"الفلسفة كإزعاج" بهذه المناسبة أود فقط أن أشير في البداية إلى أن قدر الفلسفة هو أن تبقى على الهامش تُحَارَب وتُصَوَّبُ جهتها السهام عبر تاريخها لكن قدرها هو أن تصمد وكأن مبرر وجودها قائم على معادتها، بعدما ولدت في الفضاء العام كفكر مزعج ومعارض سياسيا وأخلاقيا الشيء الذي أدى إعدام الزعيم سقراط، بعدها ستنسحب من الفضاء العمومي وتغادره لتسكن بين الجدران، وتتحول إلى فكر نخبوي تأملي مع أفلاطون في أكاديميته هكذا قال أهل أثينا أنهم تخلصوا منها، ولأن الفلسفة بنت عاق للفكر قررت العودة إلى إزعاج ومشاكسة الناس وأصحاب القرار من الحكام مرة أخرى مع أحد أهمي خريجي الأكاديمية أرسطو الذي مهد لذلك بدعوته الى تحقيق العدالة عبر التوزيع الأنسب للثروة وذلك عبر اعتماد القاعدة الذهبية "لا إفراط ولا تفريط" مفضلا في كتابه الشهير "السياسة" الطبقة المتوسطة باعتبارها العنصر الأكثر استقرارا في المجتمع لأن الأفراد ذوي الثروات المتوسطة هم الأكثر قدرة على تحقيق التوازن بين الاستقرار الاجتماعي والعدالة التي تتجسد في التناغم بين القيم الاخلاقية والسياسة. إذن هل مازلت الفلسفة مزعجة ومعها الفلاسفة إلى الآن؟ إن المتأمل لما يتم تداوله في الآونة الأخيرة فلسفيا مع بعض الاستثناءات سيستحضر عبارة "الفلسفة نسيان للوجود" المستوحاة من أفكار الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، الذي اعتبر أن الفلسفة الغربية التقليدية في عهده قد ابتعدت عن الوجود ذاته، وتركت جوهره في ظل الاهتمام أكثر بالأفكار المجردة والتفكير النظري، وقد أوضح ذلك في كتابه "الوجود والزمن" معتبرا أن الفلسفة منذ أفلاطون وأرسطو، قد اهتمت بالعقل والمفاهيم المجردة أكثر من اهتمامها بالكائن الحي في وجوده المباشر، وبالتالي فإن الوجود (الكينونة) أصبح شيئًا يُنْسَى أو يُغْفَل عنه في الفلسفات التي تحاول تفسير كل شيء من خلال العقل البشري أو المنطق النظري. لذلك رأى أن الفلسفة الحديثة قد ابتعدت عن "الوجود" مع العلم أن هذا الأخير هو الأساس الذي يجب أن يُفْهَم منه الإنسان ذَاتُه، وذلك ببساطة لأن التفكير الفلسفي منذ أفلاطون حتى ديكارت ركز على تصورات نظرية و تجريدية، مثل الميتافيزيقا والرياضيات والمنطق تاركا الوجود البشري الملموس، أو الوجود اليومي، في الظلال وعلى الهامش، لهذا التفكير النظري كان ينسيهم أن وجود الإنسان الحقيقي ليس مجرد تمثيل فكري للعقل أو للتاريخ، بل هو تجربة حية مباشرة مليئة بالقلق والقلق الوجودي وأسئلته، لهذا السبب كان هايدغر يرى أن "الوجود" يجب أن يُفْهَم ليس كشيء مجرد، بل كحالة إنسانية عملية معقدة، مليئة بالوقت والموت والتجربة الذاتية، وكان يعتقد أن الفلسفة التقليدية قد فشلت في معالجة هذه الأبعاد الحية والدنيوية للوجود، وبهذا شكل هايدغر إزعاجا للفيلسوف المُنْسَحِب من اليومي