بدأت فكرة المشروع النهضوي العربي في التبلور منذ عام 1988 في أعقاب انتهاء مركز دراسات الوحدة العربية من إنجاز مشروعه العلمي الكبير الذي حمل اسم: مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي (الذي أصدر المركز دراساته الجزئية والتركيبية) وطرحت توصياته - في جملة ما طرحت - الحاجة الى مشروع نهضوي (1). وقد أدرج المركز ضمن مخططه العلمي الموضوعات والقضايا التي تمثل مادة المشروع النهضوي كمسائل فكرية ذات أولوية في برامج النشر والندوات من أجل توفير مادة علمية يبنى عليها لبلورة رؤية نهضوية. في هذه الاثناء، كلف المركز بعض اصدقائه الباحثين بتقديم مقترحات حول تصور المشروع ومخططه، وتوصل الى مجموعة منها عرضت على مناقشات داخلية في عام 1996 وفي ماي 1997 عقد المركز حلقة نقاشية في القاهرة حضرها عدد من الباحثين العرب تدارست على مدى يومين مخطط المشروع الأولي، وادخلت عليه تعديلات، كما وضعت المخطط الاولي لندوة المشروع الحضاري النهضوي العربي. وقد عقد المركز هذه الندوة في فاس في عام 2001، وشارك فيها ما يزيد عن المئة باحث من التيارات الفكرية كافة، تناولت بحوثها ومناقشاتها - على مدار اربعة ايام - القضايا النهضوية الست التي تشكل اهداف المشروع وهي: الوحدة العربية، والديمقراطية، والتنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية، والاستقلال الوطني والقومي، والتجدد الحضاري، ونشر المركز الوقائع الكاملة للندوة ضمن كتاب صدر عنه في نهاية العام نفسه (2)، وشكل المركز، عقب الندوة مباشرة، لجنة صياغة مخطط المشروع في ضوء بحوث الندوة ومناقشاتها، وقد عقدت اجتماعها التمهيدي التشاوري في فاس. وكلف المركز باحثين بإعداد مقترحات لمخطط المشروع لعرضه على اللجنة في اجتماع قادم. وقد عقد الاجتماع هذا في لبنان في يوليوز 2001، وتناول خلال يومين من المداولات - مواد المخطط الأولي بالدرس والتدقيق، منتهيا الى اقرار صيغة شبه نهائية له، ما لبث المركز أن أقرها في صيغة نهائية في غشت 2001 مشكلا فريقا لتحرير فصوله من اعضاء لجنة الصياغة. وقد أعدت اللجنة الأوراق الثماني الخلفية لنص المشروع، في ضوء حصيلة ندوة فاس ومرفقات أخرى من مواد مرجعية للاستعانة بها لهذا الغرض. ثم سمي المركز أحد اعضاء لجنة الصياغة منسقا، وكلفه في صيف عام 2004 بتحرير المسودة الاولى لنص المشروع اعتمادا الى اوراق وبحوثه الخلفية ومادة ندوة فاس. و بعد انجاز المسودة الاولى، دعا المركز الى عقد اجتماع للجنة الصياغة في القاهرة (يوليوز 2005) لمناقشة المسودة حضره خمسة عشر عضوا من اعضائها الثمانية عشر، وبعد يومين من المناقشة أحيلت الملاحظات الى منسق التحرير قصد ادخال التعديلات اللازمة على النص. ثم دعيت لجنة الصياغة الى الاجتماع ثانية في القاهرة في يوليوز 2006 لمناقشة المسودة الثانية. غير ان العدوان الصهيوني على لبنان في حرب يوليوز 2006 واغلاق المطار والحصار الذي ضرب على لبنان حال دون سفر خمسة من اعضائها الى القاهرة، مما اضطر الى تأجيله لينعقد في شكل ندوة موسعة في بيروت في نونبر 2006، دعي الى المشاركة فيها باحثون من خارج لجنة الصياغة. ثم ادخل منسق التحرير ثانية التعديلات على مسودة النص لتعرض المسودة الثالثة بعد ذلك باشهر على المؤتمر القومي العربي (2007) وترسل الى عدد كبير من الشخصيات الفكرية والسياسية العربية لإبداء الرأي فيها، وتنشر على الموقع الالكتروني للمركز لعموم