كان الفكر الاقتصادي والفعل الاقتصادي، ولا يزالان، حاضرين بقوة في انشغالات حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ، سواء من خلال العمل النقابي وحضور مناضلي الحزب في الجمعيات ذات الطابع الاقتصادي أو من خلال المبدأ الذي دافع عنه الحزب دائما، في تناغم مع قناعاته السوسيو ديمقراطية، والمتصل بالعلاقة الحميمة بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية. و الاتحاد مدعو اليوم ، أمام كل هذه الأشواط التي قطعها الاقتصاد الوطني والتحولات السريعة التي تموج بها الساحة الاقتصادية الوطنية والدولية، إلى تطوير ومعالجة الجوانب الاقتصادية في برنامجه من أجل الاستجابة للتطلعات المشروعة في العيش الكريم. لذلك فخطابه ينبغي أن يكون واضحا وصريحا إزاء الإشكالات الاقتصادية الأساسية التي ترهن المعيش اليومي لفئات واسعة من المجتمع، وخاصة الطبقة المتوسطة التي أرسلت بعزوفها عن المحطات الانتخابية ، اشارات بينة علي مافقدته من مكاسب وما الت إليه قدرتها الشرائية من ضعف.. من ثمة لم يعد أمام الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية من خيار آخر غير اتخاذه مواقف تدعم بوضوح تحقيق المزيد من الرفاهية لغالبية المواطنين و تندد بصراحة بالفوارق الطبقية التي تتعمق حدتها بفعل احتكار وسوء توزيع الثروات. وتتمظهر هذه التفاوتات بشكل صارخ في في قطاع المقاولات ، حيث بضع شركات تسيطر على الحصة الكبرى من عائدات الاقتصاد، كما تتبدى في الشروخ الكبيرة بين الأجور سواء في القطاع الخاص أو في القطاع العمومي. من هنا يكون لزاما على الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أن يفتح نقاشا عميقا داخليا ومع المجتمع لإظهار أن سياسة توزيعية اقتصادية حقيقية، والتي لابد من منحها مضمونا ملموسا, من شأنها تحقيق نمو ورفاهية أوسع لأكبر عدد من الساكنة. عدنان الدباغ دائما جعل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية التنمية الاقتصادية للمغرب في صلب أولوياته. ولعل المبادرات الأساسية لبناء اقتصاد عصري، التي قادها الراحل عبد الرحيم بوعبيد، والنقاشات الاقتصادية القوية، التي تم نقلها تحت قبة البرلمان، وفي قلب هياكله الداخلية لما كان الحزب في المعارضة، فضلا عن الدور الذي اضطلع به داخل الحكومة من أجل حماية التوازنات الماكرواقتصادية، والتي مكنت المغرب من الانخراط في منحى تنموي إيجابي، (لعلها) دلائل أساسية على هذه المسألة. من المؤكد، وبالرغم من أن نضال الحزب لفترات طويلة من أجل بناء دولة الحق و القانون قد يبدو استحوذ على حصة الأسد من طاقاته وخطاباته لأسباب متصلة بالأولويات السياسية الاختيارية أو المفروضة، (من المؤكد) فإن التفكير والفعل الاقتصاديين كانا حاضرين في صلب انشغالات الحزب من خلال، بداية، العمل النقابي وحضور مناضلي الحزب في الجمعيات ذات الطابع الاقتصادي، وأيضا، وبشكل عام، من خلال المبدأ الذي دافع عنه الحزب دائما، في تناغم مع قناعاته السوسيو ديمقراطية، والمتصل بالعلاقة الحميمة بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية. الآن، وبعد أن أصبح التقدم المحقق على المستوى الديمقراطي معروفا ومعترفا به، سواء على الصعيد الداخلي، إذ أن أهم مطالب حزبنا