ألقى الأستاذ نزار بركة ، عضو اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال، في الندوة العلمية حول تطورات الاقتصاد المغربي على مدى مائة سنة الأخيرة،التي نظمت أخيرا في إطارفعاليات الاحتفاء بالذكرى المائوية لميلاد الزعيم علال الفاسي، عرضا استحضر فيه عمق فكر الزعيم ورؤيته المتبصرة في استشراف المستقبل، واستثمار رصيده الفكري ونظراته الاقتصادية الثاقبة في قراءة وتحليل الدينامية التي تشهدها بلادنا في عدد من الميادين، بما فيها الميدان الاقتصادي.وننشر في مايلي النص الكامل للعرض: تقديم: يسعدني، في إطار فعاليات الاحتفاء بالذكرى المائوية لميلاد الزعيم علال الفاسي، أن أشارك في هذه الندوة العلمية(+) حول تطورات الاقتصاد المغربي على مدى مائة سنة الأخيرة، والتحولات المتعاقبة التي طالت بنياته وهياكله الإنتاجية، وآثار السياسات الاقتصادية المتعاقبة طيلة تلك العقود على مستويات النمو والتشغيل والسكان، خاصة فيما يتعلق بتأهيل الإمكان البشري وتحسين ظروف معيشة المواطنين، وتحقيق التنمية الشاملة. ولعلها مناسبة أخرى للوقوف على رافد من الروافد المتعددة والغنية للزعيم علال الفاسي في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكذا استحضار عمق فكر الزعيم ورؤيته المتبصرة في استشراف المستقبل، واستثمار رصيده الفكري ونظراته الاقتصادية الثاقبة في قراءة وتحليل الدينامية التي تشهدها بلادنا في عدد من الميادين، بما فيها الميدان الاقتصادي. وهكذا، ستنصب مساهمتي في هذا الصدد على مقاربة موضوع _ تطور الاقتصاد المغربي والخيار التعادلي _ من خلال المحاور التالية: 1- مغرب الاستقلال في مفترق الخيارات المجتمعية والاقتصادية، والتركة الاستعمارية التي ورثها بإخفاقاتها واختلالاتها؛ 2- السياسات الاقتصادية التي تأرجح بينها المغرب، والآثار السلبية لهذا التأرجح على النمو والتشغيل والتنمية البشرية والخدمات الاجتماعية؛ 3- ملامح وتوجهات النموذج الاقتصادي والاجتماعي الجديد الذي تسير بلادنا بخطى حثيثة نحو تعميق أسسه وتثبيت معالمه. 1. مغرب الاستقلال في مفترق الخيارات المجتمعية والاقتصادية مخلفات نظام الحماية إذا كان نظام الحماية الفرنسية على المغرب قد حمل معه بوادر تحديث الهياكل الإدارية والمالية والاقتصادية وانطلاق حركة التصنيع في المدن الكبرى، فإن المنجزات التي تم تحقيقها في هذا السياق وما وازاها من تشييد للبنيات التحتية والتجهيزات الأساسية: من طرق وموانئ وسكك حديدية وموانئ، قد ظلت مرتهنة بمدى خدمتها لأهداف السلطات الاستعمارية، وتمركزها في ما كان يسمى بالمغرب النافع، وتسهيل استغلالها للمقدرات الوطنية، واستنزافها للخيرات الطبيعية والفلاحية والاقتصادية التي كانت تزخر بها بلادنا(1). الشيء الذي جعل انخراط المغرب في الاقتصاد العالمي يقتصر على كونه موردا للمواد الأولية الفلاحية والمعدنية الموجهة نحو الاقتصاديات الخارجية من جهة، وسوقا واعدة في استقبال المنتوجات الاستهلاكية والمواد المصنعة في فرنسا