القراء العرب، للغاية نفسها. وبعد أن تجمعت حصيلة وفيرة من تعليقات لجان المؤتمر القومي العربي، وآراء المفكرين والباحثين والخبراء، كلف احد اعضاء لجنة الصياغة بإدخال التعديلات الواجبة على المشروع ليصير إلى مسودته الرابعة، وعقب ذلك عقدت لجنة الصياغة اجتماعا نهائيا في بيروت في 2009 لإبداء الرأي في المسودة لإدخال آخر تعديلات عليها. لقد حرص مركز دراسات الوحدة العربية، منذ بداية عمله في هذا المشروع، على مشاركة التيارات الفكرية كافة في انجازه (من قوميين واسلاميين ويساريين وليبراليين) حتى يأتي ممثلا نظرة الاطياف الفكرية والسياسية كافة بحسبانه مشروعا للأمة جمعاء لا لفريق منها دون آخر. ولقد كان الجميع مشاركا في المراحل كافة: من اعداد المقترحات والتصورات، الى فرق العمل التي ناقشت المخطط واقرته، الى الباحثين والمشاركين في ندوة فاس، الى اعضاء لجنة الصياغة وفريق التحرير. وهاهو المركز يطرح المشروع النهضوي العربي في صورته النهائية على الامة، واثقا من انه سوف يكون دافعا قويا لنضالها من أجل تجسيد اهدافه الستة في الواقع العربي، وناظما فعالا لهذا النضال. الفصل الخامس التنمية المستقلة أولا: ضرورة التنمية المستقلة يعاني الاقتصاد العربي تخلفا اقتصاديا واجتماعيا وعلميا بكافة المعايير، نتيجة للسياسات الاقتصادية المطبقة خلال العقود الثلاثة الماضية، من ناحية، ونتيجة علاقات التبعية التي انتهكت سيادة الدولة القطرية واخضعتها لإملاءات القوى المالية والاقتصادية الدولية، من ناحية اخرى، وهو ما ترتبت عليه آثار سلبية ضخمة في نمط تكوين واستخدام الفائض الاقتصادي، وتوجهات تراكم رأس المال، ومن ثم في مسارات التنمية في المجتمع العربي. وفضلا عن ذلك، ازداد الاعتماد على النقط ومشتقاته زيادة كبيرة، مما عمق من الطبيعة الريعية للاقتصاد العربي، لقد تحول الاقتصاد العربي تدريجيا إلى اقتصاد ريعي يقوم على المضاربات العقارية والمالية، وتراجعت القطاعات المنتجة الزراعية والصناعية تراجعا ملموسا، وهو ما اسفر عن تزايد الانكشاف على الخارج الى مستويات خطيرة. كما ادى نمط توزيع الريع وإعادة تدويره في المجتمع العربي الى مزيد من البطالة والفقر والتهميش الاقتصادي والاجتماعي لفئات واسعة من سكان الوطن العربي. وفي ضوء ما تقدم تعتبر «التنمية المستقلة» ضرورة تاريخية لتصحيح المسار التنموي، حيث انها ترد الاعتبار الى مفهوم الدولة التنموية التي غابت عن الوطن العربي، وغاب معها دورها الريادي والتوجيهي الضروري للخروج من التخلف و التبعية. والتنمية المستقلة ضرورة اقتصادية واجتماعية لضبط اتجاهات التراكم الانتاجي والتطور التكنولوجي في القطاعين العام والخاص من جهة، ولتأمين عدالة توزيع ثمار النمو الاقتصادي من جهة اخرى. وفضلا عن ذلك، فإن التنمية المستقلة ضرورة سياسية لحماية القرار الوطني وصيانة استقلاليته، على الصعيدين القطري والقومي. وحتى لا ينظر البعض الى مقولة التنمية المستقلة على انها مجرد حنين الى الماضي، او على انها تشبث بمثاليات لم يعد هناك مجال لتحقيقها في زمن العولمة، فسوف تلقي فيما يلي المزيد من الاضواء على مفهوم التنمية المستقلة، وعلى المبادئ التي يجسدها، والركائز التي يقوم عليها، التي يمكن الاهتداء بها، فيما لو انعقد العزم على تحقيق التنمية المستقلة في الوطن العربي. ثانيا: مفهوم التنمية المستقلة من الخطأ الاعتقاد بأن الحديث عن التنمية المستقلة في