وأنا أتحدث عن التحرش الجنسي التي تتعرض له المرأة في عالمنا العربي، تتوهج في رماد ذاكرتي، قولة لعبد الله الغذامي في كتابه «المرأة واللغة»، مفادها أن الجنون والانتحار اللذين تعرضت لهما المرأة الكاتبة في أواخر أيامها، ويعني جنون مي زيادة واكتئاب ملك حفني ناصف، هما الثمن الذي أدته المرأة الكاتبة نظرا لخروجها من الخدر إلى نهارات الحكي الساطع، وأن هذه الحالات السيكولوجية المضطربة للكاتبتين «كلفة تؤديها المرأة الكاتبة حين تجرأت على الاقتراب من مملكة الرجل الحصينة...»، كأن المرأة يجب أن تلزم الحكي الشهرياري الليلي حتى لا تصاب بالجنون، وكأن هذا الجنون كان أنثويا أكثر منه ذكوريا، وكان ألم المرأة لا يضاهيه أي ألم. هو منطق ذكوري يتمادى في ترهيب المرأة وتخويفها من الاقتراب من ضوء النهار الساطع، مثلما تم ترهيبها من الاقتراب من ضوء اللغة الساطع بتعبير مي زيادة، لكون المرأة غواية يجب عزلها، ولكونها ستؤدي الثمن غاليا إذا تخلت عن عالم السكينة المحاط بالكثير من الأمان والمأهول برعاية أفراد الأسرة وخرجت لعالم التيه والفزع والمجهول واللاأمان. فالمخيف والمرعب هو ذكاؤها ونباهتها وطموحها، التي ظلت تحتفظ بها ولزمن تاريخي طويل في صندوق حليها إرضاء لنزعة من نوع تلك النزعة، وهي الآن تتوهج بكل عنفوانها وذكائها وسموقها بحثا عن موقع تحت الشمس وتصطدم بسلطة ذكورية، في فضاء عمومي ظل لزمن حكرا على الرجل، بمدارسه وجامعاته ومكتباته وإداراته ومقاهيه ونواديه... لهذا، لا بأس من التشويش عليها كما يزعمون واقتحامها بنظرات موحية، فقط كي يسيجها اليأس والفزع، وتعود لخدرها وتتكوم مع فزعها، فهي في المخيلة الذكورية الثقافية مجرد مصدر للفتنة والغواية، وهي المسؤولة عن اخراج آدم من الجنة، وهي «ملك للرجل» طالما تملأ فضاء هو «ملك للرجل» في الأساس، لهذا تستحق كل هذا التشويش باسم نزعة رجولة مفرطة يجري التباهي بها والتفاخر أمام الأقران والأصدقاء في المقاهي وفضاءات العمل... ويتم تكريسها أسريا من طرف آباء، تنشرح أساريرهم بمجرد تفتق فتوة أبنائهم ورجولتهم الموهومة، وكل اللوم والغضب واللعنة عليها. وهكذا نجد انفسنا امام اختزال المرأة في جسد وشكل بغض النظر عن فكرها وعقلها وحضورها كصحافية أو كاتبة أو سياسية أو مناضلة أو فنانة.... أما الرجل، فهو كائن لا يقوى على كبت غرائزه وجوعه ولا غض بصره بغض النظر عن إنسانيته، مع أن التحرش بالمرأة ومضايقتها، سواء في أماكن العمل أو في فضاءات عمومية، غدا سلوكا وعادة ووشوشات وهمهمات لا واعية، تؤخذ عادة على محمل التندر والفكاهة واللهو، يجهل صاحبها أو يتجاهل معناها وخطورتها، ويتوهم عادة حاجة المرأة إليها كي تتوهج أنوثتها، غير مدركين أنه عنف نفسي وانتهاك لحرمة المرأة ولكرامتها وإنسانيتها، وحريتها التي ناضلت من أجلها لزمن طويل، وأبسطها حرية التجول والاستمتاع بمنظر البحر والغروب مثلا من دون مداهمة مرعبة أو حضور غث. والخطير أن أماكن عمل المرأة، هي أيضا غدت مزروعة بلغم التحرش الذي تحول لجحيم يمس المرأة في لقمة عيشها، تنفجر شظاياه في كلمات أو نظرات أو تهديدات صريحة، لتكون كرامتها ثمنا لترقيتها أو حظوها بامتيازات أو استمرارها في عملها، وأحيانا قد تذعن المرأة لهاته المهانة برضا وجبن وخنوع حين تغرقها الامتيازات والترقيات.. وأحيانا أخرى، تخضع للتحرش بصمت الهلع والحيرة والهشاشة حين تخشى على كسرة خبز من الضياع، مع أن المرأة في كلتا الحالتين تنتج ثقافة الخوف والسكوت وتربي ريش الاستقواء والهيمنة والاستئساد لدى الرجل المتحرش. مثلما سكت النظام والقانون وبعض إعلامنا العربي عن هاته الظاهرة حتى استفحل الأمر وأصبح ينذر بالكارثة. الربيع العربي هو أيضا، لم يخل من أشواك التحرش التي أدمت المرأة العربية في ميادين الثورات، وحتى حومة الثورات لم تسعف في خلق ناموس إنسانية واحترام لكرامة المرأة، وعوض مواراة سوءات ذكورية متوارثة وطمرها في أعماق أرض الثورات، انتعشت آلة التحرش بالمرأة العربية بقوة في مصر سعيا وراء جرها ل«بيت الطاعة» بحيث احتلت مصر المرتبة الثانية بعد أفغانستان وكذلك اليمن، أما اللاجئات السوريات في أغلب الدول العربية فها هن أيضا لم يسلمن من استغلال وضعهن في مشاريع زواج شبيهة بالإكراه استنادا ل«الواجب الوطني» الذي أقرته بعض الفتاوى الدينية. في المغرب، تتناسل فيروسات التحرش لتنخر الجسد النسائي المغربي سواء في الفضاءات العمومية أو أماكن العمل، وقد تماشت الإرادة السياسية جنبا إلى جنب مكونات المجتمع المدني وضمنها الحركة النسائية، ويبقى أبرز المكاسب التي حققتها من دون شك الإصلاحات القانونية الخاصة بتعديل القانون الجنائي وتضمينه لقوانين جديدة كتجريم التحرش الجنسي، حين ناقش البرلمان المغربي عام 2008 مشروع قانون يجرم التحرش الجنسي ويعاقب كل من تورط في التحرش بفتاة أو معاكستها بالسجن وبغرامة مالية. ان القضاء على هاته الظاهرة لن يكون بتحرش النساء بالرجال، ظنا منهن أن ذلك التحرش يكسبهن المساواة وينتقمن به من الرجل، وإنما بخلق فضاءات رياضية وثقافية للشباب لتفريغ طاقاتهم الفكرية والجسدية، والقضاء على البطالة التي خلقت فراغا مهولا لدى الشباب وتعبئة الإعلام لنشر ثقافة احترام المرأة ورفض الاستهانة بحضورها وكرامتها وسن قوانين زجرية لمعاقبة كل متحرش سواء في الفضاءات العمومية أو فضاءات العمل، والأهم الكف عن اعتبار ظاهرة التحرش الجنسي من التابوهات التي يجب السكوت عنها، بل ظاهرة مرضية نفسية يجب معالجتها علنا سواء عبر قنوات إعلامية أو تعليمية تربوية أو أسرية، وزيادة البرامج التوعوية والتثقيفية حول الثقافة الجنسية وحول التحرش الجنسي للنساء والفتيات والأطفال.