن "الربيع العربي" نتيجة مؤامرة إسرائيلية غربية. ومع انهيار حزب البعث بالعراق، وفي سوريا قريبا أغلب الظن، ستنمحي من الوجود آخر آثار النزعة القومية الداعية إلى الوحدة العربية.
ويعزى انعدام شعبية حركات الشباب والنخب المثقفة إلى سبب آخر يتمثل في معارضتهم القطعية لكل أشكال الإسلامية، مما جعلهم يتقوقعون في نوع من الأصولية العلمانية يرفضون معها الإقرار أن حتى أكثر الإسلاميين اعتدالا يمكن أن يلعب ولو دورا بسيطا في الدولة.
وتضم الفئة الثالثة من المنهزمين الملكيات العربية. قد تثير هذه الفكرة استغراب الكثيرين في الوهلة الأولى، على اعتبار أن "الربيع العربي" لم يطح بأي رأس متوجة. وهناك تحليل لهذه الظاهرة يبدو أنه محل إجماع بأوروبا، ومفاده وجود عاملين يفسران هذه المقاومة: من جهة أولى، تمتع هذه الملكيات الحاكمة بشرعية ممتدة بجذورها في التربة الثقافية العربية، مما يجعل الشعوب تقف بجانب ملوكها وأمرائها تعبيرا عن تشبثها بتاريخ مجيد كتبت صفحاته قبل أو خلال معارك الاستقلال. ومن جهة ثانية، قدرة هذه الأنظمة شبه الشمولية على التكيف مع وضعيات الأزمة بما تتوفر عليه من وسائل مؤسساتية تتميز بمرونة شديدة قصد التلاعب على هواها بالرأي العام، بعيدا عن آليات القمع.
ليس هذا التفسير خاطئا في مجمله، ولكنه يغفل كون الملكيات العربية دخلت الآن مرحلة ضعف، فقاعدتها لم تعد بالمتانة التي كانت عليها قبل عشر سنوات. ففي البحرين مثلا، لم يتم القضاء على انتفاضة شريحة واسعة من السكان إلا بعد تدخل دموي منسق للجيش الوطني والقوات التي أرسلها مجلس التعاون الخليجي.
والمغرب أيضا عرف مظاهرات ضخمة. صحيح أن الآفاق الواعدة الناتجة عن مراجعة الدستور خففت حدة التوتر والغضب الشعبي، ولكن غياب إصلاحات عميقة يثير تخوفات من مستقبل مضطرب. وقد يخسر إسلاميو حزب العدالة والتنمية الكثير من مصداقيتهم على غرار باقي الطبقة السياسية، بعد أن قبلوا تشكيل الحكومة دون تنازل حقيقي من قبل الملك محمد السادس. أضف إلى ذلك تراجع حدة القطيعة بين سكان المدن والبوادي، حيث عم الشعور بالنقمة والمطالبة بالعدالة الاجتماعية بشكل تجاوز الانقسامات السابقة بين الطبقات والمناطق.
وفي المملكة العربية السعودية أيضا يجثم النظام الملكي بثقله على المجتمع. فهو يستعمل ثرواته الضخمة التي هي من حسنات موقعه الجيولوجي، للوقوف في وجه كل شكل من أشكال المعارضة، موظفا برامج تنموية مكنته من إرجاء الإصلاحات الهيكلية الضرورية. وفي إمارة الكويت الجارة التي تتوفر منذ مدة طويلة على تجربة برلمانية محتشمة، نشهد تراجع هذا المسلسل. والمظاهرات ضد الفساد والسلطات الحاكمة رجَّت سلطة آل الصباح، كما أن انتخابات دجنبر 2012 قاطعتها المعارضة. وبلغ الصراع بين الأسرة الملكية الحاكمة والمعارضة أوجه ليصطدم بخيار جوهري: إما أن يقبل الأمير تعيين وزير أول من خارج الأسرة الملكية، أو أن يحل البرلمان ويوقع على العودة إلى السلطوية التي قد تكلفه غاليا. وفي الأردن، تئن الملكية تحت وطأة ديناميتين متكاملتين، فالإسلاميون يرغبون في بقاء الملك، لأنهم يخشون أن تجعل إسرائيل من انهيار الملكية الهاشمية تعلة لتعلن الضفة الغربية من الأردن وطنا طبيعيا لكل الفلسطينيين، وبالتالي تبرر الإلحاق التام للضفة الغربية، ولكنهم يطالبون بملكية برلمانية وبمزيد من الحريات السياسية. وتواجه الأسرة الهاشمية غضبا متناميا مصدره قاعدتها البدوية، ووقوده ارتفاع نسبة البطالة وقضايا الفساد.
