بضغطة خفيفة على زر الرد، سمعت صوت عمر بيكضاض، الصحافي المغربي في قناة «روسيا اليوم»، يحييني، ثم يقترح علي المشاركة في برنامج تحليلي مباشر، في المساء. كنت منشغلا بعض الشيء بالإعداد لربورتاج ينشر في العدد اللاحق لجريدة «أخبار اليوم». ومع ذلك، لم يكن ممكنا أن أرفض الاقتراح. قلت: «نعم». فسمعت عمر يقول: «ستتصل بك زميلة مغربية اسمها إيمان الراشدي، وستنسقان معا. تحياتي». واصلت العمل على الربورتاج. كنت، كعادتي مع الكتابة منذ الصباح، أبدأ، ثم أقوم من مكاني، في دورة صغيرة، وكأنني أبحث للكلمات عن مسارب تنزل منها إلى الورق. وأعود إلى الكتابة، فإلى دورة أو دورتين. وهكذا، إلى أن أنتهي. في لحظة تالية جاءني هاتف لست أعرف صاحبه. توقعت أن يكون للزميلة إيمان الراشدي. وبالفعل، قدمت نفسها بلباقة عالية. وقالت بعد كلام بيننا «اتفقنا إذن، سنتكفل بنقلك إلى القناة. مدني، رجاء، باسم الفندق». ثم واصلت العمل، في انتظار سائق قناة «روسيا اليوم». بعد دقائق عادت الزميلة تتصل. قلت لعلها ارتأت إلغاء الحلقة لسبب ما. غير أنها طلبت شيئا آخر. قالت: «رجاء أخي يونس، هل يمكنك أن تقدم لي زميلا لك يحضر نشرة الأخبار، قبل برنامجك بدقائق؟». قلت لها: «طبعا، هناك أكثر من زميل. لا عليك. لهلا تحشمنا يا ربي». اتصلت في الحين بالزميل هشام رمرام. وافق على الفور. ثم نسقنا مع بعض. واتصلت بعدها بالزميل عبد المجيد رزقو. قلت له إنها فرصة لكي تتعرف على قناة «روسيا اليوم». وإن تمكنا من التصور، سيكون أمرا جيدا. ربما نخلص إلى ربورتاج. ولم لا؟ كان الجو في خوفرينو، ذلك اليوم، رائعا بحق. الهدوء يحيطنا من كل جانب. وحين تطل من النافذة ترى شجرا باسقا يظلل المكان، ونسائم خفيفة تحركه، وأصوات الطير تملأ الأفق. وفي البعيد سحب بيضاء مثل الثلج تمر ببطء، إلى وجهة ما، فيما الشمس، وهي تتهيأ للمغيب، تتابع دون حياد. استرجعت، حينها، جملة من المشاركات التي حظيت بها في عدد من القنوات التلفزيونية العالمية، الناطقة بالعربية، عبر سكايب، من غرفة الفندق. كانت مشاركات للحديث عن الحضور المغربي في المونديال. وبعضها عن تحليل النتائج. وكان بعضها أيضا عن المونديال بشكل عام. في الوقت المناسب، وكنت مستعدا تماما، بلباس يليق بالمقام، اتصل مكتب الاستقبال في الفندق ليخبرني بأن سائقا لقناة «روسيا اليوم» ينتظرني في البهو. قلت إنني سآتي فورا. وهناك وجدت الزميلين هشام رمرام وعبد المجيد رزقو ينتظران أيضا. تقدمنا إلى الخارج، لنجد السائق يرحب بنا في سيارة جميلة، بكراسيّ وثيرة. انطلقنا في رحلتنا، فإذا بنا إزاء مسار طويل للغاية. لم أتوقع شخصيا أن المقر الخاص بالقناة يوجد على بعد حوالي 45 دقيقة من مقر إقامتنا. خمنت أن المكان الذي يوجد به الفندق بعيد عن مركز المدينة، وهذا ما لم ننتبه إليه