في هذه اليوميات، التي كتبت مباشرة عقب العودة من روسيا، حيث نظم مونديال 2018 لكرة القدم، سيجد القارئ رحلة صحافية مثيرة؛ فيها الكثير من المعاناة، ولكن فيها أيضا الكثير من الكشف عن مناحي الحياة الإنسانية. بين السطور تمتزج رحلة صحافية يبحث من خلالها صاحب اليوميات عن الخبر، والجديد، ليكتب كل يوم لجريدته، وهوامش مهمة للغاية، تنقل للناس صورة روسيا اليوم، أو انطباعات شخصية عن روسيا اليوم، وهي الأصح. كان الوقت يتسرب من بين أيدينا بسرعة، فقرر الزميلان رزقو ورمرام أن يسبقانا إلى الملعب. الاشتغال لفائدة التلفزيون والتصوير يحتاج إلى عمل خاص. المثير أنه حين كنت أتصل بالزميل رزقو، بعد حين، لأعرف منه إن كان الوضع بخير، قال لي إنه والزميل رمرام مازالا في مكتب الاستقبال بالفندق. صعقت. زاد قائلا: «ننتظر سيارة أجرة. الطريق مقطوع، والمطر زاد الوضع تعقيدا». وإذ ارتحت إلى فكرة تقول إن المشكلة ستكون حلت بعد مرور وقت معتبر، إذا بي أتلقى اتصالا من رزقو يؤكد لي فيه أن الوضع يزداد تعقيدا. قال لي: «سيارات الأجرة لا تستطيع أن تأتي إلى هنا، فالطريق مقطوع بفعل الإعداد للمباراة، ولا نستطيع التحرك في الوقت الحاضر، فالأمطار تهطل بقوة»، ثم زاد: «سنغامر على كل حال، ليس أمامنا من خيار آخر». في وقت لاحق، وكنت أغادر وزميلي بنثابت وأندجار نحو الملعب، أبلغتنا المكلفة بالاستقبال بأن الحل الوحيد أمامنا هو الذهاب إلى محطة الحافلات، على بعد حوالي 500 متر تقريبا. قالت بإشارات: «زميلاكما ذهبا إلى هناك. لا حل سوى هذا. سيارات الأجرة لن تأتي». جلسنا على كرسي وثير نستمتع، ولو مكرهين، بزخات المطر وهي تلطم زجاج النوافذ المفضية إلى الحديقة. لم نملك ساعتها سوى أن نضحك على حالنا. كنت أرى في عيون الزميلين ضيقا كبيرا. كان أمرا طبيعيا جدا، فالمسألة لا تسر. كيف سنصل إلى الملعب والطريق مقطوع، ونحن في مكان بعيد؟ خمنت أن صاحبة الشأن ستتصرف، لاسيما بعدما دخل ابنها على الخط، وراح يناقش معنا، بإنجليزية مستساغة، وضعيتنا. قدرت أنها ستدعوه إلى توصيلنا بسيارة مركونة بالخارج. غير أنهما بقيا على الحياد، ينظران إلينا للحظات، وينطقان كلمات، وتنسحب الأم ثم تعود، ويسحب الابن نفَسا من سيجارته، ثم يلف حول نفسه. ويعودان معا للتحديق فينا. قررنا، بعدما تبين لنا أن المطر لن يتوقف قريبا، أن نتحرك. وهو ما أكده لنا الابن بهدوء يشبه التشفي، حين قال: «ثقوا بي. المطر لن يتوقف حتى الليل. بل لعله لن يتوقف قبل أيام». ثم جاءنا بمظلة وجاكيت. وشيعنا بعينين أقرب إلى النوم منهما إلى استقبال يوم جديد. سرنا يمينا لبضعة أمتار، ثم درنا يسارا لحوالي خمسين مترا، ثم إلى اليمين ما يزيد على 400 متر، تحت وابل من مطر لذيذ ومنعش، ومقلق أيضا. كنا نهرول تقريبا في مشينا، وسط نفس رائع، ملؤه رائحة الأرض التي سقاها المطر. وفي لحظة استوقفنا سيارة تقودها شابة لنسألها عن الطريق الصحيح، فبدت آسفة لحالنا وهي تقول لنا: «نعم، امضوا إلى الأمام، وفي نهاية الطريق ستجدون محطة