عصر العولمة يمثل ضربا من الخلط النظري، أو نوعا من الحنين غير العقلاني الى عهد مضى، وهذا الخطأ ناجم عن فرضيتين مغلوطتين عن التنمية المستقلة: اولاهما، افتراض أن التنمية المستقلة تعني الاكتفاء الذاتي او الانقطاع عن العالم. وهو ما لم يقبل به احد ممن دافعوا عنها في الماضي وفي الحاضر. وثانيتهما، افتراض أن ادماج الاقتصادات النامية في السوق العالمي بالشكل المطلق الذي فرضته القوى الاقتصادية المهيمنة، يمكن ان يؤدي الى تنمية حق. واذ يجانب فهم الشروع النهضوي العربي للتنمية المستقلة هذين الفهمين الخاطئين لهذا، فإن المضمون الحقيقي لهذا المفهوم سوف يزداد وضوحا بتناول ثلاث نقاط في غاية الاهمية، وذلك على النحو التالي: 1 - الاستقلال والاعتماد الذاتي صنوان إن استقلالية التنمية لا تعني العزلة او القطيعة الكاملة مع العالم الخارجي، والانكفاء على الذات او «الاكتفاء الذاتي المطلق» فليس هذا من الامور الممكنة في العالم المعاصر، فضلا عن انه يجافي المنطق الاقتصادي السليم. وانما جوهر استقلالية التنمية هو توفير اكبر قدر من حرية الفعل للارادة الوطنية المستندة الى تأييد شعبي حقيقي، في مواجهة عوامل الضغط التي تفرزها آليات الرأسمالية، وفي مواجهة القيود التي تفرضها المؤسسات الراعية والحارسة للنظام الرأسمالي العالمي، ومن ثم توافر القدرة على التعامل مع الأوضاع الخارجية بما يصون المصالح الوطنية. ان الاستقلال في عالم اليوم هو امر نسبي بالضرورة. والمراد به هو تأمين مستوى معقول من السيطرة الاجتماعية على شروط تجدد الانتاج و تسخير العلاقات الخارجية لخدمة مصالح التطور الداخلي، مع استهداف اشباع الحاجات الاساسية للسكان، وبناء هيكل اقتصادي متطور ذي تشابكات قوية فيما بين قطاعاته المختلفة. ولما كان الاستقلال نقيض التبعية والاعتماد على الخارج، فإن استقلالية التنمية تعني - ضمن ما تعني - ا عتماد التنمية على القوى الذاتية للمجتمع في المقام الاول. وفي مقدمة هذه القوى القدرات البشرية والمدخرات الوطنية، وذلك دون استبعاد اللجوء الى الخارج للحصول على معونات او قروض او استثمارات او تكنولوجيا، وذلك بشروط مؤاتية، ودونما قيود تجور على حرية الارادة الوطنية، وباعتبارها عوامل ثانوية تكمل الجهد الوطني وتعززه، ولكنها لا تحل محله ولا تغني عنه. 2- التعامل الصحيح مع العولمة ان العولمة ليست كتابا مقدسا، اما ان يؤخذ كله، واما ان يترك كله، ذلك ان تباين مستويات التطور الاقتصادي والاجتماعي للدول يستوجب ان يكون لديها مجال للانتقاء والاختيار من مكونات العولمة. فتأخذ كل منها ما يتلاءم مع ظروفها ومستوى تطورها. وليس هناك ما يحول دون تفكيك حزمة العولمة، وافساح المجال امام الدول النامية لاختيار ما يناسب اوضاعها. ولقد تعاملت الدول الغنية مع العولمة على أنها حزمة قابلة للتفكيك، وفككتها فعلا، وانتقت منها ما يوافق مصالحها. ولكنهالا ترغب في اتاحة مثل هذه الفرصة للدول النامية. بل انها تمارس ضغوطا شتى عليها كي تلتزم بالتحرير المتعجل والشامل لتجارتها، وكي تلغي الدعم عن صناعاتها الناشئة، وكي تزيل القيود على دخول الاستثمارات الاجنبية اليها، وتلتزم التزاما اعمى بجميع اتفاقات منظمة التجارة العالمية، وكي تدخل في مناطق حرة او شراكات مع الدول المتقدمة. وان الرسالة التي يمكن استخلاصها من تجارب التنمية الناجحة هي ان على البلد المعني السعي الى تنمية نفسه بنفسه اعتمادا على قدراته الذاتية، مع الاستفادة المحددة من بعض جوانب العولمة، مثل التقدم في المعلوماتية والاتصالات، والاستثمار الاجنبي، واسواق المال الدولية. 