كثيرا بفعل خدمة الميترو الجيدة، وسرعته الجنونية وهو في الأنفاق. ومما زاد في طول الرحلة، عبر طريق مزدوج معبد بدقة، بعض الوقفات بسبب الزحام. لم يكن السائق يتكلم. بل قل إنه لم ينبس ولو بكلمة. ترك لنا الفرصة لكي نكتشف وجها آخر للمدينة، وجه الزحام الذي لم نره من قبل، وكيف يؤثر على سير المركبات، ومن ثم على أعصاب مستعملي الطريق. حين وصلنا إلى مقر القناة، وجدناها ضخمة بحق. كانت عبارة عن حي كبير، وليس مجرد بناية. والدليل أننا حين دخلناها سرنا في طريق ممتد، ودرنا دورات، حتى نتوقف في النهاية عند مدخل بناية كبيرة جدا، واجهتها زجاجية، وأبوابها أيضا من زجاج، بعوارض خضراء، تشير حتما إلى الهوية البصرية للقناة التي تعتمد اللون الأخضر. لعله لون طبيعة البلد الخضراء، ولون الخصب بشكل عام. كانت الأستاذة إيمان الراشدي في الاستقبال. رحبت الشابة المغربية السمت بنا بابتسامة. وما إن تحدثت حتى قدرت أنها تتحدر من سوس العالمة. وبالفعل، فقد تبين أنها من مدينة أكادير. شخصيا، خمنت أنها من تارودانت. قالت لنا: «رجاء اتبعوني». وعبرنا معها بهوا طويلا، مضاء، بجدران بيضاء ناصعة، إلى مكتب للتحقق من الهويات، وتمكين الضيوف من بطاقات الزيارة، ليتجولوا بحرية. ولأن الوقت كان ضيقا، فقد ذهبنا رأسا إلى أستوديو الأخبار. هناك اكتشفنا خلية عمل عجيبة، ضمنها عرب من كل بلادنا العربية، وروس أيضا، في مكان أشبه بمغارة صناعية، يوجد في مقدمتها الكتاب والتقنيون، وفي الداخل مكان للتقديم، وعرض الأخبار، بخلفية ممتدة، أما الكاميرات المبثوثة ففي الوسط. حيينا بعض الصحافيين العرب. ثم طلبت إيمان من رمرام أن يصاحبها إلى غرفة الماكياج، إعدادا لظهوره في نشرة الأخبار. وانتبهت، في تلك الأثناء، إلى أن العمل التلفزيوني، كما عهدته في قناة الرياضية، حيث اشتغلت، صعب للغاية. كانت الزميلة إيمان متوترة، وقلقة، بفعل تصرم الوقت، ورغبتها، ككل من يشتغلون في التلفزيون، في أن ينجح البرنامج. هي مسؤولة عن الضيوف تحديدا، وبالتالي، فهي مسؤولية كبيرة وجسيمة. ماذا لو رفض ضيف ما في آخر لحظة أن يأتي أو اعتذر أو لم يكن في المستوى؟ كان مرور هشام في البلاطو ممتازا. حضور قوي، وبشخصية هادئة، ومقنعة، وتملأ المساحة بمقبولية كبيرة. لاحظت أن إيمان تنفست الصعداء. هنأت الزميل رمرام حال انتهائه من البرنامج. فقد بدا زميلها الموريتاني مقدم النشرة سعيدا. وكانت هي أكثر منه سعادة. بالدارجة، «هشام حمر ليها وجهها». شعرت بأن مسؤوليتي، في تلك الأثناء، صارت أصعب. قلت لنفسي: «صعبتها يا هشام». وحين جاء زميلي ليجلس مكاني إلى جانب رزقو، في زاوية بالأستوديو، طلبت إيمان أن ننتقل إلى مكان ثان. إلى بلاطو آخر، حيث يسجل البرنامج الخاص بخروج منتخبات العرب من الدور الأول لكأس العالم. كان التقنيون روسيين، في