‘أين كان هؤلاء عندما خرج الجميع إلى الشوارع غاضبين ... شاهدوا أرشيف المظاهرات جميعا وأتوني بأحد هؤلاء الملتحين وسطها.. لقد كانوا يخافون بن علي أكثر مما يخافون الله عز وجل؟ !!' ... هكذا تحدث منفعلا المحامي التونسي الراحل فوزي بن مراد عن السلفيين في بلاده عندما بدأت تحركاتهم تقلق الجميع قبل عدة أشهر. عندما نُقل هذا السؤال بحرفيته تقريبا إلى رئيس الوزراء التونسي علي العريض في مقابلة تلفزيونية أخيرة أجاب بأن هؤلاء كانوا في السجون، وأن الحكومة التي ترأسها حركة ‘النهضة' الإسلامية لم تتأخر في التصدي لهم، كما يتهمها خصومها، لكنها كانت حريصة على عدم محاسبة الناس على أفكارهم أو ملاحقتهم بسببها، أي أنها رأت ضرورة التفريق بين أصحاب الفكر السلفي- مهما كان الاختلاف معهم في فهمهم للدين – وبين من مضى إلى أبعد من ذلك فاعتمد العنف وحتى الإرهاب مؤخرا لفرض قناعاته على عموم الناس. أما راشد الغنوشي زعيم حركة ‘النهضة' المتهمة بمهادنة هذا التيار، قبل أن تدينه مؤخرا وتنتقد دخوله في مواجهة مفتوحة مع الدولة، فكرر في أكثر من مناسبة أن من أسباب بروز هذا التيار الغريب عن المجتمع التونسي وما عرف عنه من وسطية وتسامح وانفتاح هو الفراغ الروحي الذي أحدثه، حسب رأيه، كل من بورقيبة وبن علي ، فضلا عن أن انتقال السلطة على أيام الأخير من محاربة التشدد الديني إلى محاربة التدين نفسه جعل البلاد ‘أرضا منخفضة' تهب عليها كل الرياح بما في تلك القادمة من المشرق العربي والخليج والموغلة في التشدد أو العنف. مهما يكن من تفسير هذه الظاهرة أو محاولة تبريرها، فإن ما حصل في تونس في الأيام الخيرة من مواجهات عنيفة بين قوات الأمن وعناصر من تيار السلفية الجهادية المعروف ب'أنصار الشريعة' جعل المجتمع برمته تقريبا وكل قواه السياسية تقف إلى جانب الدولة في اختبار القوة والتحدي هذا. إن إصرار هذه الجماعة وزعيمها المختفي على تنظيم اجتماع شعبي كبير في مدينة القيروان التاريخية دون الحصول على الترخيص اللازم واستفزاز السلطة بسلسلة من الاتهامات كتلك التي تصفها ب'الطواغيت' وتتوعدها بأوخم العواقب جعل الجميع في تونس يشعر بأن عملية لي الذراع هذه لحظة فارقة إما أن يستعيد فيها الأمن مكانته كضامن لاستقرار الدولة ككل أو فهي نهاية مؤسسات الدولة وسلطة القانون. لقد تعجّل هذا التيار مواجهة الدولة بمراهقة واضحة ما أرعب المواطن التونسي العادي، ليس فقط على أمنه وأمن بلاده، خاصة بعد لجوء البعض إلى الجبال وتلغيمها، وإنما أيضا على مستقبل نمط المجتمع الذي يفخر به التونسيون والقائم على الانفتاح والرغبة في تعايش الجميع بتلويناتهم المختلفة دون وصاية أو إكراه. ولأول مرة تقريبا، تجمع القوى السياسية جميعها على أن هذا النوع من المغالاة في الدين، المتلازم مع العنف وحتى الإرهاب، لا يمكن أن يقاوم إلا بالقوة وهو ما حصل فعلا في اليومين الماضيين. الآن وقد خرجت السلطة في تونس منتصرة من مواجهة فرضت عليها بصلف واضح المطروح هو الانتقال الضروري من مواجهة إفرازات التشدد الديني إلى معالجة جذوره الفكرية والاجتماعية في كنف القانون واحترام التعددية الفكرية لكل أبناء البلد. وهنا لحركة ‘النهضة' مسؤولية كبرى في هذا المجال لأنها مدعوة للنأي بنفسها عمن يمكن أن يرى فيها حامية لممارسات تشدد مشينة خاصة وأن بعض قياديي النهضة التاريخيين ممن قضوا سنوات طويلة في السجون يبدون غير بعيدين كثيرا عن تيار التشدد الديني هذا. ويأتي هؤلاء على عكس رموز أخرى عرفت بانفتاحها ولم تتوان في التنديد بمن ‘استهانوا بالحرية التي أعطيت لهم وحولوا القضية إلى كفر وإيمان' كما قال عبد الفتاح مورو أحد أبرز رموز هذا الخط الانفتاحي. المؤمل الآن ألا يعتبر جهاز الأمن التونسي وقوف الناس معه في هذه المواجهة مدخلا لإحياء ممارساته أيام بن علي وألا يعتبره البعض الآخر عودة للتعامل مع المختلفين سياسيا بلغة العصا. تونس تتسع للجميع شرط أن يكون صراع الأفكار سلميا راقيا تحسمه في النهاية صناديق الاقتراع. أما من اختار لغة التكفير والعنف واستغلال المساجد لترويج ثقافة الكراهية والحقد وتبرير القتل والتهديد بإدخال البلاد في فتنة دموية فليعلم أن هذا ما ينتظره من الآن فصاعدا.