3 - المبادئ الناظمة للتنمية المستقلة ان مفهوم التنمية المستقلة في المشروع النهضوي العربي يستند الى مبادئ خمسة ناظمة تؤسسه و تميزه. المبدأ الأول، هو تحرير القرار التنموي القطري والقومي من السيطرة الأجنبية، دون ان يعني ذلك الانقطاع عن افضل منجزات البشرية في العالم المعاصر، ويتطلب ذلك تعبئة الموارد الذاتية للامة وتنميتها وتوظيفها باقصى كفاءة ممكنة. والمبدأ الثاني، هو اعتماد مفهوم واسع للرفاء الانساني- كغاية تنموية - يتجاوز التعريفات الضيقة المقتصرة على الوفاء بالحاجات المادية للبشر الى التمتع بالمكونات المعنوية للتنعم الانساني مثل الحرية (حرية الفرد والمجتمع والوطن)، والمعرفة، والجمال. والمبدأ الثالث، هو أن المعرفة مصدر أساسي للقيمة في العالم المعاصر، وذلك بالطبع إلى جانب تراكم الاصول الانتاجية. ولذا، فإن إقامة مجتمع المعرفة صارت عنصرا من العناصر الجوهرية للتنمية الحقيقية. والمبدأ الرابع، هو إنشاء نسق مؤسسي فعال موجه نحو التكامل القومي، وصولا الى ما يمكن تسميته «منطقة مواطنة حرة عربية». ومن المهم هنا التمييز بين مرحلتين: الاولى مرحلة التنمية التكاملية التي يتولاها كل قطر لتحقيق تكامل داخله وفيما بين الاقطار، والثانية مرحلة تكامل إنمائي يتولى فيه الكيان التكاملي تسيير دفة التنمية. وتتوافق المرحلة الاولى مع مرحلة بناء المشروع النهضوي، بينما تتوافق المرحلة الثانية مع مرحلة تسييره. والمبدأ الخامس، هو الانفتاح الايجابي على العالم المعاصر، بغرض الاستفادة من أفضل منجزات البشرية، كما سيرد لاحقا. وانطلاقا من هذه المبادىء تتحدد ركائز المشروع النهضوي للتنمية المستقلة، على النحو الآتي: ثالثا: ركائز التنمية المستقلة يقوم بنيان التنمية المستقلة على سبع ركائز أساسية: الركيزة الاولى: تسليح الاقتصاد بأكبر قدر من قوة الدفع الذاتي وتمكينه من مواجهة الصدمات الخارجية. تسعى التنمية المستقلة الى بناء أكبر قدر من قوة الدفع في الاقتصاد. والمقصود بهذا هو أن تكون عمليات التنمية متمركزة حول نفسها. ويقاس ذلك بقوة علاقات التشابك وعلاقات الترابط الامامية والخلفة في بنية الانتاج في الاقتصاد العربي، على الصعيدين القطري والقومي. ويمكن تحديد تلك الدرجة من التماسك للهيكل الانتاجي، من خلال تحديد تلك «النواة» الصلبة التي تشمل مجموعة السلع والخدمات الرئيسية التي تعتمد عليها أنشطة الاقتصاد العربي بصفة مباشرة. فبقدر ما تكون تلك النواة متماسكة قطريا وقوميا، بقدر ما يتمكن الاقتصاد العربي من امتلاك مقومات الاستقلال الذاتي. وبإيجاز فإن التنمية المستقلة تستدعي انتقال الاقتصاد العربي من الحالة «الربعية» السائدة حاليا الى الحالة «الانتاجية». ومن المهم تقوية قدرات الاقتصاد العربي على مقاومة الصدمات الخارجية، وذلك من خلال وسائل مختلفة، من أبرزها الوسائل الثلاث التالية: - تخفيض الاعتماد المفرط على الاستيراد السلعي والخدمي، ولاسيما في مجال الحبوب الغذائية والسلع الوسيطة والرأسمالية، والمعارف الانتاجية، والخدمات العلمية التكنولوجية. ويجب ان تحظى مسألة تحقيق أكبر قدر من الامن الغذائي والمائي بأولوية عليا. وفي هذا الصدد يجب ان تتضافر جهود التنمية من أجل توسيع الاستثمار في قطاع الزراعة بشكل عام، وفي