وغيرها من الدول الأجنبية، من جهة أخرى. وهكذا، كانت أولى التحديات التي واجهتها بلادنا بعد حصولها على الاستقلال هي تلك التركة من الاختلالات والمفارقات التي ورثها الاقتصاد المغربي جراء سياسات الاستغلال والاستنزاف المعتمدة من طرف المستعمر؛ بحيث اتسمت فترة الحماية باتساع هوة الفوارق التنموية والمجالية في نطاق تقسيم المغرب إلى مناطق نافعة وأخرى غير نافعة، وبالتالي استثمار ثمار النمو _ حصرا- في المجالات الغنية والساحلية، و في المدن دون القرى. كما عرفت بلادنا خلال هذه الفترة تنامي مظاهر الإقطاع والريع وغيرها من البنى الإنتاجية العتيقة، وذلك بتساوق مع اتساع دائرة التحديث والعصرنة في القطاعات المسخرة لتوفير حاجيات المستعمر، ومواصلة تكريس التبعية الاقتصادية لبلادنا في ظل الاستقلال السياسي. وتتجلى مخلفات هذه المرحلة في عدد من المؤشرات الاقتصادية ((2، من أبرزها: - استغلال 7 % من السكان الأوروبيين لحوالي 30 % من خيرات البلاد؛ - احتكار المعمرين وإقطاعيي الحماية لحوالي 3 ملايين هكتار من الأراضي الخصبة؛ - وجود أكثر من 3 ملايين و600 ألف فلاح مغربي بدون ملكية... إلخ وكان من الطبيعي أن تفضي هذه السياسة الانتفاعية والاستغلالية التي تهتم بالربح على حساب الإنسان والتنمية والمجتمع، إلى خصاص كبير في الموارد البشرية الوطنية ونواقص اجتماعية حادة، ستنتصب بالنسبة للاقتصاد المغربي غداة الاستقلال حواجز منيعة أمام نموه وتطوره. هذا، وفضلا عن الآثار الوخيمة للمجاعات المتعاقبة التي اجتاحت العديد من المناطق خلال سنوات 26 و 36-37 و 45- 46، فإن الجهود المبذولة في الصحة والتعليم والخدمات الأساسية، على امتداد أربعين (40) سنة من الحماية، ظلت محدودة وانتقائية لفائدة المعمرين والأعيان والموالين للسلطات الفرنسية خاصة، من غير أن تشمل غالبية الشعب المغربي الذي كان عندئذ ضحية للأمراض والأوبئة، وغارقا في الجهل والأمية، كما تشي بذلك المعطيات التالية (3): - متوقع الحياة لم يكن يتجاوز 47 سنة؛ - تخصيص طبيب واحد لكل 15 ألف مواطن؛ - 85 % من الأطفال الذين هم في سن التمدرس يوجدون خارج المدرسة... - عدد التلاميذ المغاربة الذين يدرسون في مستويات الإعدادي والثانوي لم يكن يتعدى 5832 تلميذ؛ - عدد المغاربة الحاصلين على الباكالوريا إلى حدود سنة 1955 يناهز 1415 تلميذ فقط... وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحركة الوطنية كانت قد تنبهت، منذ مذكرة مطالب الإصلاحات وما ستتلوها من محطات نضالية في سبيل الاستقلال، إلى خطورة هذا الوضع الكارثي الذي كانت تؤول إليه باطراد الأحوال الاقتصادية والاجتماعية للمغرب، وأكدت على ضرورة الحد من احتكار الأجانب لرأس المال وتأميم مصادر الطاقة والثروات والسكك الحديدية، وتكوين تعاونيات فلاحية وحماية الصناعة التقليدية من المنافسة، كما شددت على الحاجة إلى تعميم إجبارية التعليم وإحداث المستوصفات والمستشفيات في المدن والقرى، وتحديد ساعات العمل وإرساء الحقوق النقابية(4)، وغير