العلاقة بين الاقتصاد والسياسة علاقة وثيقة، والكثير من الصراعات السياسية تخفي وراءها مصالح اقتصادية كبرى، وتزداد هذه العلاقة تعقيدا والتباسا حينما يكون الفاعل السياسي فاعلا اقتصاديا في نفس الوقت. في مثل هذه الحالة تتم الإساءة للاقتصاد وللسياسة معا، فلا الاقتصاد يمكن أن يتطور في بيئة تنعدم فيها شروط المنافسة الاقتصادية، ولا السياسة يمكن أن تتطور بسبب هيمنة المال على الشأن السياسي، وقديما حذر ابن خلدون من الجاه المفيد للمال، كما أفتى الكثير من الفقهاء القدامى بعدم جواز الجمع بين الإمارة والتجارة. من الأسباب العميقة لاندلاع الثورات العربية، بالإضافة إلى الانسداد السياسي، غياب العدالة الاجتماعية وتحكم أقلية في الثروات الوطنية في الوقت الذي تعيش فيه الأغلبية في القاع الاجتماعي. ومع التحولات السياسية التي جرت في المنطقة ارتفعت انتظارات الشعوب وارتفع سقف تطلعاتها أملا في تحسين أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية. لكن من سوء حظ الحكومات الجديدة أنها ورثت اقتصاديات وطنية مأزومة، وجاءت في ظرفية اقتصادية عالمية مطبوعة بالأزمة الاقتصادية والمالية العالمية، خاصة بالنسبة للبلدان المرتهنة باتفاقيات اقتصادية مع المجموعة الأوروبية كتونس والمغرب، مما سيضطر هذه البلدان إلى اتخاذ قرارات اقتصادية مؤلمة وغير شعبية قصد التحكم في توازناتها المالية والماكرواقتصادية، مما سيخلف حالة من الإحباط لدى الشارع العربي، خاصة منه المنتمي للفئات المتوسطة والفقيرة. في تفسير الأسباب المباشرة لهذه الأزمة، يطفو التحليل الاقتصادي الذي يركز على أسباب تراجع الاقتصاد الإنتاجي، وتخلف التنمية الاقتصادية والإنسانية في الوطن العربي مقارنة بدول ومجموعات تقل إمكاناتها عن تلك المتوافرة في البلدان العربية، كدول أمريكا اللاتينية مثلا، ويركز هذا التفسير على الانعكاسات المباشرة لسيادة اقتصاد الريع والاستهلاك على معدلات النمو، وتأثيره المباشر على توسيع قاعدة الإنتاج ، والحد من قدرات الدول على تحقيق فرص نمو متوازنة وفرص تشغيل واسعة، كما يتعرض بالتحليل النقدي لطبيعة السياسات الاقتصادية ذات المرجعية الليبرالية، كالخصخصة وسياسات التقويم الهيكلي التي اعتمدت في العديد من الاقتصاديات العربية بتدخل من صندوق النقد الدولي، وهو ما أدى إلى اوتقليص نسبة الإنفاق العام على الخدمات الاجتماعية من الناتج الوطني، في ظل هشاشة منظومة الحماية الاجتماعية، مع غياب العدالة الجبائية وسيادة التملص الضريبي من طرف النخب المحظوظة. وفي ظل نظام العولمة الاقتصادية انخرطت معظم الدول العربية في اتفاقيات التبادل الحر، مع اقتصاديات دول كبرى من دون أن تجعل من تعزيز سبل الاندماج الاقتصادي العربي أولوية مستعجلة لبناء كتلة اقتصادية حرجة قادرة على الصمود أمام التكتلات الاقتصادية الكبرى. إن الأسباب العميقة لهذه الأزمة، مرتبطة بدرجة أساسية بنموذج تنموي قائم منذ مرحلة ما بعد الاستعمار. كما أن حالة الاقتصاديات العربية لا يمكن فصلها على النموذج السياسي المتبع، فالحالة الاقتصادية هي نتيجة لسيادة نموذج تسلطي، يسمح بالتداخل بين النخب الحاكمة وبين عالم المال والأعمال في إطار شكلي لليبرالية الاقتصادية، ويعتمد على شركاء اقتصاديين تقليديين يراعون مصالحهم بالدرجة الأولى. الفقر المدقع وسيادة اقتصاد الريع وتدني الإنتاجية وتشوهات توزيع الناتج الوطني وتزايد حجم الفئات الاجتماعية المهمشة والفقيرة على حساب الفئات الوسطى، والنمو المفرط لمدن الصفيح والبناء العشوائي واتساع دائرة الاقتصاد غير المهيكل، وانتشار البطالة، وتزايد التفاوت الاجتماعي بين الفئات المحظوظة والفئات الاجتماعية المسحوقة، كل هذه المظاهر تعكس الخلل البنيوي الحاصل في رسم سياسات التنمية في هذه البلدان، هذه السياسات كانت تسهر عليها النخب المتحكمة من الأعلى ولم تكن نابعة من متطلبات الناس واحتياجاتهم، لأغراض سياسية بالدرجة الأولى. كيف ذلك؟ إن إصرار النخب الحاكمة على تهميش البادية، والتأخر في إنعاش المدن الصغيرة والمتوسطة وإدماجها في عملية التنمية، ساهم في احتكار العملية السياسية من طرف نخب معينة ولم يسمح لفئات اجتماعية أخرى بولوج المسرح السياسي، ذلك أن استراتيجيات التنمية الحقيقية تفرز فاعلين جددا على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، والسياسي أيضا، وتدفع بجماعات مهمشة عديدة لأن يكون لها صوت مسموع في الساحة، وهو ما يغير قواعد المشاركة السياسية، ويجعلها مستعصية على الضبط والتحكم. التنمية الاقتصادية هي شرط للحرية، كما قال المفكر البنغالي أمرتيا صن، بمعنى أن جانبا جوهريا من حرية المواطن يعتمد على تغطية الخصائص الاجتماعية للأفراد والجماعات، حتى يتمكن المواطن/ الفرد من بناء اختياراته في حياته اليومية على كافة المستويات. إن توسيع أفق هذه الاختيارات بالنسبة للأفراد والأسر يعتمد على حجم وعدالة وصولهم إلى الموارد وامتلاكهم الوسائل والقدرات المادية التي تمكنهم من الحصول على حاجاتهم المعيشية، كما يعتمد على تمتعهم بحقوق المواطنة في مجتمع حر يشارك فيه جميع المواطنين في تقرير شؤونه من خلال التمثيل الانتخابي والمشاركة السياسية الواسعة، والتداول السلمي على السلطة السياسية الفعلية. من هذا المنظور تكون التنمية شرطا للحرية، وتكون ممارسة الحرية بتكافؤ ومساواة من قبل المواطنين، شرطا ضروريا للمشاركة الفعالة في العملية الإنتاجية للمجتمع والاستفادة المتساوية من الفائض الاقتصادي المؤسس للحرية. الأزمة الحالية ينبغي أن تدفع النخب السياسية الجديدة إلى مساءلة طبيعة السياسات الاقتصادية ذات المرجعية النيو- ليبرالية، التي انتهجت في البلدان العربية والعمل على إعادة بناء نماذج تنموية جديدة قادرة على استيعاب الانتظارات الاجتماعية والاقتصادية المتزايدة.