إنتاج الحبوب بشكل خاص (ولاسيما القمح)، وذلك في الاقطار العربية ذات المزايا النسبية في زراعة الحبوب، والتعاون في تنفيذ البرامج والمشروعات اللازمة للوفاء بمتطلبات الامن الغذائي العربي، وتقليص الاعتماد المفرط على استيراد الحبوب. ويرتبط بذلك تطوير المصادر التقليدية وغير التقليدية للمياه، سعيا الى تحقيق أكبر قدر من الامن المائي على صعيد الوطن العربي. - تنويع سلة الصادرات السلعية والخدمية للاقتصاد العربي وتحسين نوعية المنتجات أيضا، اذ أن تنويع وتطوير سلة الصادرات - بما يقلل من الاعتماد المفرط على النفط ومشتقاته - يعتبران ضرورة لحماية الاقتصاد العربي من التقلبات الدورية للنظام الاقتصادي العالمي، والتدهور في «شروط التبادل». - حصر حجم الدين العام الخارجي - ان كان هناك ما يدعو إليه أصلا - وأعباء خدمته، في حدود السلامة والامان، وذلك لمقاومة الضغوط الخارجية، ولتفادي ابتزاز الدائنين لصناع القرارات العربية. الركيزة الثانية: الاعتماد على الذات ماديا وبشريا لما كان اعتماد التنمية على القوى الذاتية للمجتمع يعني في الاساس الاعتماد على القدرات البشرية وعلى المدخرات الوطنية، فإن عناية خاصة ينبغي ان توجه الى النهوض بهذين العنصرين، وذلك على النحو التالي: - تقوية رصيد رأس المال البشري يتطلب هذا العنصر تطوير نظم التعليم والتدريب، على الصعيدين القطري والعربي، والارتقاء بالتركيب المهاري لقوة العمل العربية، بما يجعل الاعتماد على الخبرة الاجنبية في أضيق الحدود. ويقتضي ذلك، الشروع في عملية التعميق التكنولوجي، ودفع «أنشطة البحوث والتطوير»، وتطوير الانتاج القائم على المعرفة، باعتبارها شروطا ضرورية لإحداث زيادة ملموسة في مستويات الانتاجية في مختلف فروع النشاط الاقتصادي، وجعل الاقتصاد العربي أكثر قوة ومتعة، وخاصة على صعيد التنافسية في المستويين الاقليمي والدولي. وتنطلق نظرة المشروع النهضوي العربي الى دور المعرفة في التنمية المستقلة من توجهات استراتيجية ثلاثة: - يتمثل التوجه الاول في بناء رأسمال بشري راقي النوعية، عن طريق تعميم التعليم وإطالة مدته الإلزامية الى عشر سنوات على الاقل، وإحداث نسق مؤسسي لتعليم الكبار مستمر مدى الحياة، وإدخال وسائل ضمن مراحل التعليم كافة تكفل الترقية المستمرة لنوعية التعليم. ولاشك في أن ذلك يستوجب ان توفر البلدان العربية موارد أضخم للتعليم، وأن تزيد من كفاءة استغلالها. ويتمثل التوجه الثاني في صوغ علاقة تضافر قوية بين التعليم والمنظومة الاجتماعية والاقتصادية على النحو الذي يترابط فيه التعليم مع التنمية، ويتحول الى أولوية في عمل الدولة وقطاع الاعمال والمجتمع المدني. غير أنه من الضروري ان تصاغ العلاقة بين التعليم والمنظومة الاجتماعية والاقتصادية بحيث لاتقف عند جعل التعليم مطلبا لرفع مستوى الانتاجية، بل تعتبر التعليم ركنا أساسيا من أركان نوعية راقية للحياة، والإسهام في بناء نهضة حضارية متجددة. والتوجه الثالث يتمثل في إقامة برنامج لتطوير التعليم على الصعيد العربي يقوم على أساس شراكة قوية بين الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدني، اذ أن الحاجة أضحت ماسة اليوم الى قيام سلطة تعليمية فوق - قطرية وفعالة على الصعيد العربي. وسوف يكون من المهام الاولى لهذه السلطة مواجهة الاختراقات الاجنبية لمنظومة التعليم التي من خلالها تتوارى اللغة العربية، وتفرض قيم مجتمعية غريبة نفسها