الإنساني والغارق في التصورات النظرية، إذن الفلسفة الحقيقية يجب أن تبدأ من الوجود ذاته وتعيد الانتباه إلى الكائن البشري كما هو لتعيد تشكيل وعيه ووجوده أيضا، وليس فقط من خلال أفكار مسبقة أو أنظمة فكرية معقدة تحاول الاقتراب من الانسان لكنها في النهاية لا تدركه. لكن هل حقا الفلسفة وجدت للاهتمام وحتى الاحتفاء باليومي البشري، أليس الغطس في اليومي ابتعاد عن التفلسف والفلسفة نفسها؟ لاشك أن الفلسفة رغم تركيزها على الأسئلة الكبرى مثل الوجود والمعرفة والأخلاق، تحتفي أيضًا باليومي البشري وتولي اهتمامًا عميقًا للحياة اليومية وتجارب الأفراد وذلك عبر عدة طرق من بينها التفكير في الحضور واللحظة الراهنة، وهو ما قدمته الفلسفة الوجودية، مع جان بول سارتر ومع مارتن هايدغر قبله، وذلك بالتأكيد على أهمية اللحظة الراهنة وكيف أن الحياة اليومية مليئة بالأبعاد الوجودية، وتدعو الأفراد إلى مواجهة واقعهم والتفاعل معه بوعي، بعيدًا عن الهروب إلى المستقبل أو الماضي، فهي لا تقتصر على المفاهيم المجردة، بل تسعى لتحويلها إلى سلوكيات وممارسات يومية تعزز من رفاه الإنسان وسعادته. كما أن الفلسفة، خاصة في عديد التيارات مثل الرواقية أو التأمل الشرقي (مثل الفلسفة البوذية)، تدعو إلى الهدوء الداخلي والتوازن النفسي من خلال التأمل اليومي والتفاعل الواعي مع العالم المحيط، يمكن أن يتمثل ذلك في كيفية العيش بشكل أكثر انسجامًا مع الذات والطبيعة والمجتمع. كما أن الفلسفة السياسية تسعى أيضًا إلى فهم الحياة اليومية من خلال تحليل كيفية تنظيم المجتمعات وتوزيع الحقوق والموارد، من خلال التفكير في العدالة الاجتماعية والمساواة، كما تسعى الفلسفة إلى تحسين الحياة اليومية لكل الأفراد في المجتمع، ناهيك عن أن الفلسفة المعاصرة، مثل فلسفة جاك دريدا أو ميشيل فوكو، تشجع على تساؤلات مستمرة حول الروتين اليومي وكيف يمكن للأشياء البسيطة التي نعتبرها عادية أن تحمل معاني عميقة، وذلك من خلال تفكيك العادات الاجتماعية والتقاليد. وبذلك فإن الفلسفة تدعو إلى الاحتفاء باليومي عبر فهمه، تفسيره، والتحليل العميق له، وهي دعوة للتفاعل الواعي مع تجاربنا اليومية، مما يمكننا من جعل حياتنا أكثر عمقًا ووعيًا، وانخراطا أصيلا للفيلسوف في القضايا اليومية، الشيء الذي قد يجعل منه مزعجا؟ لكن أليست الفلسفة بحد ذاتها إزعاج لكافة أنماط التفكير الأخرى ولصناع القرار سواء كان سياسيا أو دينيا أو غيره؟ دعنا إذن نلقي نظرة على تاريخ الفلسفة، وبمجرد القيام برحلة في هذا الاتجاه إلا ويتأكد لنا أنه طالما أزعج الفلاسفة الناس منذ سقراط إلى الآن، كما أن هذا الإزعاج قد يحدث بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وذلك بسبب الطريقة التي يتناولون بها الأسئلة الكبرى حول الحياة، الوجود، والواقع. فالفلاسفة غالبًا ما يتحدون المسلّمات ويطرحون أسئلة قد تكون مزعجة للبعض كالتساؤل عن المعنى، مثل "هل للحياة معنى؟" أو "هل نعيش وفقًا لأهداف جوهرية، أم أننا نختلق المعاني؟" وهذه الأسئلة قد تزعج الأشخاص الذين يفضلون الإجابات الواضحة أو الذين يشعرون بالراحة في فهمهم التقليدي للعالم. ناهيك عن الرفض المطلق للبداهات، فالفلاسفة مثل ديكارت، الذين يبدأون بطرح أسئلة أساسية حول وجودهم ووجود العالم من حولهم، قد يزعجون الأشخاص الذين يفضلون قبول المسلّمات دون سؤال. لأن ذلك يقود إلى التشكيك في الحقيقة المتداولة بين الناس وذلك بطرح أسئلة مثل "كيف نعرف أن ما نراه هو الحقيقة؟" أو "هل يمكننا حقًا معرفة أي شيء؟" قد يسبب إرباكًا لدى البعض، لأن هذه الأسئلة تزعزع الثقة في المعرفة المتاحة وفي البديهيات المريحة. كما أن التناقضات الأخلاقية شكلت وتشكل توترا وإزعاجا غير مقبولا من قبل أولئك الذين لديهم رؤى أخلاقية ثانبة من خلال طرح مسائل مثل "هل يمكن أن يكون الفعل الأخلاقي خاطئًا في جميع الحالات؟" أو "هل هناك أخلاق عالمية، أم أن الأخلاق نسبية؟"، و"هل من الأخلاق الالتزام بالفعل الاخلاقي؟" ،كما أن الدعوة إلى التشكيك وحتى التخلي عن المعتقدات التقليدية مثل الدين أو العقلانية المطلقة قد تزعج الناس الذين يعتمدون على هذه المعتقدات كأسس لحياتهم. فكيف إذن أزعج الفلاسفة الناس؟ لعل أول المزعجين كان سقراط الذي أزعج وحَيَّرَ المواطنين في أثينا بانتقاداته للأخلاق التقليدية وطرق التفكير، فكانت فلسفته تدفع الآخرين إلى البحث عن الحقيقة عن طريق الشك، مما كان يعتبر تهديدًا للنظام الاجتماعي. وكان يعتقد أن الفلسفة هي فن الحكمة الذي يُستخدم لتحسين حياة الناس وليس لِلتَّكَسُب المادي، وكان يشجع على الاستفهام المستمر والشك المنهجي، حيث يطرح أسئلة على الآخرين لإزالة الجهل من حياتهم، وبالتالي اعتبر أن الفلسفة أداة للعيش بشكل أكثر وعيًا واتزانًا، والتقليل من التوتر والارتباك في الحياة اليومية التي تحاصرنا بضغوطاتها. وها هو ديكارت بعد ما ارتكن الناس لبديهيات ومسلمات مريحة تقيهم عناء التفكير، قد جعل من الشك أساسًا لفلسفته، هذا الشك المنهجي أزعج العديد من المفكرين في عصره وهدم العديد من الأبراج والأصنام الفكرية، منصبا العقل أساسًا للمعرفة عوض الحواس التي قد تكون خادعة، مما شكل صدمة كبرى لأهل عصره، ولم يكن إزعاج ديكارت أقل من اسبينوزا الذي تحدى المعتقدات الدينية التقليدية، وقال بأن الله والطبيعة هما شيء واحد، مما جعله يرفض ثنائية الله والعالم المادي، كما أن أفكاره الميتافيزيقية كانت مثيرة للجدل ومدعاة للإزعاج في عصره، وتعتبر مثيرة حتى اليوم للأديان التوحيدية التي تفصل بين الخالق والعالم، وقد مهد الطريق أمام نيتشه صاحب المطرقة الفلسفية الذي اشتهر بآرائه الصادمة حول الأخلاق والدين، وبتصريحاته مثل "الله