ذلك من المطالب التي ستكون بمثابة النواة الأولى لتأسيس الفكر التعادلي الاقتصادي والاجتماعي للزعيم علال الفاسي . خيار التعادلية الاقتصادية والاجتماعية لقد حصل المغرب على استقلاله في خضم مناخ دولي متوتر طبعته أجواء الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي. وهكذا ستجد بلادنا نفسها في مفترق جملة من الإيديولوجيات السياسية والتوجهات الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تتوزع العالم عندئذ، ومدعوة بإلحاح إلى التموقع في سياق التكتلات الدولية المتمخضة عن تلك الإيديولوجيات والخيارات: - خيار رأسمالي قائم على الليبرالية المتوحشة وإعلاء قيم الربح والمنفعة والأنانية؛ - خيار شيوعي كلياني قائم على مصادرة الحق في الملكية والمبادرة الفردية؛ - حركات العالم الثالث التي كانت تروم التحرر من الهيمنة الاقتصادية الأجنبية على الخيرات الوطنية ومقاومة قوى الإمبريالية وتجاوز القطبية الثنائية. وفي إطار هذه التجاذبات والتقاطبات، انبرى الزعيم علال الفاسي لتشييد خيار التعادلية الاقتصادية والاجتماعية(*)، وهو مشروع فكري ومجتمعي متميز بتشربه لمرجعيتنا الإسلامية وقيمنا الثقافية، وتفاعله مع حاجيات الواقع والمواطن المغربيين، وتحاوره مع باقي الأفكار والنماذج الفكرية والمذاهب الاقتصادية الاجتماعية السائدة في تلك الفترة، ومناقشة تصوراتها، والإفادة من إيجابياتها(5) ... ويهدف الفكر التعادلي إلى إنشاء مجتمع متوازن ومتضامن، حيث تكون كل الفئات وجميع الجهات متآزرة في ما بينها لصالح تحرير الفرد والمجتمع وضمان للمواطنين شروط العيش الكريم والرقي. هذا، ويقترن مفهوم التعادلية، من حيث البناء والمقاصد، بمبدإ الحرية عند الزعيم علال الفاسي في مختلف تجلياتها ومستويات تحققها: الشخصية والوطنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية(6) . وفي تضافر هذه الحريات تتأسس الديمقراطية البناءة في منظور الزعيم علال الفاسي، وذلك لكي: _ ... تتيح الفرصة للشعب كي يمارس شؤونه بنفسه وينتخب ممثليه بكامل الحرية ويتعاون مع المسؤولين تعاونا منتجا ومثمرا_ (7) . كما أن التعادلية لم تبق حبيسة التصور المجرد والنظرية المتعالية على الواقع، بل تقدمت بجملة من الإجراءات والتدابير الملموسة التي تشكل أهم مضامين وتوجهات النموذج الاقتصادي والاجتماعي الذي اقترحه حزب الاستقلال من أجل تجاوز عوائق التنمية وكسب رهانات التقدم الذي كان يتطلع إليه المغرب في بداية عهده بالاستقلال. ومن أبرز هذه التدابير(8) : - إنعاش الشغل والرفع من الدخل والقدرة الشرائية للمواطنين؛ - تطوير التكوين وتأهيل الأطر لمواكبة حاجيات القطاع العام والقطاع الخاص؛ - تأميم أو ضبط القطاعات الاستراتيجية والحيوية؛ - تنمية الوحدات الاقتصادية والاجتماعية وتشجيع تكوين التعاونيات؛ - إصلاح السياسة الفلاحية وتحسين مستوى المعيشة لساكنة البادية؛ - جعل اللامركزية في خدمة النمو والتوزيع الترابي للمشاريع الاقتصادية؛ - تحقيق الاستقلال الاقتصادي في إطار الاندماج المغاربي والتعاون الدولي... 