في هذا الموضوع أضحت تراثا مشتركا في المشهد السياسي المغربي، أو على الصعيد الدولي، حيث إن منح المغرب وضعا متقدما في علاقاته بالاتحاد الأوروبي يشكل دليلا قاطعا إذا كانت هناك من حاجة لدلائل في هذا السياق. الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، إلى جانب حرصه على أن يظل يقظا بشأن حماية وتنمية هذه المكتسبات، هو مدعو إلى تطوير وبشكل ملموس الجوانب الاقتصادية في برنامجه من أجل الاستجابة للتطلعات المشروعة في العيش الكريم، لشرائح موسعة من المواطنين، التي دعمته على مدى تاريخه. وإذا كانت الكتلة الناخبة بالمغرب بشكل عام لا تلمس على مستوى معاشها اليومي أرباح المكتسبات الديمقراطية, فالشيء ذاته ينسحب على كتلتنا الناخبة التي «تقاطعنا» لأنها تعتبر أننا لم نعرف أو لم نستطع الدفاع عنها أثناء اقتسام «الكعكة». والتعبئة الضعيفة للطبقات المتوسطة في مختلف الاستشارات الانتخابية هو مؤشر لا يمكنه التضليل في ما يتصل بعدم الفهم لافتقاد الحزب رؤية واضحة لمواجهة ما تعتبره هذه الطبقات صيرورة طويلة لعملية الإجهاز التي تعرضت لها. وتتحقق «مصالحة» الاتحاد الاشتراكي مع جزء من كتلته الناخبة, والتي هي شرط لاستفاقته بل لبقائه حيا, (تتحقق) بالضرورة عبر تبنيه خطابا أشد وضوحا حول الإشكالات الاقتصادية الأساسية وأكثر من ذلك عبر اتخاذه مواقف تدعم بوضوح تحقيق المزيد من الرفاهية لغالبية المواطنين, والتنديد الواضح , كذلك, بالفوارق الطبقية التي تسم مجتمعنا. نحن واعون أن عوامل متعددة تعقد هذا التوجه المحتمل الجديد. وتساهم المشاركة الإرادية لحزبنا في حكومة في وضع أقلية, والخطاب المهيمن الذي يركز على الانشغالات الاجتماعية مع منحها مضمونا ماديا ليس كذلك, وأخيرا, لكن, ولربما بشكل أساسي, غياب برنامج اقتصادي بكل ما تحمله الكلمة من معنى والذي بمقدوره أن يبرز التباعد عن أو التقارب مع عمل الحكومة, كل هذا يساهم في استمرار الالتباس حول المواقف المتخذة. ألم يحن الوقت لتسليط الضوء على هويتنا الاجتماعية ? الديمقراطية, والتي أكدتها مختلف مؤتمراتنا, وتُمكن من رسم الطريق لتفكير ملتزم حول الإشكالية الاقتصادية؟ فرفض الليبرالية ومعها اقتصاد السوق وتبني المنظور الاجتماعي- الديمقراطي, ارتكز دائما على انتقاد التفاوتات الملازمة لاشتغال الليبرالية. والنهج الاجتماعي- الديمقراطي, من خلال قبوله بالديمقراطية البرلمانية واقتصاد السوق تميز عن الليبرالية بلجوئه إلى السلطات العمومية وخاصة الدولة لضبط وتقويم الشطط التفاوتي للسوق. بعبارة أخرى، النهج الاجتماعي- الديمقراطي هو في الأصل مقاربة للضبط تهدف بناء مجتمع أكثر تضامنا بل وأكثر مساواة, وهي حجر الزاوية لكل سياسة اجتماعية- ديمقراطية. توجد في المغرب التفاوتات الطبقية لنسق نماذج من واقع الحال على سبيل التدليل: - الساكنة القروية تشكل نسبة 42 في المائة من مجموع الساكنة المغربية, وهي تتقاسم 17 في المائة من الدخل الوطني بأشكال متفاوتة (كبار الفلاحين وصغار الفلاحين}. - 60 شركة بالمغرب مدرجة في البورصة تحقق أزيد من 80 في المائة من الأرباح, التي تحققها مجمل الشركات على اختلاف أحجامها. - التفاوتات في الثروات على المستوى المجالي هي فاضحة : اختلافات بين المناطق الاقتصادية. - التفاوتات في الأجور : الأجور العليا في أسلاك الوظيفة العمومية هي 50 مرة وما يزيد ضعف الحد الأدنى للأجور. هل تكفي هذه النماذج الصارخة على التفاوتات للدفاع عن سياسة اجتماعية ? ديمقراطية؟ فإذا كان الجواب على هذا السؤال بديهي بالنسبة لنا, فبالنسبة لآخرين هذه السياسة تظل مجرد مقاربة ل»تسوية» من تحت يترتب عنها تراجع في خلق ثروة عامة تُقاس بنسبة النمو المحققة على مستوى الناتج الداخلي الخام. يعود للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أمر فتح نقاش عميق داخلي ومع المجتمع لإظهار أن سياسة توزيعية اقتصادية حقيقية، والتي لابد من منحها مضمونا ملموسا, من شأنها تحقيق نمو أكبر ورفاهية لكافة المواطنين. في البداية رصد لواقع الحال: السياسة الاقتصادية الحالية, تحقق نسبة نمو متوسطة قدرها 5 في المائة، فهل يمكن لسياسة تركز على التوزيع أن تحقق نسبة نمو مماثلة إن لم تكن أفضل؟ وفي حال ما حققت نسبة مماثلة، فهذا مكسب في حد ذاته، طالما أنها سياسة تتميز بأنها أكثر عدلا، لكن إذا كان بمقدورها أن تحقق نسبة نمو أعلى من الحالية، بل أن تحقق 7 في المائة كنسبة نمو, فإن هذا سيكون ذا أهمية أكيدة. لماذا نسبة 7 في المائة كنسبة نمو هو الذي يرد باستمرار في مختلف النقاشات(المؤتمر السابع, مؤسسة عبد الرحمن بوعبيد، الاتحاد العام لمقاولات المغرب)؟ بكل بساطة لأنها نسبة تتيح امتصاصا نهائيا للبطالة، وخلق ما يكفي من مناصب الشغل، التي ستلتحق بسوق الشغل خلال السنوات القادمة. هذا بالنظر إلى أن التشغيل يظل الانشغال الأساسي للمواطن المغربي. أما التطورات التي ستترتب عن ذلك، فقد شكلت مضمون ورقة حول « النمو والشغل» تم تقديمها في المؤتمر السابع للحزب. كيف السبيل إلى تحقيق نسبة نمو 7 في المائة الكفيلة بضمان مستوى تشغيل مقبول؟ ليس في نيتنا استعراض الأرقام هنا، ومع ذلك لا مناص من التذكير أنه قبل خمس سنوات الآن, وحينما تم فتح هذا النقاش, كانت هناك قناعة مفادها أنه يكفي أن تتراوح نسبة الاستثمار في حدود 30 في المائة كي تصل نسبة النمو إلى 7 في المائة. ومعلوم أنه قد تم تجاوز نسبة الاستثمار هذه لكن دون أن تتعدى نسبة النمو 5 في المائة.فلماذا،إذن، لم ترتفع نسبة النمو بالرغم من توفر الإمكانيات؟ في هذا السياق، تم تقديم العديد من التفسيرات من قبيل : محدودية قدرة الاقتصاد المغربي على النمو, الاستثمار لم يستهدف القطاعات الإنتاجية (احتياطي الرأسمال), اختيار المناولة، نمط الحكامة. وفي اعتقادنا الراسخ, قد تم استبعاد السبب الأساسي، المتمثل في أن المغرب يعاني من مشكل جوهري يتصل بتوزيع ثمار النمو. هذا التوزيع، أو الاقتصاد الاجتماعي، يمكنه أن يتخذ أشكالا متعددة : سياسات التشغيل، التقاعد، الأسرة، الصحة، التعليم، السكن، تحويل المدن باتجاه القرى الخ... يترتب عن غياب سياسات اجتماعية إرادية إفقار للرأسمال البشري، الذي يتم اعتباره في العديد من البلدان رافعة نمو أساسية.