أستوديو أصغر من الأول. وفي لحظة تالية جاءت المذيعة ميس محمد، التي ظننتها أولا روسية تتحدث العربية، فإذا بها سورية. قلت لها: «هل تذهبين إلى سوريا؟» قالت: «بالطبع، لا شك». فتوقفت عند ذلك الحد، في انتظار البدء. أما هي فانشغلت، وبغضب واضح، بالتثبت من مشهدها في العرض. كانت تصرخ نسبيا: «أروني نفسي في شاشة العرض». كان صوتها عاليا بعض الشيء. وانتبهت إلى أن التقنيين لم يستجيبوا لها، لذلك رفعت الصوت. لم أستوعب ما يحدث. اقتربت مني سيدة روسية مسنة لتثبت الميكروفون الذي يكاد لا يبين. ثم انسحبت في هدوء تام. وإذا بنا أمام العد العكسي، إذ راحت ميس تتلمظ، حتى تتيقن من جودة الماكياج، وتمسد شعرها، كما جرت العادة مع المذيعات والمذيعين، وقد تيقنت من حضور الأسماء المشاركة من بلدان أخرى. مرت الحلقة بسرعة قياسية. لم أتبين الأمر إلا وميس تقول لي، وأنا أشعر بها ترغب في كلام مختصر للغاية، أشكرك، شارفنا على نهاية الحلقة. ثم عادت الروسية المسنة لتخلع الميكروفون، فيما لاحت الأستاذة إيمان بوجه بشوش، فهمت منه أن قلقها لذلك اليوم، على الأقل، قد تبدد. فهناك دائما قلق لدى كل من يشتغلون في التلفزيون، لولا أنهم في تلك الفضائية يشتغلون بنظام أسبوع «إن» وأسبوع «أوف»؛ أي أسبوع عمل، ب12 ساعة ممتدة، مقابله أسبوع راحة. وقفنا بعض الوقت أمام البوابة التي دخلنا منها. كانت هناك ثلة من الأحباب، ضمنهم على الخصوص الزميلان إيمان ومحمد إزودوتن، الذي يشتغل في موقع القناة، فيما لم يكن عمر بيكضاض حاضرا في ذلك المساء معنا. تحدثنا عن أشياء كثيرة وبسرعة الإعلاميين الذين لا يرون بعضهم إلا في مناسبات نادرة، أكثرها في المقابر وهم يدفنون بعضهم البعض. حين كنا نغادر، بدا أن الزميل رزقو قد ذهل لما رآه في تلك القناة. كان الصمت يأخذه إلى البعيد، ليتثبت من الكلمات. ثم إذا به يقول لنا ما جال في خاطره. قال إن المهنية تقتضي الكثير، وما رآه هناك دليل أكيد. أما في الطريق، التي كانت هذه المرة أكثر خفة، ودون كثير سيارات، فقد توصلت باتصال من أسرتي، ووجدتها فرصة لكي أدير الكاميرا إلى فضاءات موسكو الجميلة، لكي أذيقهم بعضا مما تذوقته. ومع ذلك، فقد كانت هاجر تطلب مني وجهي، وحين تراه تبتسم ابتسامة خفيفة وتسأل: «كم بقي من يوم لكي تعود؟». ثم تختفي. تأكدت إيمان من أننا وصلنا على خير. وحين اطمأنت، شكرتنا على ذلك المرور الخفيف الذي رأته موفقا. شكرناها بدورنا على ثقتها في شخصنا. وعدنا إلى غرفنا، لننطلق في عمل جديد، مع شعور بالفخر لوجود مغاربة في ذلك الموقع المميز بقناة فضائية عالمية. ما آلمني بعد ذلك اللقاء الممتع أننا لم نلتقط صورا. لذة الحديث، والإعجاب بالأهل، وبالمكان، وبروح الناس الجميلين، تنسينا أحيانا أمورا في المتناول. ومع ذلك، فالصور لم تنس كليا، وها هي تحكى.