زهير الجبوري لَمْ تَكنْ تجربة التشكيلي العراقي المغترب فائق العبودي في معرضه الأخير الذي أقامه في مدينة بابل الأثرية ضمن فعاليات مهرجان بابل للثقافات والفنون في نيسان 2024، سوى استيلاد متواصل للمضمون الفني الذي كرس جهده فيه ليصبح له لونه الخاص وهويته الفنية وطريقته المؤثرة في ذلك، فقد كان انحيازه في الغور بالأثر الرافديني واستنهاض الشفرات "الطلسمية" عبر أدوات فنية معاصرة يكشف مدى أهمية هذا الأثر ومدى قدرة الفنان في اقناع الآخر في تجربة تظهر كأنها حاضرة بتقنية الاشتعال وإبراز ملامح ثيمية لها مرجعياتها المثيولوجية أو التاريخية، فثيمة الشكل في كل لوحة تسحبنا إلى سؤال مرجعي ل "المثلثات، والمربعات، والكتابات المسمارية، والتعويذات، وغيرها"، إلى أي مدى يمكن التوصل إلى حقيقة هذه المضامين عبر المرجعيات هذه؟ قد تُعَد هذه ضمن لعبته الجمالية عَبرَ غواية الّلون والعجائن والقماش والمكونات الأخرى، لذا أجدني في مواجهة مع أعمال العبودي في قراءة تستولد قراءة أخرى، بخاصة عندما تصبح اللوحة في مشروع مطروح في فضاء واسع لتجربة شخصية "معرض شخصي"، لذا "تعتبر اللوحة الفنية فضاءً مستقلاً عن أيّ فضاء واقعي، أومتخيل، ولكنها ما تعرض في صالة، ساحة، متحف، حتى تكتسب الفضاء": بحسب الناقد ياسين النصير.. فلوحات فائق العبودي اكتسبت صفة "البوطيقيا التشكيلية"، لأنها اعطت صفة التلقي الجمالي، الفني الإبداعي، وبالتالي نجد انفسنا أمام لوحات في حالة تأملية مسترخية، ولكن الّلعبة الأيهامية من قبل الفنان ذاته جعلتنا نتمعن بعمق الأداء وتقنية التجربة واستحضار الموضوعة عنده، وبالتالي تصبح جميع الأعمال نصوصا لها جماليتها الخاصة ولها تكنيكها الخاص، ولا ضير في إضافة بعض الأشياء التي تلائم وحدة الموضوع لديه، لأن اللوحة مثل اللغة الشعرية تخضع للتحولات والإضافات عبر سمة التجريب. لوحات المعرض اتسمت بإيقاع متناسق ومتقارب، وتأتي هذه ضمن وحدة الموضوع الذي كرّس جهده فيه، بل امتازت في الفترة الأخيرة لما تمتلكه من ملامح واضحة وبارزة، كما امتلكت تراسلا بصريا ملفتا للنظر إزاء ما جاءت به جميع المشتركات التي تخص "الانشاء والألوان والقماش والعجائن"، كما كان توظيف الألوان وتوزيعها بالشكل الذي شاهدناه يعطي دلالات فيها قصدية، بمعنى استخدام الألوان الحارة والمضيئة والبارزة مع الألوان الباردة ببروز كبير، يعطي قناعة فحواها أنها تساهم عبر المنظور في التوهج البَصَري.. كما أن الاشتعال على الاستعارة بوصفها "تشبيها بليغا" لطرفي الجمال يكشف قدرة الفنان في خلق عوالمه الجمالية وفق آليات قد تكون مكررة، لكنها مؤثرة في الاختيار، وهنا يأتي دور التجديد والإضافات لتعكس رؤيا الفنان داخل لوحاته، وتشكيل الهوية الخاصة به، ومهما امتدت فرشاته في تثبيت ثيمات مضافة، فإن ذلك لا يخرج من ملامحه وقد قدم في معارضه الشخصية السابقة أو حتى في مشاركته الجماعية في معارض مشتركة ما يثبت امساكه لمشروعه ولطريقة تقديمه المعاصرة. في معرضه الشخصي الأخير، يقودنا التشكيلي فائق العبودي إلى جدل مفاهيمي واعمال تطرح سؤالا معرفيا، وهنا تأتي طريقة الموضوع الذي اشتغل عليه بميزة التفكير واثارة العلامات المستخدمة، ومهما طرحت هذه العلامات سمات الترميز والإيحاء وضرورة الأداء للأشكال المطروحة داخل اللوحات، فقد عبرت عن فحوى الهوية الكبرى لحضارة بلد ومرجعياته وأثره الكبير وآثاره عبر الآف السنين، فالمعطى الحضاري عند استدعائه في حاضرنا الآن، لا بد أن يواكب تقنية العصر داخل العمل التشكيلي، وهذا ما قام به الفنان، ليعبر عن جذره الأول وعن استنشاقه للحضارة الرافدينية، مع أنه عاش في غربته سنوات طويلة واتقن عبر بصره شواهد الفن الأوروبي، لكن هذا لم يجعله يغادر تكوينه الأول، فكانت استعادته للأثر هي استعادة رحمية ساهمت في ترصين هويته التشكيلية عبر