على المجتمعات العربية. إن هذه التوجهات الاستراتيجية هي عينها التي تحكم الرؤية الى قطاع البحث العلمي والتقني ودوره المركزي في عملية التنمية، والحاجة الى تطوير هذا القطاع على الصعيد الوطني، وعلى الصعيد العربي لسد احتياجات الوطن العربي، والحد من اللجوء إلى استيراد ما يمكن توفيره ذاتيا من خبرة علمية ومن تقانة. وربما يمكن سد جانب من العجز الذي يعانيه الوطن العربي في مجال رأس المال البشري العالي النوعية، وبوجه خاص في قطاع البحث العلمي، فضلا على رؤوس الاموال، من خلال الاستعانة بالعقول والاموال العربية في الخارج، وهو ما يقتضي تقوية الاواصر بين الكفاءات المهاجرة وأوطانها، وتنفيذ برامج تحقق الاستفادة من خبرة هذه الكفاءات حتى مع استمرار عملها في الخارج، ودعم البلدان العربية لتنظيمات الكفاءات المهاجرة حتى تصبح شكلا مؤسسيا لعلاقة ذات اتجاهين تقوم بين المهاجرين وأوطانهم. على أن هذه السياسة ينبغي ان توازيها سياسة أخرى عمادها العمل على الحد من هجرة الكفاءات الى الخارج، وذلك من خلال تعطيل الآليات التي تؤدي الى نشوء ظاهرة هجرة الكفاءات، وتوفير المناخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي المناسب الذي يؤمن لها فرص العمل الكريم ويشجعها على البقاء في أوطانها. - إحداث زيادة ضخمة في المدخرات الوطنية ان إحداث زيادة ضخمة في معدل الادخار المحلي شرط لا غنى عنه لاستقلالية التنمية واطرادها، مهما ترتب عن ذلك من تضحيات ومشاق، ذلك ان التنمية التي قدر لها الاستمرار والتواصل في الزمن الحديث هي تلك التي قامت على المدخرات الوطنية وتراكم رأس المال. ولا مجال هذا لتكرار نمط الاستهلاك الغربي المسرف والمبدد للموارد. كما أنه من الخطأ تصور أن التنمية يمكن ان تحدث على نطاق يعتد به، اعتمادا على أن المعونات الاجنبية والاستثمار الاجنبي يمكن ان يحل محل الادخار المحلي في انجاز التنمية. وفي الحقيقة ان الاستثمار الاجنبي المباشر على المستوى العالمي، لم يتدفق بغزارة، بشكل عام، إلا على البلدان التي نجحت في الارتفاع بمعدلات ادخارها المحلية ارتفاعاً كبيراً. ومن جهة أخرى، وفيما يتعلق برأس المال العربي، والقادم من البلدان العربية المنتجة للنفط أساساً، فإنه ينبغي تصويب حركته نحو الداخل العربي، والحد من تدفقه نحو الخارج، ضماناً لحسن الاستفادة منه في عملية التنمية على المستوى العربي. الركيزة الثالثة: الدولة التنموية والتخطيط الشامل إن خبرات التنمية في العالم المعاصر تشير إلى أن الدولة كان لها دور محوري في تحريك قوى التنمية، وفي تأمين اطرادها، وأن دور الدولة لا يكون تنموياً بحق إذا اقتصر على التوجيه والتحفيز، وعلى تهيئة المناخ الاستثماري وتحسين البنية الأساسية، بل يلزم أن يضاف إلى هذه المهام ثلاث مهام، لا غنى عنها: المهمة الأولى، السيطرة على الفائض الاقتصادي ومركزته، وذلك من خلال العمل على ترشيد الاستهلاك والاستيراد بغية رفع معدل الادخار المحلي رفعاً محسوساً، والسعي إلى تحويل أكبر قدر من الفائض الاقتصادي المحتمل إلى فائض اقتصادي فعلي. المهمة الثانية، الاشتراك المباشر للدولة في مجال الإنتاج والاستثمار الإنتاجي، حيث تقصر السوق والرأسماليات المحلية والاستثمار الأجنبي عن تنفيذ برنامج متكامل للتصنيع والتنمية الشاملة. واتصالا بهذه المهمة، فإن التصدي لمشكلات القطاع العام لا يكون بالخصخصة في حد ذاتها، وإنما بتوفير سبل العلاج