رام الله : مصطفى منيغ التَّذََكُّرِ نعمة متى أَحْضَرَ لي ما أريد معايشته لحظة بلحظة كما حَدَثَ لأحتاطََ بما مضَى عمَّا يمكن أن يحدثَ ثانية . مرور الأعوام أظهر لي صواب تصرف ترتب عليه التوقف طويلا لتجاوز صدمة توارت بلا هوادة حاملة معها ما حسبته عن نية حسنة ، نوعا من السعادة والاستقرار بما يلزم لتشييد ما يحتضن المستقبل بروحين وُجدا ليتلاحما بالحب وللحب لتحقيق نتاج زَرْعٍ يبهجهما ترعرعهُ وسطهما كأجمل هدية من سُنَّة الحياة ترسِّخ تاريخ المرور فوق تلك الدنيا الفرنسية . كنت في مدينة بروكسيل أقيم وحيدا في حي يٌدعي مولامبيك معروف بموقعه في بروكسيل 8 في ذاك العهد ، أشتغل بالمكتبة الفرنسية التابعة لوكالة توزيع الصحافة، الكائنة بشارع “بِرْسِيلْ” رقم 10 ، التي ألتَحِقُ بها مروراً على نزل “الملكي الكبير” ، لألمح ذات يوم على مدخله لافتة تعلنُ عن حاجة شركة ألمانية لموظفين يشتغلون لحسابها في فرنسا ضاربة موعدا مع الراغبين في الحصول على الوظيفة الحضور في الغد الباكر من أجل اختبار يسبق الاختيار ، كنتُ في حاجة لمعرفة الديار الفرنسية عن كثب ، فقررت الرحيل إليها إن اجتزتُ الاختبار فحصل اختياري ، وكم كنت سعيدا لأجد نفسي مع رجل وامرأتين ركبنا سيارة يقودها السيد “فِيدْمِيرْ” مدير الشركة في باريس ، جلستُ بجوارها وبحدسي تيقنتُ أنها من أصل عربي وما أن وصلنا إلى مدينة النور/ باريس حتى علمتُ منها أنها فرنسية الجنسية من أب مغربي ، واسمها “روس” بالعربية وردة ، العربية التي لا تتقن التحدث بها أصلا . بعد ثلاثة شهور عيّنني المدير رئيسا لفريق مكون من خمسة أفراد ، قبلتُ بشرط أن تكون “روس” من بين الخمسة ، فوافق مبتسماً وحالما استفسرته عن سر الابتسام صارحني أنه على رأس الزملاء والزميلات في الشغل ، البالغ تعدادهم الثمانين، علموا بالاستلطاف الحاصل بيننا كمشروع علاقة ستتم لا محالة بالارتباط رسميا ، وأنه من اللحظة يفكر في صنف الهدية التي سيقدمها لي والعزيزة “روس” في تلك المناسبة السعيدة ، حَصَلَ هذا الموقف بحضور المعنية فصبغ الحياء وجنتيها بنور جمال ما تكرر لعيناي رؤيته إلا بعد سنين طويلة في جزيرة “مَالْطَا” . الوضعية الجديدة كرئيس فريق منحتني الحق في الحصول على سيارة أوزع بواسطتها الموظفين التابعين لي على المناطق التي أقرر اختيارها في المدينة التي نتواجد في محيطها ، وخلال العطل الأسبوعية كنت “وروس”نتنقل بها للتجوال السياحي المفعم بشعور المتعة و الانطلاق مع الرغبة البريئة (طبعا) لاكتشاف ما يوصل إليه العشق الشريف المتبادل باحترام بين امرأة ورجل يتحمل كل منهما مسؤولية الحفاظ على كل شيء كما هو لغاية اللحظة الشرعية المنبعثة منها صلاحية الغوص بلا حدود في لذة مباحة أرادها الخالق أن