مثلما يترتب عنه ضعف الاستهلاك الداخلي الذي هو محرك نمو على المدى البعيد. غياب أو ضعف التوزيع هذا, مثلما أوضحنا آنفا، يُجهز على قدرات الطبقات المتوسطة التي هي قاطرة كل نمو. المغرب يواجه وسيواجه بشكل أقوى تحديات عديدة في السنوات المقبلة، في ظل مناخ لا تمنح فيه العولمة «الهدايا»، ورفع هذه التحديات يرتهن إلى تعزيز الصف الداخلي من خلال جعل المغاربة أجمعين يشعرون أنهم مساهمين أساسيين في تقدم بلادهم، ليس كمروجين لشعارات فحسب، بل كمستفيدين من التطور الاقتصادي والاجتماعي التضامني. الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي رفض دائما تهميش الكفاءات وراهن على الإنسان،وعلى قدرته على تغيير بيئته، يتوجب عليه الآن أن يلعب دوره ويقدم برنامجا اقتصاديا طموحا يضع كافة المغاربة في صلب انشغالاته ويدفع بهم لتقديم أفضل ما لديهم. اقتراحاتنا في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية على المستوى الاقتصادي يتعين أن تنبثق عن التحاليل السابقة، وهي : 1- بناء اقتصاد منفتح،عصري، وفعال يتحقق عبر مقاربة شمولية ، تتبوأ القطاعات الاقتصادية موقعا أساسيا في صلبها الأولى، والثانية، والثالثة. ولابد من أن يكون نمو هذه القطاعات متناغما من خلال استعمال الإمكانيات البشرية, والتقنية, والمالية العامة والخاصة. حكامة اقتصادية جديدة يتعين أن ينصب انشغالها الأساسي على المنفعة الاقتصادية للمجموعة الوطنية, وتقليص حالات الريع. و استعمال أدوات التخطيط الدلالي وذلك هو المطلوب. - التوزيع العادل لثمار التنمية هو حجر الزاوية لكل سياسة اقتصادية تهدف إلى تأمين نمو قوي, حيث تُعتبر نسبة النمو المتوسطة 7 في المائة هدفا يضمن التشغيل التام في أفق محدد. يتعين أن يكون للسياسة الاجتماعية مضمونا يهدف, كما وسبق وأشرنا إلى ذلك, إلى تطوير الرأسمال البشري, الذي هو الثروة الرئيسة للمغرب. هذا المضمون, وفضلا عن كافة العناصر المذكورة آنفا, يتعين أن يتيح للمغرب تحسين ترتيبه ضمن مؤشر التنمية البشرية على المدى القصير. - تمويل هذه السياسة يفترض امتلاك مجموع الأدوات التي من شأنها ضمان سياسة اجتماعية إرادية, وخصوصا الأداة المالية والضريبية. - القطاع الخاص, خاصة مكون المقاولات المتوسطة والصغرى والمقاولات الصغيرة جدا ، يتعين أن يصبح رأس حَرْبَة لسياسة تتغيا إحداث المزيد من مناصب الشغل, والمزيد من الثروات، واستثمارا أفضل للفرص التي تسنحها السياسات القطاعية والمجالية (الجهوية) التي يتوجب إقرارها. على السلطات العمومية أن توفر لهذا القطاع الإمكانيات البشرية، وتيسر له الوصول إلى التمويل والابتكار بشكل يجعل منه المورد الأساسي للطبقة المتوسطة. المغرب, الذي وقع مع شركائه العديد من اتفاقيات التبادل الحر، لابد له من أن يحرص على أن يساهم تطبيقها إيجابيا في تنميته عبر إيلاء عناية خاصة لتنفيذها ووتيرة تفعيل بعض الالتزامات المترتبة عنها. ثم إن الوضع المتقدم للمغرب مع الاتحاد الأروبي، الذي قد يشكل مصدر فخر لنا، يحمل في طياته إكراهات غير محسوبة بالنسبة لقطاعنا الخاص ومستوى التطور البشري لمقاولاته. لفترة طويلة، ظلت غالبية نخبنا السياسية تعتقد أن النقاش الاقتصادي هو حكر على المتخصصين، بل حكر على أطر معزولة عن الحقائق الواقعية. والحال أن الناخبين، ومن خلال التركيز على انشغالاتهم الاقتصادية اليومية، أعادوا النقاش الاقتصادي إلى مكانه الحقيقي في صلب الديمقراطية. وبشكل من الأشكال، يمكننا أن نعتبر أن المغرب، على الأقل على هذا المستوى، يحرز التقدم.