2- تأرجح السياسات الاقتصادية وآثارها على النمو والتشغيل ( منذ الاستقلال إلى التسعينيات) نموذج اقتصادي هجين وغير متجانس لا جدال في أن بلادنا قد تبنت في فجر الاستقلال مجموعة من الاختيارات الكبرى والقرارات الاستراتيجية، نذكر منها على سبيل الأهمية: - التعددية الحزبية في إطار الملكية الدستورية بينما كانت فيه العديد من دول العالم تحكمها أنظمة الحزب الواحد والوحيد؛ - تشجيع المبادرة الخاصة واقتصاد السوق في الوقت الذي كانت هناك هيمنة للاقتصاديات الموجهة في إطار الأنظمة الكليانية؛ - محاولة تكوين نخب اقتصادية وطنية وإعادة توزيع ثمار التنمية الاقتصادية ( عملية المغربة سنة 1973)؛ - اعتماد سياسة السدود التي تكشف بعد النظر والوعي الاستباقي في تثمين وتدبير الموارد المائية والطبيعية..... إلا أنه، ورغم أهمية هذه الاختيارات والمبادرات التي أقدم عليها المغرب، يلاحظ أن السياسة الاقتصادية الوطنية طيلة فترة الستينيات والسبعينيات وإلى حدود منتصف التسعينيات من القرن الماضي، لم تتسم بالاستقرار والتجانس المطلوبين، واعتراها التردد والتأرجح بين العديد من التوجهات والاستراتيجيات المتباعدة. الأمر الذي جعل مسار السياسة الاقتصادية ببلادنا مسارا حيث تتزامن وتتعاقب المفارقات والتقلبات الفجائية أحيانا. و يمكن حصر أهمها فيما يلي (9) : - وجود اقتصاد مزدوج موروث عن عهد الحماية، يعتمد على هياكل إنتاجية عتيقة مثل الإقطاع والريع، بموازاة مع نسيج اقتصادي عصري؛ - العمل بسياسة المخططات على فترات متقطعة ( الستينيات و السبعينيات)، أو التخلي عن المخططات دون إتمامها (الثمانينيات والتسعينيات)؛ - العمل، حينا، على إعطاء الأولوية للقطاع العام كمحرك للاقتصاد الوطني، والتقليص من مجال تدخله، أحيانا أخرى، لصالح القطاع الخاص في إطار عملية المغربة ومسلسل الخوصصة وغيرهما...؛ - وضع سياسات ميزانياتية توسعية وتنامي الانفتاح الاقتصادي وتشجيع المبادلات في مرحلة معينة، واستتباعها في مرحلة لاحقة بتدابير انكماشية وآليات للحمائية الاقتصادية... ويمكن إرجاع هذه الوضعية إلى عدة أسباب، نجملها أساسا كالتالي: - أولا: تبني نموذج اقتصادي بعينه دون توفير الشروط والظروف العامة التي تضمن له النجاح؛ - ثانيا: اعتماد اختيارات دون المضي في تفعيلها حتى نهايتها، واستبدالها بتدابير نابعة من نماذج اقتصادية أخرى؛ - ثالثا: وضع سياسات عمومية انطلاقا من مرجعيات اقتصادية واجتماعية مختلفة ومتباينة، مما يفيد بأن بلادنا على امتداد تلك العقود درجت على نهج نموذج اقتصادي هجين، ويفتقد إلى التجانس القمين برفع تحديات النمو والتطور. بطالة مرتفعة .. نمو هش.. موارد بشرية ضعيفة لقد ألقت هذه التقلبات والتأرجحات بظلالها السلبية على مناعة النسيج الاقتصادي ووتيرة إنتاجيته وقدراته التنافسية. كما ستوفر التربة الخصبة لإفراز عوائق بنيوية متراكبة ومستعصية. وفي هذا الصدد، يلاحظ أن الموارد البشرية لم ترق إلى