حان الوقت إذن بالنسبة إلى الملكيات العربية أن تتحرك وتضاعف الجهود كي تتنصل من هذه الشبكات المتداخلة من المصالح، هي التي أبدعت في تمتين علاقاتها بمجموعة من الفئات الاجتماعية والسياسية، من رجال أعمال وفلاحين وتجار وقبائل وعلماء، وكلهم يقدمون لها الدعم مقابل الحصول على الامتيازات والحماية. ومن المؤكد أن إنجاز إصلاحات كبرى تؤدي إلى استبدال النظام الشمولي بنظام برلماني لن يضر فقط بالأسر الملكية الحاكمة، ولكن أيضا بمواليها الأتباع. إضافة إلى ذلك، فالناظر في تاريخ المنطقة، سواء في مرحلة ما بعد الاستعمار أو ما بعد الحرب الباردة لن يفوته ملاحظة أن الملكيات غير مستعدة كثيرا لتحويل سلطتها التنفيذية إلى سلطة معنوية. ومن دون ضغوط قوية، ليس من مصلحة الملوك في شيء أن يبادروا إلى القيام بإصلاحات جادة. والملكيات العربية تجازف بتضييع فرصة ذهبية، هي التي طالما امتدُحت بفضل اعتدالها وقدرتها على التكيف. وهي تتمنع عن إعطاء الانطلاقة للانتقال الديمقراطي، بينما نزعة المحافظة على البقاء تفرض عليها بالأحرى أن توظف كل الوسائل الممكنة لتوحيد مجتمعاتها في مواجهة الأزمة، درءا لمستقبل تطبعه الصراعات وعدم الاستقرار.
وقد كشف البعد الجيوسياسي"للربيع العربي" أمام العيان مفارقة غريبة. ولنتذكر كيف بدأت الأمور: ظهر الاحتجاج في مستوى محلي، قبل أن يدوي صداه في المستوى الوطني كدعوة إلى إحلال العدالة، والكرامة، ومقاومة وحشية النظام السياسي. وما هي إلا بضعة أشهر حتى تحول "الربيع العربي" إلى موجة اجتاحت المنطقة، وجرفت عبر الحدود متنا مشتركا من المطالب والقيم. وهذا الانتشار يتجاوز "أثر الجزيرة" الذي طالما أحال عليه الكثيرون، لأنه لا يعمل فقط على نقل ونشر أشكال جديدة من التواصل، ولكنه يأتي أساسا بتصور جديد كل الجدة للنضال السياسي. وقد وجد ضالته في الشبكات الاجتماعية ووسائل الإعلام التقليدية التي عملت على تعميمه، واستقى وقوده من فكرة الوحدة القومية العربية، وإن رفض التسربل بأي معطف إيديولوجي، لينصب كل جهده على توحيد أصوات الحرمان المنددة بالاستبداد، والمنادية بما أوتيت من قوة بحق المواطنة.
يمر هذا الزخم اليوم بمرحلته الثالثة، مرحلة مأسسته. ولم يعد "الربيع العربي" فقط مطلبا وطنيا ودوليا، بل إنه خلق فضاء مواجهة عالمية. وتعد انتفاضة البحرين في ربيع 2011 فاتحة هذا المسلسل، فباسم الطبيعة الدينية المذهبية لمعارضة يقودها الشيعة، وطدت الأسرة الملكية السنية تحالفها مع جيرانها من نفس المذهب السني، ومع القوى الغربية، داخل جبهة استراتيجية تقودها المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، فضلا عن الأيادي الخفية لإسرائيل. هكذا تمت شيطنة الحركات الشعبية المنخرطة في مواجهة ملك البحرين، ووصفت بكونها من أذيال الكتلة الشيعية "الراديكالية" كما تجسدها إيران وسوريا وحزب الله. وقد عملت الحرب الأهلية السورية على تسريع وتيرة هذا المسلسل، ولكن ضمن دينامية معكوسة. وفي هذه الحالة، فالمعارضة الشعبية هي التي تحالفت مع المعسكر "المعتدل" للقوى السنية ولحلفائها الغربيين، بينما عزز النظام الاستبدادي الفردي لبشار الأسد تحالفه مع الكتلة الشيعية.