الفني والاداري والمالي والتسويقي لهذا القطاع، وبمحاربة الفساد فيه، وفي المجتمع ككل. المهمة الثالثة، النهوض بالقدرات العلمية والتكنولوجية الوطنية، وتأمين تكامل الأنشطة العلمية والتكنولوجية الوطنية مع متطلبات البرنامج المتكامل للتصنيع والتنمية الشاملة. وإن أداء هذه المهام لا يستقيم ما لم تحتويها وتنسّق بينها خطة للتنمية الشاملة. والقول بذلك لا يعني استبعاد آليات السوق كليا، وإنما يعني أن يُنظر الى التخطيط كأداة أساسية ورئيسية لتوجيه حركة الاقتصاد والمجتمع، وأن يُنظر الى السوق كأداة مساعدة تعمل في الحدود التي ترسمها الخطة الشاملة. وكما يُعهد الى التخطيط بمهمة التوجيه الاقتصادي، دونما استبعاد لقوى السوق، تفترض التنمية المستقلة أن تتولى الدولة من خلال قطاع عام كفي عجلة القيادة الاقتصادية الحقيقية، وذلك مع إتاحة المجال لنشاط للقطاع الخاص الوطني المنتج، الذي تتكامل نشاطاته مع الخطة، لا مع توجهات الشركات الدولية. الركيزة الرابعة: عدالة توزيع الدخل والثروة من المتفق عليه، أنه كلما ازداد تمركز توزيع الدخل والثروة في أدي ألية مترفة في قمة التوزيع، ساعد ذلك على إضعاف تماسك النسيج الاجتماعي، إذ إن غياب العدالة في توزيع الدخل والثروة على مدار الزمن يوسّع الهوة بين نخبة اقتصادية واجتماعية متنفذّة من ناحية، وأغلبية من السكان من الفئات الوسطى ومحدودة الدخل والقدرة من ناحية أخرى. ولذا، فإن التنمية المستقلة تستوجب التوزيع العادل للدخل ولثمار النمو، وذلك على النحو المبين في الفصل الخاص بالعدالة الاجتماعية من هذه الوثيقة. إن التوزيع العادل للدخل والثروة يشكل قوة مقاومة للأمة في مواجهة المحن والأزمات، وذلك بفضل ما يتولّد عنه من شعور بالتماسك والتضامن والتكافل. وعلى العكس من ذلك، فإن التفاوتات الواسعة في توزيع الدخل والثروة تضعف الانتماء الى الأمة، وتنشر الإحباط، وتزيد من نزيف العقول والمهارات إلى الخارج. وفضلا على ما تقدم، فإن لعدالة توزيع الدخل والثروة دور إيجابي مهم في النمو الاقتصادي، وذلك بفعل ما ينتج عنها من تحسين في القدرات البشرية والإمكانيات الإنتاجية وإشباع الاحتياجات الاستهلاكية للعاملين في المجتمع. وثمة أهمية قصوى أيضاً لتضييق الفوارق الاجتماعية من حيث الدخل والثروة، من منظور تشييد ركيزة أخرى من ركائن التنمية المستقلة، وهي الديمقراطية التشاركية أو ديمقراطية المشاركة، التي نتناولها في البند التالي: الركيزة الخامسة: «الديمقراطية التشاركية»، ومكافحة الفساد ترتبط التنمية المستقلة بمسألة التحول الديمقراطي في البلدان العربية، بما له من دلالات إزاء توجهات السلطة العامة. ونشير هنا، بصفة خاصة، إلى ضرورة تحرير القرار القطري والقومي من السيطرة الأجنبية، مما يستوجب وجود سلطة سياسية ونخب قيادية في المجتمع ترتبط عضويا بمصالح شعوبها وتطلعاتها. والمشاركة السياسية للمواطن العربي حق من الحقوق الأساسية للإنسان، التي تحتل مكانة مرموقة في نهج التنمية المستقلة. كما أن المشاركة الشعبية في اتخاذ القرارات ومتابعة تنفيذها هي المدخل الصحيح الى توليد الطاقة المعنوية والروحية التي لا تتحقق التنمية في غيابها. والحق أن المشاركة الفعالة يجب أن تتجاوز «الديمقراطية التمثيلية» التي تقوم على علاقة غير مباشرة بين المواطنين والدولة من خلال المجالس المنتخبة، إلى «الديمقراطية التشاركية» التي تضيف الى التمثيل النيابي، روابط