المستوى الذي يجعلها تضطلع بدورها الأساسي في تحقيق التنمية وتحريك عجلة الاقتصاد، وذلك بسبب ارتفاع معدلات الأمية وإشكاليات النظام التعليمي (10). ويستخلص كذلك أنه، باستثناء الفترة الممتدة ما بين سنتي 1975 و 1981، ظلت سياسة الميزانية محايدة عموما وغير قادرة على الدفع بعجلة النمو وتطوير الدورة الاقتصادية(11). ومن جراء وجود مراكز قوى تتولى اتخاذ القرار بدل المؤسسات النظامية والرسمية، أصبح ضعف الحكامة المؤسساتية يقف معوقا عنيدا أمام التنمية الاقتصادية والاجتماعية نظرا لبعده الأفقي وكلفته الثقيلة التي تصل، حسب تقارير مختصة في هذا المجال، إلى نقطتين ونصف النقطة ( 2,5 ) من معدلات النمو خلال الثمانينيات والتسعينيات(12) . ومن بين النتائج المترتبة عن هذه العوائق، تدني مستويات النمو وهشاشته، وتفاقم التفاوت في الأجور الذي كان له انعكاس سلبي ومباشر على تطور النمو الاقتصادي. وقد انعكست هذه الظرفية بالسلب على سوق الشغل، إذ لم تكن وتيرة التشغيل كافية لامتصاص العرض، فارتفعت بذلك البطالة إلى معدلات قياسية بلغت نسبتها بالوسط الحضري حوالي 20 في المائة سنة 1995. هذا، وإذا كانت بلادنا قد حققت في بداية الستينيات دخلا فرديا يضاهي ما كانت تعرفه عدد من دول الضفة الشمالية من البحر الأبيض المتوسط وآسيا وأمريكا اللاتينية، فإنها لم تتمكن، في المقابل، وعلى غرار ما نجحت فيه هذه الدول، من استدراك العجز الحاصل في مستويات المعيشة خلال العقود اللاحقة. وهكذا فإن حجم الدخل الفردي المغربي تضاعف 4 مرات فقط في الفترة الممتدة ما بين 1960 و2000، بينما تضاعف حجمه 6 مرات في البرتغال، و16 مرة في سنغافورة، و20 مرة بالنسبة لماليزيا، و30 مرة في كوريا الجنوبية(13). 3. نحو نموذج اقتصادي واجتماعي جديد مع متم التسعينيات، ستبدأ القطيعة مع سياسة التأرجح والتردد هذه، بتداعياتها الخطيرة والمتزايدة على السلم والاستقرار الاجتماعيين، بحيث سيكون المجال الاقتصادي في صلب الانتقالات التي ستشهدها بلادنا في مختلف الميادين، وفي مقدمتها انطلاق مسلسل الانتقال الديمقراطي بتدشين تجربة التناوب التوافقي على أساس دستور جديد (1996)، والشروع في مصالحات كبرى: حقوقية (ماضي الانتهاكات) وثقافية (الرافد الأمازيغي) ومجتمعية ( مدونة الأسرة) ومجالية (إنصاف المغرب العميق)، وكذا المضي في بناء دولة القانون والمؤسسات، واحترام حقوق الإنسان، وتوسيع مجال الحريات. وعلى هذا النهج، ستباشر بلادنا إصلاحات هيكلية قطاعية ستعيد ثقة المستثمرين في الاقتصاد المغربي، كما ستعمل على تقوية الانفتاح الاقتصادي (الشراكة الأوروبية - التبادل الحر مع الولاياتالمتحدة _ الوضع المتقدم)، والرهان على مقاربة تنموية منطلقها الإنسان وغايتها الإنسان كذلك، من خلال ورش المبادرة الوطنية للتنمية البشرية. وفي ظل هذه الظرفية المشحونة بإرادية الإصلاح وإشارات الانتقال، سيبدأ التحول نحو نموذج اقتصادي واجتماعي جديد يتسم بالشمولية والوضوح والتجانس. وهكذا بدت لهذا النموذج ملامح