الأديبة: ميرفت أحمد علي حرصَ مهرجانُ بابلَ للثقافات العالمية في دورته الحادية عشرة، كما في دوراتٍ سابقةٍ على استدعاء فنانينَ تشكيليين، حققتْ تجاربُهم تحليقاتٍ موفقةً أشادَ بها الإعلام والنقد في أوروبا والعالم، ومنها على سبيل المثال التجربةُ النَّابهة النابضة بحسِّ التجريب والعفوية التعبيرية التي بوَّأت الفنان التشكيلي العراقي العالمي فائق العبودي مبوَّأ الشهرة والتدويل والعالمية، بعدَ أن غادر العراق عاتباً على وطنه عتابَ العاشقين الخلَّص، إذ ضاقَ صدره في مرحلةٍ تاريخية عن احتواءِ رؤى واندفاقاتِ خيالِ عاشقِ الألوانِ والرِّيش وتعتيقِ اللوحاتِ وإكسابها بُعداً رمزياً ضارباً في الزمن، وآخذاً من اغبرارهِ مزيةَ التكثيفِ التعبيريِّ والبَوحي العميق. حضرَ الندوة جمهورُ بابلَ المحبُّ للثقافة، والمتعمِّد الأزليّ بماءِ حوارِ الحضارات المستحدثة والسالفة، في الفكر والأدب والفنون عامة. حاورَ الفنانَ التشكيليَّ المُستضاف الناقدُ والفنان العراقي (زهير الجبوري)، وبُدِئَ على التوّ بعرضِ فيلم قصير استعرضَ بعضَ لوحات الفنان العبودي، ورصدَ حالتهُ وهو منكبٌّ على عمله. فأبرزت الشاشة لوحاتٍ مختلفةً يسودُها حيناً طابعٌ بيئيٌّ كلوحةِ الأصايص النباتية المثلثة، ومقطَّعات حمراء اللون مطعَّمة باللون الأسود غالباً، حيثُ لوحظَ كثرةُ اشتغال الفنان العبودي بإحياء التآلفيَّة والتوافقيَّة بين اللونين الأحمر والأسود. وأظهرتْ لوحاتٌ أخرى الحارة البغدادية من الخلف، وبعضَ الكتاباتِ المسمارية ربما. وجَّهَ الفنان العالمي فائق العبودي بطاقةَ شكره إلى مدير المهرجان الشاعر الدكتور علي الشلاه، الوفي لأصدقائهِ المبدعين، والمُواكب على الدوام لأنشطتهم الثقافية، وهو يُعدُّ مهرجانَ بابل للثقافات والفنون فرصةً هامة جداً في حياتهِ وفي مسارِ تجربته، وشكرَ مُحاورَهُ الناقد (الجبوري) الذي سبقَ له الكتابة في تجربة العبودي الفنية غيرَ مرةٍ. وكانت قراءتهُ لأعمالهِ تشخيصيةً جميلةً ومؤثرة. بدأ العبُّودي شهادتهُ بإفادتهِ أنَّه قد حقَّق نقلةً نوعيةً هامة في حياته من خلال المشاركة في مهرجان بابل للثقافات في محور (تجربتي)، ويعودُ بنا إلى البدايات حيثُ كان العبودي يحيا حالاتٍ من الألم فرضَها الواقع العام المحيط بالعراقيين. واستشهدَ على بعضِ الأحداثِ الواقعية بوجودِ الدكتور الناقد (مزهر الخفَّاجي) أستاذ التاريخ والحضارات الذي عاينَ ولازمَ التجربةَ الفنية للعبودي منذ انطلاقتها. الفنُّ بوَّابةُ عبورٍ إلى العالميَّة وتابعَ العبودي قائلاً إنَّ الفنَّ قد فتحَ له أضواءً كثيرة وتعرَّفَ معهُ على ثقافات عديدة، شعرَ مع الأسف بالغربة فقط في بلده وهو إحساسٌ صعبٌ جداً، وقدَّمَ معارضَ عديدةً في مدن سويسرية مختلفة. وفي فرنساوإيطاليا قدَّم ورشات عمل بعنوان أكاديمية الفنون الإيطالية، وكانَ يرافقهُ في هذا المشروع ثلاثُ فنانين في إحدى مدنِ إيطاليا، وتوسَّعت آفاقُ مشاركته في المعارض ورصيدهُ منها اليوم اثنان وثلاثون معرضاً، أقامَها في فرنساوإيطاليا ونيويورك واليابان والصين وكوريا الجنوبية أكثر من مرة، وكان للعراق حصَّة من تلك المعارض في بدايةِ مشوار فائق الفني، كما قدَّمَ لوحاته في الإمارات، والمعرضُ القادم سيكون في دار الأوبرا المصرية. لوحاتٌ بنكهةِ الأزمنةِ الغابرة الموضوعُ الذي يشتغلُ عليه الفنان العبودي بشكلٍ رئيسي هو الرمز القديم، وهو ليس بالموضوعِ الجديد؛ فقد اشتغلَ كثيرون من الفنانين عليه، والفرق بينه وبينهم أنَّ فائقاً بحثَ في الرمز عن خصوصيةٍ تعبِّرُ عنه وعن لوحاتهِ، وهذا هو السبب الحقيقي في نجاحهِ كفنان تشكيلي. إنَّ اللوحاتِ التي يرسمُها لوحاتٌ مُنجزةٌ من عدةِ طبقاتٍ لونيَّة، وقد عملَ كثيراً على إبرازِ مفهوم الزمن، وكان لزاماً عليهِ أن يرسمَ هذا المفهوم ويُحسنَ تدبُّرَهُ، وقد عرفَ فعلاً كيف يُبرزُ الزمنَ وتقادُمَهُ. وهنا كشفَ العبودي سرَّاً من أسرار المهنة، فهوَ يبدأ عادةً برسمِ اللوحةِ بعدَّةِ طبقات لونيَّة، ثم يُزيلُ منَ الطبقاتِ بحيثُ تظهر الألوان متداخلةً، وهو عندما يرسمُ لوحةً ما لا يعرفُ كيف ستكونُ نهايتها! هل سيطغَى اللونُ الأصفر أم الأحمر أم الأخضر؟ فثمَّةَ حوارٌ دائمٌ بينهُ وبين اللوحة، كأنَّ اللوحة تقولُ له: أعطني المزيدَ من اللون، ثم تصل به إلى مرحلةٍ تقولُ فيها: اكتفيت. بعدَ اكتمالِ الرسم، يدخلُ فنَّانُنا المُرهفُ المُلهمُ في مرحلةِ تعتيقِ اللوحة، وهذا يستحوذُ على الكثير من وقتهِ، ويتمُّ التعتيقُ بمواد كيماوية حتى تعطي اللوحةُ لونَ الأثر والقِدَم. وبخصوصِ تعتيقِ اللوحة (أي إكسابِها سمةَ القِدَم) كتبَ أحدُ النقَّاد يوماً قائلاً في تجربةِ العبودي: لوحاتُ الفنان فائق العبودي نكادُ نشمُّ منها رائحةَ القِدَم والعتاقة. شهادةُ البروفسور مُزهر الخفَّاجي وفي شهادةٍ جميلةٍ وفيَّةٍ للإبداعِ الجميلِ ولأهلهِ، قال البروفسور مزهر الخفاجي أستاذ الحضارة والتاريخ عن التجربةِ التشكيلية لفائق العبودي: شهادتي في فائق مجروحةٌ، وقد ذهبَ في لوحاتهِ إلى المنطقةِ المبحوثِ والمرسومِ فيها وعاندَها، يعني في الوقت الذي أشبعَ فيه روَّادُ الفن التشكيلي البغداديات وتمظهُراتها في رسوماتهم، العبودي أعادَ إنتاجَها. وما فاجأَ الخفاجي في لوحاتِ فائق أنَّ قرويَّاً يرسمُ بغداد، وقد كانَ حجمُ الانبهار وحجمُ الصدق في هذه التجربة كبيريْن، وكنتُ (والكلام