يبقى مؤلف «ديكتاتوريون مع وقف التنفيذ»، الصادر عن منشورات لاتولييه، أحد الكتب الرؤيوية التي تنبأ فيها المرزوقي بالثورة العربية وبالأفول الحتمي للديكتاتوريات العربية من تونس إلى الجزائر، مرورا بمصر وبلدان أخرى. ويأخذ الكتاب شكل مقابلات أجراها الباحث فانسان جيسير مع منصف المرزوقي. وللتذكير، فإن جيسير هو أحد الباحثين السياسيين المتخصصين في دراسة تونس، وخاصة في قضايا السلطة، الهيمنة، الديمقراطية. وقد أصدر في هذه المواضيع أبحاثا قيمة من نوع: «عدوى السلطة. السياسة في تونس من بورقيبة إلى بن علي»، و«النزعات السلطوية الديمقراطية، الديمقراطيات السلطوية. التزواج بين الشمال والجنوب». منصف المرزوقي واحد من أشهر المعارضين التونسيين للنظام البائد. جرب فكرا، جسدا وروحا، قسوة السجن، التعذيب والمنفى. جعل منه مساره المميز، ليس فحسب نموذجا للناشط-المثقف، بل أيضا للفاعل الاجتماعي الذي يسخر مهنته كطبيب ومتخصص في الأمراض العصبية لخدمة أفراد المجتمع وأمراضه العديدة: من الانكباب على المرض الطفولي للطغاة المحليين، وما أكثرهم، إلى معالجة وتطبيب آلام وكدمات التعذيب المادي والمعنوي. تقدم المرزوقي للانتخابات الرئاسية عام 1994، فكان جواب نظام بن علي على هذا الترشيح، الذي اعتبره تحديا لفخامة الرئيس، السجن والطرد من كلية الطب لمدينة سوسة. اختار المرزوقي المنفى إلى فرنسا مجالا لمواصلة نضاله ضد نظام بن علي. ولم يكتف بتنشيط التجمعات السياسية في باريس ومجموع فرنسا، بل واكب نشاطه اليومي بالتفكير والتأليف في المواضيع الشائكة، وخاصة تيمة الحواجز والعقبات التي تحول دون انبثاق الديمقراطية في المجتمعات العربية. ومن المؤلفات، التي قارب عددها العشرين، نشير إلى نصوص مثل: «الداء العربي. ما بين الدكتاتوريات والأصوليات: الديمقراطية الممنوعة»، الصادر عن منشورات لارماتان عام 2004، و«ماذا لو تكلمتم أيها العرب» (منشورات ليوه كومان- 1987). شغل منصف المرزوقي منصب رئيس العصبة التونسية لحقوق الإنسان، ثم رئيس اللجنة العربية لحقوق الإنسان، والشبكة الإفريقية من أجل حقوق الإنسان. وبعد أن أقام في فرنسا لمدة 11 سنة، عاد إلى تونس بعد ثورة الياسمين ليقدم ترشيحه للانتخابات الرئاسية. وانتظارا لهذا الحدث، ينشط المرزوقي يوميا لتنقية الجهاز السياسي التونسي من بقايا عناصر نظام بن علي. وقد كان أحد الفاعلين، إلى جانب شبيبة تونس، في إسقاط الوزير الأول السابق الغنوشي من منصبه. يبقى مؤلف «ديكتاتوريون مع وقف التنفيذ»، الصادر عن منشورات لاتولييه، أحد الكتب الرؤيوية التي تنبأ فيها المرزوقي بالثورة العربية وبالأفول الحتمي للديكتاتوريات العربية من تونس إلى الجزائر، مرورا بمصر وبلدان أخرى. ويأخذ الكتاب شكل مقابلات أجراها الباحث فانسان جيسير مع منصف المرزوقي. وللتذكير، فإن جيسير هو أحد الباحثين السياسيين المتخصصين في دراسة تونس، وخاصة في قضايا السلطة، الهيمنة، الديمقراطية. وقد أصدر في هذه المواضيع أبحاثا قيمة من نوع: «عدوى السلطة. السياسة في تونس من بورقيبة إلى بن علي»، و«النزعات السلطوية الديمقراطية، الديمقراطيات السلطوية. التزواج بين الشمال والجنوب». في تقديمه للكتاب، يشير نويل مامير، النائب البرلماني عن حزب الخضر وعمدة مدينة بيغل، إلى أن هذا الكتاب بمثابة صك اتهام ضد الاستبداد، ذي الوجه العائلي، للأنظمة البوليسية العربية. يفكك مناهجها وأساليبها البيروقراطية، وحكامتها الأمنية واشتغالها الداخلي البيروقراطي. كما يبين بأنه منذ ثلاثة عقود، أوهمت هذه الأنظمة الاستبدادية الغرب بوجود خطر