ترتسم على أرض الواقع من خلال اعتماد جملة من التوجهات والإصلاحات والاستراتيجيات التي تصب أساسا على تعزيز الطلب الداخلي، وجعل المغرب قاعدة للاستثمار والتصدير، وتفعيل سياسة إرادية في التشغيل، وتقوية التضامن والتماسك الاجتماعي، ودعم الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين، وكذا نهج سياسة ترابية لتحقيق التنمية المتوازنة المندمجة والمستدامة. ولن تتأخر ثمار هذا النموذج الجديد، إذ سرعان ما ستشهد بلادنا دينامية غير مسبوقة في تحفيز المبادرة الخاصة وإنعاش الاستثمار، وتعبئة الجهود والموارد من أجل تدارك العجز الاجتماعي المتراكم، وتخطي النواقص المسجلة على مستوى التنمية البشرية. وهكذا، سيدخل الاقتصاد الوطني مرحلة جديدة في النمو، بحيث حقق _ وما يزال- ما بين سنتي 2000 و2009 معدلا سنويا يتراوح ما بين 4,8 و 5 % عوض 2,6 % ما بين سنتي 1991 و2000. ويلاحظ كذلك تحسن في الناتج الداخلي الفردي مقارنة مع القدرة الشرائية ما بين 1997 و2008. وابتداء من سنة 2000، سيرتفع الدخل الفردي بوتيرة أسرع تناهز نسبتها 6 % كمعدل سنوي. ومن جهة أخرى، تم تسجيل تراجع معدل البطالة بحوالي 5 نقط ما بين سنتي 1999 و2009 حيث انخفض من 13,8 إلى 9,1 % ( حوالي 8 نقط في الوسط الحضري). كما تميزت هذه الفترة بانخفاض بطالة حاملي الشهادات من 27,6 إلى 18,3 % (أي بأزيد من 9 نقط). ولقد حصل، كذلك، تقدم ملموس في مؤشرات التنمية (14) بفضل تدخلات المبادرة الوطنية للتنمية البشرية والبعد الاستراتيجي المتزايد للجانب الاجتماعي في السياسات العمومية، مما حذا بالعديد من المنظمات الدولية إلى التأكيد على أن بلادنا تسير بخطى ثابتة لتحقيق أهداف الألفية. ومن ثمة، انخفاض نسبة الفقر من 14,2 في المائة سنة 2004 إلى 9 % سنة 2007، بحيث تم تحقيق هدف الألفية المتعلق بهذه الآفة قبل الآجال المحددة في سنة 2015. ذلك أن عدد الفقراء قد تقلص تقريبا إلى النصف: من 4.5 مليون نسمة إلى أقل من 2,7 مليون نسمة خلال هذه الفترة. كما تراجع عدد وفيات الأطفال أقل من 5 سنوات ب50 %، ووفيات الأمهات عند الولادة ب42% بحيث انخفض سنة 2009 إلى 132 حالة لكل 100 ألف ولادة. أما بالنسبة لإلزامية التعليم الأولي، فقد بلغ معدل التمدرس حوالي 94.8 % في أفق تعميمه الشامل قبل سنة 2015. خلاصات ونتائج 1- إذا كانت الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية قد دفعت بالعديد من الدول والتكتلات للبحث عن نموذج اقتصادي كفيل بأنسنة الليبرالية وخلق اقتصاد اجتماعي للسوق، فإن الفكر التعادلي للزعيم علال الفاسي قمين بتوجهاته وتدابيره، بأن يشكل جوابا عن الأسئلة المرتبطة بالأزمة العالمية ومحاولات التعافي من تداعياتها، واستشراف آفاق ما بعد الأزمة. كما أن الحاجة المطردة اليوم، وأكثر من أي وقت ومضى ، إلى قيام تكتل اقتصادي مغاربي لمواجهة تحديات التنافسية والعولمة ومرحلة ما بعد الأزمة العالمية، يحيل أيضا على أحد أهم الرهانات والأهداف التي نصت عليها وثيقة التعادلية