من الواضح أنه يمكن تقسيم حياة جميع الديكتاتوريين إلى قسمين: الفترة التي يتولون فيه مقاليد السلطة، والفترة التي يفقدون فيها السلطة. واستطاع غارسيا ماركيز أن يقدم وصفا للعالم الداخلي للديكتاتوريين بشكل أفضل من غيره، عندما وصف روح الديكتاتوريين. وفي روايته الرائعة: خريف البطريرك، يشرح ماركيز آراءه عن الديكتاتوريين، ويعد كتابه بمثابة قصيدة مميزة عن الانفراد بالسلطة. وحينما نتحدث عن الاستبداد والديكتاتوريين، سينصب الجزء الأساسي من مناقشتنا حول مفهوم السلطة. فالسلطة تسري كالدماء في عروق الديكتاتوريين. وقلوبهم تعمل وتدق بفعل هذه السلطة. يتبنى ماركيز نظرية تنم عن عمق شديد في التفكير في هذه الرواية. ويؤمن بأن هناك علاقة وثيقة بين أي ديكتاتور وبين أتباعه والموالين له. وحينما يستحوذ أي ديكتاتور على السلطة بأكملها، سيفقد علاقته بالواقع. ويشير هذا إلى فترة مميزة من فترات حياته؛ ومن هذه الفترة فصاعدا، لا يمكن لأي أحد أن يقول أي شيء ضده. فكل شخص يجب أن يطيعه. وقد ذكر أنه في إحدى المرات تحدث أحد الصحافيين إلى حافظ الأسد قائلا: «لقد سمعت أن المحيطين بك يقولون لك نعم دائما». فعاجله الأسد بسرعة بالرد قائلا: «لا ليس هذا صحيحا، فعندما أقول لا، يقولون جميعا لا!». لقد ألف ماركيز هذه الرواية اعتمادا على حياة ثلاثة ديكتاتوريين: جوستافو روخاس بينيلا من كولومبيا، والجنرال فرانكو من إسبانيا، وخوان كوميز في فنزويلا. غير أن الرواية تبدو وكأنها بطاقة هوية لجميع الديكتاتوريين. على سبيل المثال، عندما قال عمر توريخوس - القائد الفعلي لبنما - إن هذه الرواية هي أفضل الروايات التي قرأها في حياته على الإطلاق، سأله ماركيز: لماذا؟ فهمس عمر في أذن ماركيز قائلا: لأننا جميعا على نفس الشاكلة! في هذه الأيام، يفكر الجميع في مستقبل القذافي. كيف يمضي أيامه ولياليه؟ كيف ينظر للعالم؟ وفي الفصل الأخير من القصة، وصف ماركيز كيف ينظر الديكتاتور إلى أوراق الخريف المتساقطة أسفل قدميه. فهو يستمع إلى وقع أقدامه على تلك الأوراق، معتقدا أن ربيع الحياة قد زال الآن وحل الخريف. على النقيض، ينظر القذافي إلى أوراق الشجر الجديدة والأزهار المتفتحة نظرة مختلفة فهي الربيع؛ ربيع الجيل الجديد في ليبيا. هل سيغير تفكيره؟ هل يعتقد أن الحياة لها وجه آخر أيضا؟ للقذافي فريق عمل خاص يصمم ويصنع له ملابسه المميزة؛ عباءة شديدة التميز بجميع الألوان: الأخضر والبني والأحمر الداكن والأرجواني. وهناك تباين بين ألوان عباءته وألوان غطاء رأسه. إنه يبدو أشبه بموديل. فهو يرغب في الظهور بصورة الشخص المميز. فهو ملك ملوك أفريقيا. وتبدو ثيابه أشبه بسماء شديدة الظلمة وملبدة بالغيوم، مما منعه من رؤية الحقيقة. هذا هو الفصل الأخير في حياته؛ فقد تمزقت العلاقة بينه وبين الحقيقة؛ فأحلامه ورغباته تنصب على تفتيش منازل جميع الليبيين للبحث عمن هو ضده. لكنه في حقيقة الأمر يفقد سيطرته على المدن الليبية، واحدة تلو الأخرى. ويوضح هذا المواجهة الغريبة بين الأحلام والحقيقة. والأشبه بالتناقض بين الربيع والخريف، بين أوراق الشجر الخضراء وأوراق الشجر الصفراء، والتي ستذهب مع أول رياح قوية تهب. في عام 1996، أمر القذافي بقتل 1200 سجين سياسي في سجن أبو سليم. ويعد هذا أول مثال على كيفية نجاح القذافي في تولي مقاليد الحكم. وفي وقتنا الحاضر، خرج إلى الشوارع أطفال