للخفاجي) في بعضِ الأحيان أرافقُ فائقاً فيصوِّرُ الأمكنةَ كي لا يخونهُ بصرهُ ولا مخيِّلتهُ ولا ذائقتهُ. هذه المحطة الأولى في حديثي عن تجربته. المحطة الثانية أعتبرُها هامَّةً تعودُ إلى سبعةٍ وأربعينَ عاماً لم أعهدْ أبداً خلالها فائقاً متأثراً بما حولهُ، لم يكن ليهزُّه رغيفُ الخبز ولا يهزُّه المشهد المحيط، ولا يسيلُ لعابهُ كفنَّانٍ أمامَ الأموالِ ومغرياتِ الحياة، لقد كان مُنحازاً إلى فنِّه، ولقد حيَّرتني فيهِ هذه العفَّة! الأمرُ الثالثُ يرتبطُ باختصاصي الذي يصبُّ في هذا الجانبِ، فأجدُ فائقاً في تجربتهِ الأخيرةِ كأنَّه يُجاورُ أو يُباري أو يُنافس أو يَبزُّ فنَّاناً سومريَّاً أو أكدياً أو بابلياً أو آشورياً أو كلدانياً، وفي بعضِ الأحيانِ يتركُ لمخيالهِ أن ينطلقَ إلى فضاءٍ آخرَ. وفي آخر تجربةٍ طباعيةٍ للكتب مع الإخوة المصريين، كان لي خيارُ تصميمِ أغلفةٍ لثلاثةِ كتبٍ مع إحدى دور النشر الراقية، قال لي صاحبُ الدار عندما أرسلتُ غلافَ آخرِ كتاب: هذا الختمُ الطينيُّ (ويقصدُ لوحةَ الغلاف) أين أجدُه؟ في أيِّ معرض؟ في أيِّ سنة؟ حتى نكتبَ على الغلاف إنَّ هذا الختمَ/اللوحة يعودُ إلى العصر الفلاني؟ قلتُ له: إنَّها أعمالُ الفنان العراقي الكبير فائق العبودي. منَ الخطِّ العربي إلى التشكيلِ بالألوان إحدى المختصَّات الحاضرات الدكتورة (وصال الدّليمي) ثمَّنتْ تجربةَ فائق العبودي وقالت: استمتعتُ برحلتكَ الجميلة من بغداد إلى عمان إلى فرنسا، قلتَ بأنَّكَ مهتمٌّ برسمِ الأثرِ الإسلامي، فهل كان للأثرِ الأندلسيِّ مساحةٌ في فنِّكَ التشكيلي؟ خاصة بأنَّ إسبانيا مليئةٌ بالآثار العربية وبالتَّرف الإسلامي؟ أجابَ العبودي بأنَّ الأثرَ الإسلاميَّ شكَّلَ بداياتِ الفنان التي اشتغلَ عليها، وجلُّ اهتمامهِ كان بالحرفِ العربي كونهُ خطَّاطاً وعضوَ جمعية الخطَّاطين العراقيين، لذلكَ لم يذهب إلى أبعد من ذلك في الحقيقة. فقط اهتمَّ بالحرفِ وبتشكُّلاته. وأضافَ بأنَّ ثيمةَ (ألف ليلة وليلة) قد برزتْ لديهِ بشكلٍ جليٍّ. لوحاتٌ قادمةٌ من زمنٍ بعيد وخلالَ استعراضِ بعضِ اللوحاتِ المُنتقاة للفنان فائق العبودي في فيلم قصير، علَّقَ الفنانُ القديرُ شارحاً مزايا بعضِ اللوحاتِ، قائلاً إنَّ أكثرَ ما يُعجبهُ هو الشغلُ على الخشب، ويُحسُّ أنَّهُ عندما يرسمُ شجرة بأنه لا يريدُها أن تموت، والرسمُ على الخشب لهُ تكنيكٌ خاصٌّ جداً. وقد قالت إحدى النَّاقدات عن لوحاته: إنَّ لوحاتِ فائق العبودي قادمةٌ من زمنٍ بعيد. دُعيَ الحضورُ إلى استعراضِ لوحاتِ الفنان فائق العبودي في الجناحِ المخصَّصِ لها في إطارِ فعَّالياتِ مهرجانِ بابلَ للثقافاتِ والفنونِ الحادي عشر.