أصولي. أمريكا التي أنشأت منذ 1930 حلفا مع العائلة الملكية بالسعودية، بهدف الاستحواذ على الطاقة البترولية، فهمت واستوعبت جيدا طبيعة التطرف الإسلامي الراديكالي. إذ وظفته وسخرته لإحداث التفرقة داخل العالم العربي والحيلولة دون انبثاق ديمقراطية حقيقية. سخّر المحافظون الجدد «البعبع» الإسلامي، وعلى رأسهم جورج بوش الابن، الذي يبقى صنيعا سلحوه، وأغدقوا عليه الأموال خلال حرب أفغانستان ضد الاتحاد السوفياتي. كان الهدف طبعا هو فبركة حرب للحضارات. وكانت هذه الأخيرة، يتابع نويل مامير، نعمة على الدكتاتوريات العربية، إذ ضخت في أنظمتهم ما يلزم من الأوكسجين مدة سنوات. وعلى ضوء التجربة التونسية، يتابع النائب البرلماني عن حزب الخضر، لا يمكن إصلاح الأنظمة الديكتاتورية من الداخل. تمر الثورة العربية من تطور لا متكافئ، لكنه متزاوج بين التراث الجماعي والابتكارات التكنولوجية الحديثة. فحركة العصيان المدني تتكئ على المساعدة المتجددة لتكنولوجيات الإعلام الحديثة التي ترسم المستقبل مثل «الفايسبوك»، «التويتر»، والرسائل الإلكترونية. تمكنت الشبيبة العربية من هذه الوسائل، واليوم أصبح للقوى الديمقراطية دور رئيسي في أوروبا. يقدم الكتاب أطروحة مميزة، هي أن التفكير في الديمقراطية في العالم العربي يساعد على التفكير في نوعية الديمقراطية في فرنسا، بلد حقوق الإنسان والجمهورية. أهم ضمانة لحماية الديمقراطية الغربية هي مساعدة الديمقراطيات التي تعمل على إحداث قطائع جذرية. لذا، فإن هذا الكتاب هو بمثابة صرخة غضب ضد «الديكتاتوريات التي تعيش في وضع وقف التنفيذ». وعليه فإن قراءة هذا الكتاب يساعدنا على إدراك أن الديمقراطية العربية ليست يوتوبيا، بل ممارسة تبدأ من الآن واليوم. دامت المقابلة التي جمعت بين فانسان جيسير ومنصف المرزوقي 50 ساعة تمت على فترات ما بين باريس ومارسيليا. اختار فانسان جيسير قولة للمرزوقي يقول فيها «أصبحت معارضا بحكم الواقع. لم يكن لي من خيار آخر، ما عدا الصمت». تلخص هذه القولة لوحدها دلالة معركته السياسية ضد الديكتاتورية ومعركة العديد من المناضلين من الخليج إلى المحيط، أولئك الذين اختاروا فضح هيمنة الاستبداد على المجتمعات العربية. ذلك أنه خلافا لفكرة سائدة سربها الطغاة، لا يصبح المرء «معارضا» أو «منشقا» بمحض الاختيار، بل بالضرورة. في البداية، لم تكن لمنصف المرزوقي أي رغبة في الانخراط في العمل السياسي، حتى إن كان والده أحد المقاومين ضد الاستعمار الفرنسي، ثم لاحقا ضد ديكتاتورية بورقيبة. لكن الذكرى المؤلمة لعائلته، التي اضطرت إلى اللجوء إلى المنفى والإقامة بالمغرب، دفعته إلى الانخراط في السياسة. لم يكن حلمه أن يموت شهيدا، بل أن يصبح طبيبا لمساعدة من هم بحاجة إلى المساعدة والعون. إن النظرة التي يقدمها منصف المرزوقي لما أسماه «الآلة الديكتاتورية»، التي يطلق عليها الباحثون اسم «النزعة السلطوية»، تختلف، بل تتعارض بالمرة مع الأدب النضالي، السيرة الذاتية النرجسية، والمقال السياسي. يذكرنا منصف المرزوقي بقوة الوصف التي تدمغ كتابات ألكسندر سولجنتسين في نصوصه عن أجواء وعوالم معسكرات الاعتقال. النخبة في تعاضد مع السلطة في موضوع النخبة، لا يكتفي منصف المرزوقي بفضح آفات الديكتاتورية واختلالاتها الداخلية، بل يقوم بفحص منهجي لآلياتها وأنماط المراقبة التي تمارسها على المجتمع. كما يبين بأنه خلافا للرأي السائد القائل بأن الشعب هو من يكابد تسلط الديكتاتورية، فإن النخبة السياسية، الاجتماعية والاقتصادية هي التي توجد في الواجهة الأولى وفي الصفوف الأمامية، بحكم تورطها وتحالفها المباشر مع النظام. من هنا ضرورة تطوير أشكال جديدة للمقاومة والتعبئة لقطع الحبل مع سلطة وهيمنة الديكتاتورية. انتقد المرزوقي نزوع النخبة، الديمقراطية منها والإسلامية، إلى إسداء دروس في الديمقراطية وحقوق الإنسان. هل سيأتي الأمل الديمقراطي من «الفاعلين الجدد» للمجتمع المدني؟ يمكن للقارئ أن يستشف ما يشبه القطيعة بين المرزوقي المناضل خائب الأمل ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان. لكن الإحساس يبقى عابرا، يطمس في الحقيقة 30 عاما من نضال المرزوقي من أجل حقوق الإنسان، أولا بصفته مناضلا بسيطا، ثم رئيسا للعصبة التونسية لحقوق الإنسان، وأخيرا بصفته الممهد لترجمة «النصوص الكبرى المؤسسة» للغات الأوروبية إلى اللغة العربية، بهدف ترسيخ فكر متين لحقوق الإنسان لدى المواطنين. نحس إذن بخيبة أمل المناضل تجاه المنظمات غير الحكومية المدافعة عن حقوق الإنسان، والتي تستفيد من اعتمادات مادية هائلة من دون أن تقوم بدورها وواجبها اليومي في ترسيخ بيداغوجية حقوق الإنسان. هل نجحت هذه المنظمات في تقليص هيمنة ونفوذ الديكتاتورية؟ هل ساهمت في تقليص المنطق القمعي الذي يتسلط على آلاف الأشخاص الأبرياء؟ يجيب منصف المرزوقي بالنفي عن هذه الأسئلة. لا يمكننا إنكار النتائج الإيجابية في هذا الميدان. بيزنس المنظمات غير الحكومية غير أنه للأسف لم يتم وضع حد لآلات القمع، بل الأدهى من ذلك، يشير منصف المرزوقي، تحولت بعض المنظمات غير الحكومية إلى «بيزنس» حقيقي، حتى إن صعب أحيانا تصديق هذه الحقيقة، التي تخلخل مرتكزات «أيديولوجية الشفقة والرحمة». ولا يتردد المرزوقي في الحديث عن «سوق حقوق الإنسان» بزبنائه ومستهلكيه. هكذا يمكن للأنظمة الديكتاتورية أن تواصل «إنجازاتها» البئيسة، لا «يقلقها» سوى الترتيب السنوي الذي تنشره المنظمات الحقوقية. من خلال المقابلة، وبالرغم من مسحة التشاؤم التي طبعت أحيانا تصريحات منصف المرزوقي، فإن الأمل في انبثاق الديمقراطية في الوطن العربي، يبقى الدامغ الذي ميز التبادل بين فانسان جيسير ومنصف المرزوقي. وفي هذا الأمل دحض للتصور السائد والقائل بقدرية وسكونية المجتمعات العربية. ليست الديكتاتورية والقدرية في الجينات العربية يدعو المرزوقي إلى إحداث القطيعة مع «الأساطير العالم-ثالثية» التي دافع عنها منذ ثلاثين سنة خلت الفيلسوف والمؤرخ مكسيم رودنسون، والنظر إلى العرب ك«شعوب عادية وسوية وبلا مميزات أو استثناءات». كما أنه لا يوجد بشكل قدري وجود ل«إنسان عربي ديكتاتور» في جيناته، كما لو كان العرب مبرمجين للعيش وبشكل أزلي تحت الديكتاتوريات. وفحوى الكتاب موجه في الحقيقة إلى رؤساء الدول الأوروبية، الذين عليهم بصفة نهائية طرد الفكرة القائلة بوجود إنسان عربي يعشق الديكتاتوريين. وقد أدرك بعض المسؤولين السياسيين الفرنسيين وبشكل مبكر ضرورة إعادة النظر في هذا التصور وفي السياسة الخارجية على المستوى الفرنسي والأوروبي. أدرك هؤلاء المسؤولون أن طرق استعمالات الديكتاتورية في هذه البلدان قد تكون حبلى بالمخاطر في المجتمعات الديمقراطية نفسها. الشبيبات العربية.. متمردون أم خاضعة؟ يعتبر الخوف في المجتمعات العربية مكون أساسي في المعيش اليومي للمواطنين. منذ الصغر يدرب الطفل على الخوف. يرافق هذا السلوك شحن وتعبئة لعقلية الطفل. عبر الدروس الدينية ومن خلال التربية الوطنية، التي لا تعدو كونها في الدول العربية مجرد دعاية: من تحية العلم والنشيد الوطني إلى سرد ملاحم الزعيم أو الملك. إن الأطفال والشباب رهان أساسي في استمرارية الديكتاتوريات والأنظمة. غير أنه لمسلسل التوجيه نقائصه على اعتبار تدخل العائلات التي تلقنهم خطابا بديلا، بل مناقضا للخطاب الرسمي. لا تؤثر ميكانيزمات التوجيه والتلقين المذهبي في أنظمة التضامن العائلي والاجتماعي. ذلك أنه لا الأطفال ولا عائلاتهم تصدق ترهات وخرافات الدعاية الرسمية. فيوم فرض الرئيس المخلوع بن علي دروسا في مادة حقوق الإنسان في المدارس التونسية، أثار هذا القرار سخرية كل التونسيين، بمن فيهم شبيبة تونس، التي رأت في هذا الإجراء مسخرة لتلميع واجهة النظام. وقد انعكس هذا التشويش الدعائي على نبل قضية حقوق الإنسان التي كانت تناضل من أجلها منظمات حقوقية تدفع يوميا ثمنها. لما نتحدث لطفل عربي عن حقوق الإنسان فإن ذلك يثير سخريته. من أجل اقتلاع الأجهزة القمعية لاقتلاع الأنظمة الديكتاتورية، يتطلب الأمر اقتلاع الأجهزة القمعية. عاشت الشعوب العربية لمدة سنوات داخل دوامة الخوف. لكن الخوف اليوم هو في طور الانتقال إلى المعسكر المضاد. إن مخاطبة قوات البوليس والجيش من طرف الشباب لثنيهم عن استعمال السلاح ضد المحتجين والمتظاهرين يعتبر اليوم سلوكا صحيا، يشير منصف المرزوقي. لهذا السلوك وهذا الخطاب الجديد قدرة على فصم العلاقة بين قوات الأمن وبين مسيريها الذين يعاملونها بازدراء واحتقار. على الحقوقيين اليوم التشديد على فكرة «جرائم الدولة». هذه الجرائم هي اغتيالات لمعارضين أو لمتظاهرين. كما أنها تعديات مثل ممارسة التعذيب، الغش في صناديق الاقتراع، سرقة ممتلكات الدولة، والرشوة. نحن في وضع من التناقض حيث يوجد في المجتمع نوعان من الجرائم ونوعان من التصرفات: الجرائم التي يرتكبها الأقوياء والتي لا ينطبق عليها أي قانون والجرائم التي يرتكبها أناس بسطاء والذين يؤدون ثمنها غاليا. ختاما، يدعو منصف المرزوقي إلى تجذير الديمقراطية في أسس وأصول التقاليد الثقافية العربية الإسلامية. أما الحل أو الحلول الداعية إلى انبثاق بديل «مستبد متنور» كبديل سياسي، فليست سوى مجرد مغالطة لم تعد تحظى بثقة الشعوب العربية.
من الشبيبة الخبزية إلى شبيبة الكرامة بدل كلمة شبيبة، يفضل منصف المرزوقي الحديث عن الشبيبات، كترجمة لتعددية العالم العربي الذي هو كيان جماعي. كما أن التصور الذي يدافع عنه هؤلاء الشباب يتغير حسب المجتمعات والأزمنة. مع جيل المرزوقي كانت الشبيبة «خبزية» (تدافع عن الخبز و«الكومير»). أما اليوم، فالشبيبة تدافع عن الكرامة ومستوى لائق من العيش يعكس مستوى دراستها. ليست هذه الشبيبة بالضرورة مسيسة. لكن تبقى العولمة إحدى المرجعيات التي تعرف اليوم بهذه الشبيبات العربية، التي لا تختلف كثيرا عن بقية شبيبات العالم. ويلاحظ المرزوقي اتجاها إلى تراجع عام نحو الحياة الشخصية وهروبا أو تبرما من نظام التنمية المقترح. ذلك أن الهروب إلى الخارج أصبح ظاهرة عامة. إن قوة المد الإسلاموي في أوساط الشباب تتأتى من تشديدها على العدالة الاجتماعية والكرامة الوطنية. ذلك أن الشباب يحس، وبشكل قوي، بثنائية الخطاب الغربي الذي يتحدث عن الديمقراطية، ومن جهة أخرى يساند ويدعم الديكتاتوريات الأكثر قمعا وبشاعة. إن الشبيبات العربية ليست سندا للديكتاتوريات. لما أطلق الرئيس المخلوع بن علي مشاورة في موضوع الشبيبة التونسية، عرفت هذه المبادرة فشلا ذريعا. للتو، حدس الشباب خلفيات المؤامرة. كما أن الشباب لاينخرط بسهولة وبطواعية في الأحزاب التابعة للأنظمة الديكتاتورية، حتى إن كانت هذه الأنظمة هي التي تسهر على «تربية» الشباب. وبما أن هذه الديكتاتوريات تعيش نزيفا من الداخل وعلى كافة الأصعدة، فإن الشباب لا يجد نفسه داخل هذه القيم.