شكلت المدينة أهمية تاريخية لدى الإسبان تحديدا، فتكررت محاولات احتلالها عبر حقب مختلفة من التاريخ الحديث و المعاصر، و قد سابقوا الزمن لتهيئ المدينة و المرور بها إلى مصاف أجمل الحواضر بالعالم، و أسسوا نظاما تعليميا إسبانيا بسرعة البرق، لتنشئة جيل جديد متشبع بالقيم الغربية و الانتماء إلى الوطن المحتل، كل هذا بقناعة المسيطر الذي لا نية له أبدا في ترك المستعمرة، بقناعة من سيدخل دون رجعة كما فعلوا بسبتة و مليلية و باقي الثغور المحتلة، فأخذوا على عاتقهم إرساء دعائم الاقتصاد، " صناعة، فلاحة، صيد بحري، مبادلات" و تهيئ بنيتها التحتية، " مطار، سكة حديدية، قناطر و طرق، ميناء كبير".. ثم استقدموا أعظم مهندسيهم و أكبر مقاولات البناء لتأسيس مجال حضري على أعلى مستوى " سوق نموذجي، مسرح، قاعات سينمائية، نوادي ترفيهية، كازينوهات، كنائس..." ثم أسست بمنهجية عالية كل ركائز الحياة المدنية و العسكرية " ثكنات، مستشفيات، مدارس، ثانويات و معاهد، ومجمعات سكنية حسب الأعراق و الإمكانيات و الرتب الاجتماعية.." لتتكون لدينا في النصف الأول من القرن 20 شرائح اجتماعية جديدة و نمط عيش مجنون بالاختلاف والغنى و التمازج العجيب بين ما هو محلي أصيل و ما هو عصري دخيل.. في أواسط القرن الماضي بلغ التطور و التمدن أوجه بمدينة العرائش و بدأ المستعمر يجني قطاف زرعه.. حيث نشأ له جيل جديد متشبع بالثقافة الغربية سواء من المعمرين أنفسهم أم من السكان الأصليين الذين اندمجوا ولو "بتحفظ" في ركب التنمية و التطور السريعين.. لكن هذا لم يمنع من واقع تواجد معسكرين اجتماعيين أساسيين بالمدينة "الغربي و المحلي".. لكل منهما طقوسه و تقاليده و ديانته و معتقداته و أماكن السكن و التجمعات .. إلا أنه و في المقابل احترم كل معسكر ثقافة الآخر إلى حد بعيد.. بل و اجتمعوا في مؤسسات موحدة كثيرة كالسوق و الملعب و الميناء و المستشفى و جل مرافق الحياة العامة .. هذه الخلطة العجيبة ستتجلى حتى بعد الاستقلال حينما رفض معظم المعمرين العودة إلى إسبانيا و تشبثوا بعيشهم و مكتسباتهم بالمدينة.. و الأمثلة واضحة إلى اليوم عندما نسمع عن أسماء أشهر المناطق و الأحياء و الشوارع و الدروب لا تزال تعرف إلى اليوم بمسمياتها أيام الحماية رغم تشويرها بأسماء جديدة بعد الاستقلال " ديور كارسيا, ناباس, ليخيرو, ماريستاس, ألطو راديو, البركي, باسيو, بالكون أتلنتيكو, كواترو كامينو, بلاصا, لايبيكا, أوسطال..." حتى المفردات و دارجة الساكنة تطبعت بهذا الإرث الإسباني, لدرجة أصبحت مع الزمن علامة فارقة في تصنيف " ولاد البلاد " أو " العرايشي البورو Puro " في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية أصبح المجتمع المدني بالعرائش بشقيه الأجنبي و المحلي أكثر نضجا و تلاحما و قوة.. ليأخد تدريجيا مكان المؤسسة العسكرية الإسبانية في عملية تسيير المدينة و تنميتها و تحسين نسق العيش فيها, و لم يكن هذا النضج وحده سببا في هذا التحول "السلس" بل حتى ضروف الجيش الإسباني نفسه ساعد على ذلك و بقوة.. فقد عانت المؤسسة العسكرية من تبعات الحرب العالمية, زد عليه المواجهات و الصراعات الداخلية المحلية التي طالما أنهكت مخزونهم المادي و المعنوي.. و هنا الإشارة إلى المقاومة و حرب العصابات.. فأصبحت المؤسسة العسكرية متخوفة من الجيل الجديد الذي تربى على العلم و الثقافة و الدراية السياسية إلى حد ما.. مما جعلها تتنازل تدريجيا عن بعض مواقع التسيير الذاتي للمدينة و تتطبع مع النخبة لتتفادى ضررهم المحتمل من جهة و تجعلهم يدافعون عن مكتسباتهم الشخصية من جهة أخرى.. هذه السياسة الجديدة أنتجت لنا طبقات اجتماعية جديدة لم تعهدها المدينة سابقا.. أرستقراطية إقطاعية متكونة من معمرين أجانب و أسر محلية قوية.. ثم أرستقراطية صناعية لأول مرة بمدينة العرائش تكونت أساسا من الإسبان.. ثم طبقة متوسطة تخدم مصالحها و مصالح الأرستقراطيين و هي أيضا طبقة جديدة.. ثم بقية الفئات القديمة الكلاسيكية المعروفة مند القدم " فلاحون, حرفيون, تجار, رعاة, صيادون... منهم الميسورين و أغلبهم الفقراء.. شكل استقلال المغرب صدمة عنيفة للإسبان "المستعمرين منهم و المعمرين" حيث أصبح الحلم سرابا مرة أخرى, فبعد خروجهم في القرن 17 هاهم مرة أخرى ينسحبون صاغرين من ثغر العرائش الذي شكل تاريخيا أهمية و أولوية قصوى عبر عنها الملك فيليبي الثاني " felipe 2 " بقوله : Sólo (Larache vale por todo el África) (العرائش لوحدها تساوي كل إفريقيا). قامت السلطات الإسبانية و نخبة الإقطاعيين الأغنياء بمجموعة من الإجراءات و التحركات السريعة قبل الانسحاب العسكري الفعلي, تجلت في عمليات بيع و تفويت و هبات مشروطة للأراضي و الملكيات العامة منها و الخاصة, نفس الشيء سيفعله المعمرين المستوطنين الذين امتلكوا شركات أو عقارات أو محلات تجارية ... غير أن هؤلاء الفارين من المجهول الذي ينتظرهم لم يشكلوا في حقيقة الأمر سوى أقل من ثلث الإسبان الدين قرروا الرحيل بالفعل.. أما البقية فقررت البقاء في أرض العرائش مهما كانت النتائج معتبرين أنفسهم منتمين إليها و أبنائها الفعليين من جهة, و من جهة أخرى لأن المجهول الذي ينتظرهم بالمدينة لن يكون أسوء من المجهول الذي ينتظرهم إن قرروا الرحيل لبلد لم يعيشوا فيه و ليس لهم فيه ضمانات العيش الكريم..