مات" و"الإنسان الأعلى" التي اعتبرت صادمة ومزعجة، بحيث دعت إلى نقد الأديان التقليدية والأخلاق السائدة، كما أن دفاعه عن "إرادة القوة" ورفض القيم الدينية التي كانت تشكل أساسًا للعديد من المجتمعات الغربية، جعل منه شخصية مثيرة للجدل والازعاج حتى. وها هو جان بول سارتر الوجودي ينسف بطلقة واحدة كل معاني الوجود والحياة، معتبرا أنها بلا معنى إلا ما يخلقه الإنسان بنفسه، فأزعج كثيرين بفكرة أن الناس مسؤولون تمامًا عن أنفسهم وعن معاني حياتهم، مما يعني أن الفرد يجب أن يتحمل عبئ اختياراته وقراراته بالكامل باعتباره كائن محكوم عليه بأن يكون حرا. وبعده سلط ميشيل فوكو تحليلات نقدية قوية ومزعجة للسلطة، المعرفة، والمجتمع. موضحا أن تشكيل الحقيقة يتم من خلال المؤسسات الاجتماعية والسلطة، كما أن الحقيقة عند فوكو ليست مجرد حقيقة موضوعية، بل هي نتاج للسلطة التي تفرضها المؤسسات، طبعا هذا النقد للنظام الاجتماعي والثقافي أزعج الناس وخصوصا السلطة السياسية، كما شكك فيتغنشتاين في قدرة اللغة على التعبير عن الحقيقة، مما وضعه في موقف معارض للمفاهيم التقليدية للمعرفة والتواصل، وبذلك فقد طعن في معنى اللغة والعقل الذين طالما اعتبرت أهم أدوات تفوق الكائن البشري عن غيره من الكائنات وحتى تفوقه على أقرانه بقدرته على استخدامها. تلك كانت عينة بسيطة من هؤلاء الفلاسفة المزعجين الذين لم يقدموا فقط أفكارًا غير تقليدية بل زعزعوا الأسس الفكرية التي كانت سائدة في مجتمعاتهم، مما جعلهم محط جدل واهتمام واسع. الكثير منهم دفعوا الناس إلى التفكير العميق في مسائل الحقيقة، الأخلاق، الوجود، والدين، حتى وإن كانت هذه الأفكار مزعجة للبعض، إلا أن ما جعلهم خالدين بأفكارهم هو تميزهم وتفردهم في عصرهم وحتى العصور اللاحقة. إذن هل لازال الفلاسفة مزعجين بالقدر الكافي الى يومنا هذا، أم أن أغلبهم طَبَّعَ مع المجتمع وافتقد للشجاعة في مواجهة ما يجب أن تواجهه الفلسفة سيرا على خطى الأسلاف؟ أكاد أجزم أن عبارة "الفلسفة فن للعيش" هي الشعار الذي صار متداولا بين المشتغلين بالفلسفة اليوم على الأقل في بلداننا، وهي فكرة تفيد أن الفلسفة ليست مجرد مجموعة من النظريات أو الأفكار المجردة، بل هي أسلوب حياة يمكن أن يساعد الإنسان على عيش حياة أكثر وعيًا وعمقًا. هذا المفهوم ظهر بشكل قوي في الفلسفة القديمة، خاصة في الفلسفات التي اعتبرت أن الفلسفة هي أكثر من مجرد تفكير نظري، بل هي ممارسة عملية تهدف إلى تحسين الحياة اليومية. لكن كيف يتم تَمَثُّلُه اليوم؟ هل يدخل هذا في استمرار الازعاج الفلسفي، أم في تحويل الفلسفة إلى كوتشين coaching فكري يسعى إلى تطويع الانسان وترويضه حتى يقبل بواقعه كما هو تحت شعار التصالح مع الذات؟ أنهي بهذا السؤال على أن أعود للجواب عنه في تتمة الورقة لاحقا. شفيق العبودي العرائش 20 نونبر 2024