تتم بالحلال ولا شيء أخر غير الحلال . … عن حسن نية وتصميم لا يستحمل التراجع واستعداد تام لكل الاحتمالات الممكنة ، طلبتُ من “روس” أن تحدد لي موعدا مع أسرتها عامة ووالديها على وجه الخصوص كي أتقدم لخطبتها ، وبدل أن تبتهج تجهَّمت ، لم أدرك سبب تبَدُّلِ حالها ، من انشراح قبل لحظة ، إلى حالة ما كنتُ لأقبلها دون معرفة السبب ، حاولت التهرب لكن أمام إلحاحي فجرتها في وجهي كلمات ما كنت أتوقع سماعها أبدا بعد كل هذا التعلق بدنو التحامنا في عرس خططتُ له بما يؤرخ لأجمل محطة تتوقف عندها مرحلة وحدتي قبل الانطلاق لأسرة أحتضنها بكل ما أملك لتكون مرتاحة سعيدة ، قالت لي”روس”: والدي لا يقبل بك زوجا لي إلا بشرط لا أظن أنك ستوافق عليه يا عزيزي ، رَفَضَت الإدلاء بفحوى الشرط لأرى إن كنتُ قادرا على توفيره أم لا ، وكي لا تجرح كبريائي وافقت على مصاحبتي لغاية بيتها لأقابل والدها وأسمع منه مباشرة ، صراحة ليتني ما ذهبت حتى لا أطلع على ما اطلعت ُعليه ، ولا أسمع ما سمعته ، بالفعل استقبلني والد “روس”بكل مودة واحترام ، ومنذ أول ثانية ولجت فيها ذاك البيت صدمتني رائحة ألفها أنفي منذ طفولتي في حارة اليهود الكائنة بمدينة القصر الكبير، ولما وقع بصري على نجمة داوود الموضوعة قصدا على طاولة بجانب الأريكة المخصصة لجلوسي ، تيقنت أنني وسط أسرة يهودية ، الشيء الذي لم يسبق أن حدثتني في شأنه “روس” وما همتي معرفته قبل الوقت المناسب ، وهاهو الأخير قد فرض نفسه ، فلا داعي للحيرة . بادرني الرجل وأسمه عمران (كما علمت في حينه) بأدب جم : – أنا سعيد بمعرفتك لأعرِّفك باعتناقي كإبائي وأجدادي الدين اليهودي، مسقط رأسي في المغرب الحبيب وتحديدا في مدينة صفرو العزيزة ، أنت مثلي مغربي مما يجعلني أفتخر بك ، لكنك مسلم كما حكت لي عنك ابنتي “روس” التي رأتك ما مرة في غرفتك بالفندق تصلي وكما سمعتكَ مرات عديدة وأنت تتلوا القرآن، ولطالما عاتبتها ُ لعدم إخبارك بأنها يهودية ، فكانت تتحجج بأنها تحبك وتخشى أن تفارقها حالما تغرف أنها على غير دينك ، لذا أصارحك القول أنني لن أسمح بأن تصبح في يوم من الأيام ابنتي الوحيدة “روس” زوجة لك على الإطلاق إلا في حالة واحدة أن تتخلى أنت عن الاسلام وتعتنق ديانتنا، ساعتها سنضعك في مكانة تليق بك معززا مكرما لن ينقصك شيء لا هنا ولا في بلدك المغرب . لم أمهله حتى يتمم كلامه ، بل استأذنته بالانصراف ليعلم أن كلامه مَنَعتُ أذناي كي لا تسمعه أصلا . شعرتُ بقوة تغمرني تزيح من صدري كل دقيقة عشتها و”روس” داخل هودج الأحلام الوردية، ولم أجد بعدها من الوقت غير الذي صرفته في توديع مشغلي وتسليمه ما كان في عهدتي وأخذي مستحقاتي المالية لأغادر تلك الليلة فرنسا عائدا للمملكة البلجيكية . (للمقال صلة)