أثر هذا البعدان المذهبي والجيوسيتسي أحدهما في الآخر. ورأينا كيف أن المملكة العربية السعودية وتركيا والولايات المتحدة الأمريكية باتت تشترك في نفس الهدف متمثلا في الحد من نفوذ إيران وسوريا وحزب الله. وهذه المواجهة حولت ما كان انقساما مذهبيا خافتا إلى حرب مفتوحة قد تنجم عنها عواقب مدوية. وفي خضم ذلك، اعتمدت التوصيفات منطقا مانويا سرعان ما اتخذ شكل حقائق لا يأتيها الباطل لا من بين يديها ولا من خلفها، لتصبح الدول السنية من منظور وسائل الإعلام الغربية، جنات آمنة ترفل في حلل الاعتدال والاستقرار، بينما يبدو الشيعيون في صورة مثيري القلاقل والفتن. وبالموازاة مع ذلك، يوظف هذا الصراع كتعلة تتذرع بها بعض الحكومات كي تبقي الأمور على ما هي عليه من جمود، بدعوى مواجهة التهديدات الخارجية. ولا شك ان انهيار النظام السوري سيخلخل معطيات القطيعة بين السنة والشيعة، عاملا على التخفيف من حدتها أو موجها لها نحو مسرح آخر للأحداث.
ولا بد أن يعود "الربيع العربي" من حيث انطلق، أي إلى البلدان التي هي في طور الانتقال، بعد أن تطاير رذاذه ليصيب الساحة العالمية. وقد حاولت إيران وسوريا وحزب الله استقطاب القادة الجدد بتونس ومصر وليبيا، بينما حاول التحالف السني المساند للغرب أن يحقق نفس الهدف. ولم يكن لهذه الضغوطات المتدافعة من أثر سوى أنها دفعت بتونس وطرابلس والقاهرة إلى اعتماد سياسة خارجية محايدة كل الحياد وتسريع وتيرة المأسسة داخل حدودها، وعيا منها أن الأولوية يجب أن تعطى للاستقرار الداخلي، قصد إبعاد شبح الاضطرابات التي تعصف بالمنطقة. وفي غشت الماضي، اختار محمد مرسي المشاركة في مؤتمر قمة دول عدم الانحياز المنعقد بطهران، العاصمة الحليفة لدمشق. ولكنه انحاز للمعارضة السورية، مبرزا من جديد انخراطه في لعبة التوازنات. ونفس الأمر طالعنا في أزمة قطاع غزة، في أكتوبر الماضي، حيث لم يتردد في الاعتماد على جهاز مخابرات بلده، مع أن هذا الجهاز هو الذي كان يخضع، قبل بضعة أشهر، الإخوان المسلمين للقمع والتنكيل.
وتحاول الأنظمة الجديدة بتونس ومصر وليبيا وضع سياسة تقوم على التروي، وتتراوح بين المرونة والبراغماتية، مستهدفة اطراح الصراعات المذهبية والتأويلات الضيقة للدين والانحياز الجيوسياسي. وفي سعي هذه الأنظمة أولا وقبل أي شيء آخر إلى تعزيز استقرارها الداخلي، فإنها تعتبر طرفي الاقتتال في الحرب الدموية السورية عائقا أمام بناء نظام ديمقراطي جديد.
وهذه المفارقة ومفادها أن صراعا دوليا يساهم في استقرار المسلسل الديمقراطي في المستوى الوطني تفتح صفحة جديدة في التاريخ الحديث للشرق الأوسط. وقبل فترة ليست بالبعيدة، كانت هناك مواجهة هيكلية بين الغرب وحلفائه العرب من جهة وتكتلات إيديولوجية تعتبر انقلابية ومدمرة، من قبيل الخطر الشيوعي الذي مثله التحالف بين بريجنيف وعبد الناصر، أو الثورة الإسلامية بقيادة آية الله الخميني، وأيضا "محور الشر" مجسدا في ابن لادن. بيد أن إعادة تشكل التحالفات الجاري حاليا في المنطقة، قد نستشرف معه بروز مواقف أقل حدة وأكثر مرونة. ولن يجازف أي مراقب، حتى و"الربيع العربي" في أوج عنفوانه، بتصنيف هذا المسلسل تحت يافطة إيديولوجية معينة، أو نسبته إلى إمبراطورية ما، أو قوة عظمى، أو تنظيم راديكالي. فهذه الحركة لم تنطلق سوى بوحي من طاقتها نفسها، قبل أن تعلق في شباك الجيوسياسة.
وستعود الكلمة الأخيرة في المستقبل للصدام المذهبي، فالصراع بين الشيعة والسنة الذي تؤججه القوى الخارجية وتوجهه لخدمة مصالحها قد يعمل على مضاعفة التصدعات، وتلبيد سماء "الربيع العربي" بالسحب الداكنة لفترات طويلة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.