أحمد رباص قبل زمن كرونا، كان المسمى الفايد حاضرا كصوت إسلامي محافظ على أثير الإذاعة وأعمدة جريدة ورقية تصف نفسها بالمستقلة. واللافت للنظر في مبتدإ مقالنا هذا أن بداية اكتشاف هذا “النجم” الآفل تزامنت مع النجاح الكاسح لفصيل من الإسلاميين المغاربة في أول انتخابات جرت تحت هدي النموذج الإرشادي للدستور الأخير. لم تثر خرجاته الإعلامية في ذلك العهد أي ضجة بمثل الصخب الذي رافق ضجته الحالية التي كان منطلقها دعوته المسلمين المرضى إلى الصيام وسوف يشفون وإن أصابهم وباء كوفيد-19. بصراحة، لم أكن أولي عناية كبيرة بما كان يقوله هذا الداعية ويكتبه اعتقادا مني بأنه لن يفيدني بشيء مهم طالما يظل شغله الشاغل تغذية المعدة بينما ديدني الذي يلازمني في حلي وترحالي الاهتمام بتغذية العقل، أما جسدي فسليم والحمد لله. ولكن لماذا، في هذه اللحظة بالذات، أجدني مضطرا للرد على هذا الشيخ، المجرد من شيم العلماء، في مقال ثان في نفس المنبر؟ تحضرني هنا والآن مبررات كثيرة لكنها ثانوية، ويبقى المبرر الرئيس هو التصدي لمغالطات رجل أصبحت أقواله تشكل خطرا على الصحة العامة التي من واجبنا جميعا المساهمة، كل موقعه وبحسب قدرته، الحفاظ عليها. من بين الدروس التي علمتنا إياها كرونا، رغم كل شيء، أن نجاتنا من الكارثة وخلاصنا من التخلف في زمن ما بعد كرونا رهينان بإيلاء الصحة والتعليم والبحث العلمي أهمية قصوى. لكن آلهة التاريخ حمقى وقالوا لها زغردي! وإلا بماذا نفسر إصرار البعض، الفايد واحد منهم، على السباحة ضد التيار بتكرار أشياء رضعناها مع حليب أمهاتنا وقرأناها مقيدة في أمهات الكتب؟ والغريب في الأمر إلى حد السوريالية أن محمد الفايد لا يمل من تكرار لازمته: عندي دكتوراه وحافظ ستين حزب. وإذا سمعت لقوله، تعصف بك الصدمة ولا تعرف هل تسمع لعالم أم لحكواتي. وإذا كان من ميزات المناضل عدم إطلاق الكلام على عواهنه، أعرب عن استعدادي لدعم ما صدر وما سيصدر مني عن الرجل من أحكام وأوصاف بالحجة والدليل. وحتى أكون موضوعيا بالقدر الذي يستدعيه المقام، أنأى بنفسي عن الرد على الداعية اعتمادا على جمل خبرية أو إنشائية من إنتاجي الخاص، وأحبذ الانطلاق في ردي على الفايد مما قاله بعظمة لسانه ومما قاله “الشعب المضاد”، الذي يغيبه صاحبنا من باله مستحضرا في ذهنه المشوش “الشعب” المساند له فقط. على خلفية الضجة الحالية التي أثارها الفايد على بعد أيام فقط من حلول رمضان، استضافته إذاعة أرابيل ببروكسيل التي تعيد قناة رصد “الحرة” على اليوتوب نشر بعض موادها المصورة. قبل عرض ما جاء على لسان الضيف لا بد من توضيح أمر هام وهو أن الفايد ضيف في منزله؛ بمعنى أن الصحافي المكلف بتقديمه والتحاور معه متواطئ معه، بل يظهر بجلاء من خلال الكيفية التي تجاوب بها الصحافي مع الضيف أن لهما نفس الأجندة الظلامية الهادفة إلى تأبيد غشاوة الخرافة على بصائر العباد ومحاربة العلم والعقل بحربائية مكشوفة. في بداية تصريحه الذي أدلى به لتلك الإذاعة، تساءل عن الضجة من قام بها. فقال: أشخاص لا يعلمون شيئا، كلهم من جهة الواد..الله يهديك آ السي محمد..نسيتي آش قال أبو نواس؟: قل لمن يدعي في العلم فلسفة علمت شيئا وغابت عنك أشياء. بعيدا عن الشعر العربي وثقافته، ثمة شواهد كثيرة من شأنها أن تجعلك تحس بأنك مغرور وغير متواضع. أسوق لك واحدة تعود إلى جان-بيير فرنان، المختص في الفكر والفلسفة اليونانيين، وهي أن العلوم بمختلف مواضيعها ومناهجها بما فيها الرياضيات ليست سوى مجالات ثقافية. فإذا تيسر لك اكتساب ثقافة علمية في تخصص معين فهذا لا يعني أنك قطعت الواد ونشفو رجليك.. بالله عليكم، غير قولوا لي، واش اللي كيقول هاد الكلام عالم؟ سمعوا آش كيقول:”علماء الإسلام أحملهم المسؤولية..ستضيع الأمة.. ماشي الأمة، بل ستضيع البشرية، والله ستضيع أكثر إذا تهاون العلماء المسلمون وتراخاو ولا شويا تبهرو بهاد العلوم الحقة، هادي ديال الغرب، غادين يفرطو فالشرع..يجب أن لا ينبهر علماء الإسلام بهذا التقدم العلمي، لأنه بالنسبة لي لا شيء..” لاحظوا أن الرجل يشهر من حين لآخر أداة نفي كبيرة يخيل له أنها تسعفه في قتال أو صد اعدائه. معين زلات وسقطات الرجل لا ينضب. على سبيل المثال، يتداول مستخدمو الفيسبوك حاليا على الفيسبوك صورا متحركة يظهر فيها الفايد موزعا مشتتا بين الشيء ونقيضه. ربما يرجع ذلك لاستخفاف الرجل بالمنطق كآلة تعصم من الوقوع في الخطإ والتناقض، وبالفلسفة كممارسة فكرية تجنبه تصديق المغالطات. وهكذا يظهر تناقضه بشكل مثير للشفقة عند حديثه عن جواز صيام المريض من عدمه. تارة يقول: “كل المرضى يصومون، لأن رمضان معجزة لا تفسر بالعلم، ولا يسقط عليه الطب..الحامل، المرضع، المريض بفقر الدم، بالسكري، بارتفاع الضغط..كلهم يصومون.” وتارة أخرى يقول إنه “لا يوصي بهذه الأشياء لأن للمرضى رخصة من الله ويجب أن يستفيدوا منها.” وإذا نظرنا إلى ما كتبه عنه “الشعب المضاد” في الفيسبوك، فحدث ولا حرج. مثلا، هناك من عاب عليه خلطه بين العلم والدين وابتعاده عن المنهج العلمي العقلاني ومحاولته تطويع العلم لخدمة الدين مع أنها محاولة باءت بالفشل في العهود السابقة. فالصيام والصلاة – يتابع المدون – طقوس في الدين الإسلامي للتقرب من الله مثل طقوس أخري في الديانات الأخرى. لكن المريض من الناحية العلمية يشكو من اضطراب في وظيفة عضو أو أعضاء في جسمه، ولإعادة التوازن وتصحيح هذا الاضطراب يجب أخد المواد الكيمائية والتى هي الأدوية بجرعات محددة وفي أوقات معنية لتفادي المضاعفات الناتجة عن خلل في وظيفة العضو، يقول الكاتب. جندي آخر من “الشعب المضاد” علق ساخرا:”طرد كورونا بالقرفة والقرنفل يضع الفايد أمام عاصفة من الانتقادات”. ناشط آخر تفاعل مع التعليق الأخير مكملا إياه بقوله: “بل يجب أن يضعه أمام الجنايات بتهمة تهديد الصحة العمومية.”ودائما في إطار تقديم نماذج من أراء “الشعب المضاد”، أرى أنه من المفيد إطلاعكم على ما كتبه الناشط الفيسبوكي رشيد الوزاني على نحو متميز محاولا كشف المستور في هذه الضجة التي ادعى الفايد أن الآخرين هم من أثاروها، حيث قال: “ليس غريبا على مجتمع نسبة الأمية فيه مرتفعة، وليس غريبا على مجتمع معدل القراءة فيه دقيقة في السنة، وليس غريبا على مجتمع يعج بكل أنواع الشعوذة والدجل، ليس غريبا أن يتبوأ كل محتال وكل نصاب مكانة مرموقة في هكذا مجتمعات تعشش فيها كل المبيقات إنها مجال خصب للمحتالين والنصابين. الغريب حقا هو أن تقدر هذه المجتمعات العلم والعلماء، الغريب هو أن تطرد هذه المجتمعات كل أفاك كذاب.” “قبل وباء كورونا – يواصل رشيد – كانت للراقي الشرعي والمشعوذ والدجال مكانة قيمية ومادية أفضل من الأطباء، و أفضل من الباحثين، حتى أتى الوباء، حيث لا ينفع إلا الصحيح، حينها دخل كل نصاب جحره، ولم نجد إلا العلم والعلماء والأطباء، الفايد وعشاب أخر طفوا على السطح، محاولين ترميم بكارة الجهل، تارة بالكذب، وتارة بإستغفال البسطاء، الأول لما لم يجد له مكانا ولا إعتبار، وقف محرجا أمام مريديه الذين كان يوهمهم بقدراته وقدرات الحبة السوداء، وعسل النحلة المؤمنة، كان يوهمهم أنه قادر على إشفاء كل داء، خرج مسلحا بجيش عرمرم من المتخلفين، الدين يحنون لعصور الظلام، عصور لم يكن يجد فيها الإنسان أصلا أي شيء للتداوي سوى العسل والحبة السوداء، خرج لينشر جهله، خرج يجرنا للخلف، خرج محاولا إطفاء مصابيح أنوار هي أصلا مطفأة.”