أكثر مباشرة بين المواطنين والدولة، مثلا من خلال إتاحة فرص مشاركة المواطنين في مجالس إدارة المرافق العامة ووحدات الإنتاج. إن الديمقراطية التشاركية هي صمام الأمان ضد الفساد، وهي الوسيلة الناجعة لمكافحته. ولعله من المستقر الآن، أن استشراء الفساد وتغلغله في دوائر الحكم والأعمال في الوطن العربي، يُضعفان فرص استقلالية القرار على المستويين القطري والقومي. كما أنه يؤدي الى ضعف المناحة المجتمعية وتآكلها. ولذا، فلابد من تقوية آليات المكاشفة والرقابة والمساءلة، حتى يمكن كشف الفساد وتصفية جيوبه قبل أن يستفحل، حماية لمسيرة التنمية المستقلة. الركيزة السادسة: الانفتاح الإيجابي وضبط العلاقات الاقتصادية مع الخارج على خلاف ما يذهب إليه أنصار العولمة الرأسمالية والليبرالية الاقتصادية الجديدة من أن مجرد تحرير التجارة وفتح الاقتصادات وتوجّهها نحو الخارج يحفز النمو الاقتصادي، يذهب أنصار التنمية المستقلة إلى أن النمو هو قاطرة التجارة، لا العكس، وأن ما يجذب الاستثمار الأجنبي هو توافر إمكانات حقيقية للنمو في الاقتصاد الوطني من خلال معدل مرتفع للادخار والاستثمار، وأن «تحرير» حركة الاقتصاد قبل إحراز تقدم ملموس في بناء الطاقات الإنتاجية للدولة، وتكوين مزايا تنافسية يعتد بها، يمكن أن يقوّض فرص التنمية. وليس معنى هذا أن انفتاح الاقتصاد الوطني على الاقتصاد العالمي مرفوض من حيث المبدأ، وإنما المقصود هو أن يكون مثل هذا الانفتاح متدرّجاً وانتقائيا ومحسوباً في كل الأحوال، في ضوء الشوط الذي قطعته كل دولة على طريق التقدم، وهذا هو «الانفتاح الإيجابي». الركيزة السابعة: التكامل الاقتصادي العربي والتعاون مع دول الجنوب تستوجب التحديات المشتركة التي تجبه البلدان العربية وسائر دول الجنوب في سعيها الى التنمية في الظروف العالمية الراهنة أن تتعاون هذه الدول فيما بينها الى أقصى حد ممكن. فالقدرة على مواجهة هذه التحديات جماعيا ستكون أكبر، بلاشك، من قدرة كل دولة منفردة على مواجهتها. وإذا كان التعاون فيما بين دول الجنوب واجباً، فإن التعاون فيما بين البلدان العربية أوجب لأسباب كثيرة باتت في حكم البديهيات، من فرط تكرار الحديث عنها. وحسبنا أن نشير في هذا الصدد إلى الأهمية التنموية للتعاون والتكامل العربيين. إن حجم الاقتصادات القطرية يشكل قيداً مهما يعوق إمكانات التنمية المستقلة. فكلما صغر حجم الاقتصاد القطري، ازدادت صعوبة تحقيق التنمية المستقلة زيادة قد تصل الى حد الاستحالة، وذلك مهما حسنت أو صدقت النوايا. وهكذا، فإن هناك حجما أدنى للفضاء الاقتصادي الذي يسمح بتحقيق «وفورات النطاق» اللازمة لتحقيق مستوى ملموس من التنمية. ولذا، فإن خلق منطقة تكاملية اقتصادية عربية تعتبر ضرورة اليوم أكثر من أي وقت مضى. فمن خلال هذه المنطقة يمكن فتح الأسواق القطرية ودمجها، وإقامة صناعات حديثة وأنشطة خدمية وتكنولوجية متطورة، يكون لها مردود اقتصادي وعائد إنمائي وتكاملي ملموس. كما أن إنشاء مثل هذه المنطقة يساعد في تطوير إطار عربي للتفاوض مع الشركات الدولية النشاط والمؤسسات المالية الدولية، من أجل تعظيم المكاسب وتقليل الخسائر للاقتصاد العربي. وأخيراً، إن تحقيق شروط الحد الأدنى للحجم يساعد على تشكيل الكتلة الحرجة الضرورية لتحقيق حد أدنى من مقومات التنمية المستقلة على الصعيد العربي، الأمر الذي يشكل أساساً موضوعياً لاكتمال عناصر القوة الاقتصادية للأمة العربية.