الاقتصادية والاجتماعية، ومن ذلك الدعوة إلى تشكيل تكتلِ الدول المغاربية في إطار «مجموعة اقتصادية أوسع_ (15)، وتحذير الزعيم علال الفاسي في مقام آخر من أن _أي عرقلة أو الوقوف في سبيلها لن يؤدي إلا إلى الأضرار بمستقبل المغرب العربي ومصيره_(16). وتفيد مختلف الدراسات والتقارير، سواء كانت قطرية أو إقليمية أو دولية، بأن فاتورة تَعَثُّرِ المشروع المغاربي تساوي اليوم أكثر من نقطتين (2) سنويا من الناتج الداخلي الخام على مستوى كل دولة على حدة. وبعبارة أخرى، إن تحقيق الاندماج المغاربي قد يؤدي إلى ارتفاع الدخل الفردي في المنطقة بحوالي 15 % سنويا (17) . ومن جهة أخرى، إن المنجزات الإيجابية التي تم تحقيقها في مجالات التنمية البشرية خاصة، والحرص المطرد على توجيه النمو الاقتصادي في خدمة الحاجيات الاجتماعية للمواطنين، كل ذلك من شأنه أن يعيد بقوة إلى الواجهة راهنية الفكر التعادلي، وتفاعل مبادئه ومنظوره السياسي والتنموي مع النهج الذي تسير عليه بلادنا في اعتبار العنصر البشري هو الرأسمال الحقيقي للنمو والتقدم. هذا، وينبغي التشديد على أن حرص بلادنا على تعميق أسس الممارسة الديمقراطية، والتوجه مستقبلا نحو الجهوية الموسعة، يجعلنا نستحضر مرة أخرى الفكر التعادلي في مفهومه للديمقراطية الشاملة، بحيث يقول صاحب النقد الذاتي في هذا الصدد: « أن الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كل لا يتجزأ، فلا مجال لتأجيل الحريات السياسية للحصول على الحريات الاقتصادية ... لأن الحريات متضامنة فيما بينها، وهي إما أن تكون كلها أو لا تكون_(18). إن راهنية التعادلية الاقتصادية والاجتماعية، تستدعي كذلك تحيين مضامينها وتوجهاتها لتشمل تحديات مستجدة، من قبيل: التنمية المستدامة والاقتصاد الأخضر، والتقلبات المناخية التي غدت التحدي الأكبر الذي يواجه حاضر الإنسانية ومستقبلها. 2- لقد استطاع النموذج الاقتصادي والاجتماعي الشمولي والمتجانس الذي انخرطت فيه بلادنا في العشرية الأخيرة، أن يحقق ارتفاعا في مستويات النمو في إطار استقرار التوازنات الماكرواقتصادية، ويصمد أمام الأزمة المالية والاقتصادية التي انهارت بسببها العديد من الاقتصاديات والدول كذلك، فضلا عن توجهه نحو تقليص العجز الاجتماعي المتراكم وتطوير التنمية البشرية. وهذه النجاحات الأولية، تستلزم منا المضي في هذا النموذج بتقوية فعاليته ونجاعته بما يعزز مكتسباتنا في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية، واستكمال أوراش الإصلاح المفتوحة في مجال الحكامة الرشيدة وإصلاح القضاء وتخليق الحياة العامة. 