الضحايا الذين كانوا محتجزين وتم قتلهم على يد قوات القذافي، للثورة ضد نظام القذافي. ومجددا، عادت أفعال القذافي تطارده مرة أخرى. لذلك، سيجد نفسه وحيدا. وفي ديسمبر (كانون الأول) 1989، أتى نيكولاي تشاوشيسكو لزيارة إيران. وفي 21 ديسمبر، عقد اجتماعا ضخما في طريق يعرف الآن باسم ميدان الثورة. ومرة أخرى، عاد تشاوشيسكو لإيران مجددا. ويروي الرئيس الإيراني رافسنجاني أنه عرض على تشاوشيسكو البقاء في إيران لبضعة أيام أخرى. وعلى الرغم من ذلك، استجاب، لا توجد مشكلة، فجميع الأفراد الذين قد احتشدوا في الميدان هم أنصاري. وذكر أنهم أحبوه، لذلك، عاد مجددا إلى رومانيا. غير أن الأمور لم تسر على النحو الذي تخيله. فتظل صورة التعبير الذي ارتسم على وجه تشاوشيسكو الدال على عدم فهمه عندما بدأت حشود الشعب في الاحتجاج ضده وتحديه، إحدى اللحظات المميزة لانهيار الشيوعية في أوروبا الشرقية. وخلال فترة الثورة، نشرت الصحف الغربية تقديرات لأعداد من قتلوا على يد الشرطة جراء محاولتهم دعم تشاوشيسكو وقمع الثورة. وسرعان ما ازدادت أعدادهم بسرعة ليصل إلى 64.000 ضحية. وفي يوم الاحتفال بأعياد الكريسماس، 25 ديسمبر، حكم على الاثنين بالإعدام من قبل محكمة عسكرية بسبب تهم تتنوع ما بين جمع الثروات بشكل غير مشروع إلى الإبادة الجماعية، وتم إعدامه هو وزوجته في تارجوفيست. ويوجد فيلم يعرض تنفيذ حكم إعدام تشاوشيسكو وزوجته على موقع «يوتيوب»، ويظهرهما وهما يرتعشان ويبكيان، فلم يكونا يتخيلان أن يمرا بمثل تلك اللحظات المرعبة في حياتهما. كان هذا هو الوجه الآخر لحياة الديكتاتوريين. ويمكننا دائمًا أن نرى كيف يتطور الجانب العقلي والروحي لدى الحكام الديكتاتوريين المستبدين. وكالأشخاص السكارى، يعجز الديكتاتوريون عن إدراك الحقيقة. فلا يمكنهم أن يشعروا أو يفهموا المسافة بين أنفسهم وبين الحائط المنصوب أمامهم. ونتيجة لذلك، أحيانا ما يصطدمون بهذا الحائط! يعيش الديكتاتوريون في عالمهم الخاص. وهم يعجزون عن رؤية الأعلام الحمراء وتفسير الإشارات. وبعدها، عندما يواجهون الحقيقة في نهاية الأمر، يكون قد فات الأوان. وتعتبر قصة فرعون مثالا وثيق الصلة بموضوعنا. فقد كان يقتل أبناء بني إسرائيل وكان يعذب الناس ويخدعهم بسحرته؛ ولكنه في الوقت نفسه، كان يستمتع بحياته، فقد ورد في القرآن الكريم قوله: «فقال أنا ربكم الأعلى» (سورة النازعات/ آية 24). على الجانب الآخر، يعتبر نفسه الإله والحقيقة المؤكدة في الدين، ولذلك، كان قلقا من رسالة موسى عليه السلام. وتتضح مخاوفه في الآية القرآنية التالية: «وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ» (سورة غافر/آية 26). ولهذه القصة فصل أخير، الذي يعرض غرق فرعون في النيل، وهو ما يأتي في الآية القرآنية: «وجاوَزْنا ببني إسرائيل البحر، فأَتْبَعهم فرعونُ وجنوده بَغْيا وعَدْوًا، حتى إذا أدركه الغرق قال: آمنتُ أنه لا إله إلاّ الذي آمنَتْ به بنو إسرائيل، وأنا مِن المسلمين. الآن وقد عصَيْتَ قبْلُ وكنتَ من المفسِدين. فاليومَ ننجِّيك ببدنِك لتكون لمَن خلْفَك آيةً». يعتبر فرعون نموذجا لكل الديكتاتوريين. ومثلما همس عمر توريخوس في أذن ماركيز: كل الديكتاتوريين على شاكلة واحدة. فهم جميعا وحيدون. وأود أن أضيف شيئا، أن الديكتاتوريين أناس فقراء أيضا، فبمجرد أن يفقدوا سلطتهم، يخسروا حساباتهم في البنوك أيضا بالتبعية!