3- ضرورة تحصين هذا النموذج الجديد والفتي بتأهيل الحقل السياسي وفق مقاربة تجعل من العمل السياسي دافعا لعجلة التنمية البشرية، ومصدر قوة لدولة المؤسسات باعتبار أنها الوحيدة الكفيلة بتحصين هذا النموذج. فبعدما تمكنا من خوض معركة المشروعية بحيث تجاوزنا مرحلة التزوير في العمليات الانتخابية إلى مرحلة تطبعها الحرية والشفافية، سنكون مدعوين إلى الانتقال في مسيرتنا الديمقراطية، إلى معركة تقوية المؤسسات المكرسة للديمقراطية الحقة: من برلمان وهيئات منتخبة وأحزاب ومنظمات نقابية... وكما يقول عنها الزعيم علال الفاسي: _ معركة الديمقراطية طويلة وصعبة، ولكن لابد من خوضها والثبات فيها، إنها بطبعها ليست معركة عنف، ولكنها معركة سلام. وهي قبل كل شيء تربية للنفس ومران على أن نعتبر حقوقنا واقفة عند حقوق الآخرين. إنها في سعة الصدر وانفتاح القلب والتسامح في المعاملة، والتوفيق بين المتناقضات_(19) . هوامش: (+)- ندوة نظمتها مؤسسة علال الفاسي في موضوع: « المغرب: 100 سنة في تطور الاقتصاد الوطني»، في 29 ماي 2010 بالدار البيضاء، وذلك ضمن فعاليات الاحتفاء بالذكرى المائوية لميلاد الزعيم علال الفاسي. (1) _ Cf. Kenbib (Mohamed), Le Maroc indépendant 1955-2005 : essai de synthèse, rapport transversal in » 50 ans de développement humain et perspectives 2025 «, pp.9-13. (2) - Op.cit., p.10. (3) _ Ibid. (4) - راجع وثيقة «مطالب الشعب المغربي» التي تقدمت بها كتلة العمل الوطني سنة 1934. (5) - علال الفاسي، في المذاهب الاقتصادية، طبعة ثانية مزيدة، منشورات مؤسسة علال الفاسي، 2005، ص.60- 61. ومعركة اليوم والغد، الطبعة الثانية، مطبعة الرسالة، الرباط، 1999، صص. 80-92. (*)- أصدر الزعيم علال الفاسي وثيقة التعادلية الاقتصادية والاجتماعية في 11 يناير 1963. (6) - علال الفاسي، معركة اليوم والغد، صص. 72-73. (7) _ علال الفاسي: الرمز الخالد في الفكر والوجدان، خطب الأمين العام لحزب الاستقلال الأستاذ عباس الفاسي في مهرجانات ذكرى الزعيم، مطبعة الرسالة،2010، ص.109. (8) - علال الفاسي، في المذاهب الاقتصادية، ص.233 وما بعدها. (9) - Cf. - Baraka (Nizar), Benrida (Ahmed), La Croissance économique et l_emploi, rapport thématique in » 50 ans de développement humain et perspectives 2025 « ; - Kenbib (Mohamed), Ibidem. (10) - Baraka (Nizar), Benrida (Ahmed), Op.cit., pp.322-323. (11) _ Ibid, pp.309-312. (12) - حوالي نقطة من الناتج الداخلي الخام يهدرها الاقتصاد الوطني بسبب الرشوة، و 0,6 نقطة جراء ضعف البحث والتطوير في النمو، و0,9 نقطة لضعف المنافسة في الأسواق. راجع: - Boulhol(Hervé), Technology differences, institutions and economic growth : a conditional conditional convergence, Working paper, CEPII, N_ 2004-2, p.35. (13) - Baraka (Nizar), Benrida (Ahmed), Ibid, p.305-307. (14) - أهداف الألفية من أجل التنمية، التقرير الوطني 2009. (15) - علال الفاسي، في المذاهب الاقتصادية، ص.234. (16) - علال الفاسي، «اتحاد المغرب العربي»، ضمن جريدة صحراء المغرب، 27 فبراير 1958. (17) _ Cf. Pour une sécurité durable au Maghreb, Rapport spécial, Institut Thomas More, Avril 2010. (18) - علال الفاسي، دائما مع الشعب، مطبعة الرسالة، الرباط، ص.49. (19) - المرجع نفسه، ص.61.