الحافلة». كنا في واقع الأمر نحتال لكي نجد من يقلنا. ولأن من يتحرك سيكتشف أشياء جديدة باستمرار، فقد اكتشفت، وأنا أبلغ النهاية قبل زميلي أندجار وبنثابت، مسجدا في اللفة الأولى يمينا. ذهلت حقا. لم أتصور أن يكون هناك مسجد في ذلك المكان القصي من العالم. بناء جميل، بمئذنة منفصلة عنه يعلوها هلال، وباحة كبيرة، وجدار يسيج المكان، أما في الداخل، فمكان للوضوء على اليمين، ثم باب لمدخل صغير تحفه شجيرات أرز، وبعده باب آخر يفضي بك إلى قاعة الصلاة التي تشع نورا بفعل النوافذ الكثيرة. صلينا ركعتين، وتوكلنا على لله. وبينما كنا ننتظر الحافلة مع بعض المنتظرين، وهم قلة قليلة، قررت أن أسأل شخصا كان يركن سيارة قديمة لنقل السلع غير بعيد، عن الوضع في الطريق، فإذا به يسألني بالإشارة: «إلى أين أنتم ذاهبون؟». قلت له: «الملعب، مباراة المغرب وإسبانيا. كرة القدم. المونديال». تبسم، وقال لي بلغة الإشارة: «هيا، اركبوا». أوجست في بداية الأمر. فلست أدري من يكون هذا الشخص. غير أنني وجدت في نفسي، وبسرعة، طمأنينة، فدعوت زميلي أندجار وبنثابت إلى الصعود في الخلف، وركبت بجانب الرجل. كان بدويا قحا، بلباس بسيط جدا، وبيدين قاسيتين من كثرة الاشتغال في الأرض. في بداية الرحلة لم ننبس بكلمة. كان كل منا يتساءل عن مصير الرحلة. أما ونحن نلف باتجاه الطريق السيار، فقد خفت وطأة المجهول. ورحنا نتجاذب أطراف الحديث بالإشارة. ثم فوجئنا، بعد حين، بشباب يطلبون منا التوقف. فهمنا من أحدهم وهو يتحدث مع السائق أنه يأمره بالرجوع، وتركنا هناك. وكم ذهلنا للرجل وهو يرفض ذلك. كان يقول لمن أمره بالرجوع إنه أعطانا عهدا بأن يوصلنا إلى الملعب، ولا يمكنه أن يخلف العهد (فهمنا أنه يقول له: «الملعب لم يعد بعيدا، ويتعين علي إيصالهم إليه»). وإذ اتضح للشاب أن الرجل مصر على المضي قدما، قال لنا: «رجاء، الطريق مقطوعة عند هذا الحد، يمكنكم أن تنزلوا، ونحن سنتكفل بالبقية حتى تصلوا إلى الملعب». لم يكن ممكنا ساعتها، وقد بدا أن الشرطة ستتدخل في الموضوع، أن نقحم السائق الجميل في مشكلة، فطلبنا منه أن ينزلنا ويغادر إلى حال سبيله. وإذ كنت أغادر، طلبت منه، وأنا أحدق في حاملة النقود على صدره، أن يخبرني بثمن الرحلة. هل تعلمون بم أجابني الرجل، ودون أن يفكر؟ قال لي: «أريد منكم شيئا واحدا لا غير. أن تقولوا لي سباسيبا» (شكرا بالروسية). كان مشهدا مغرقا في الجمال الإنساني. قلت لزميلي: «إن هذا الرجل الرائع يريدنا أن نشكره. فرحنا نقول له جميعا «سباسيبا» أكثر من مرة، وننحني قليلا، دلالة شكر عميق. ثم تحركنا من هناك ونحن نحييه بأيدينا. بعدها دلنا الشباب، ب«جيليات صفراء»، على محطة للحافلة غير بعيدة. جلسنا هناك لبضع دقائق ننتظر ظهور المركبة، وكنا نستعيد ما حدث على وقع ذهول واضح في العيون، دون أن ندرك أننا سنفقد المظلة التي أقرضنا إياها ابن صاحبة النزل في ذلك المكان. ثم إذا بالحافلة تأتي محملة بالكثير من رواد الملعب. كان هواؤها ساخنا بفعل الزحام، وزجاجها مضببا بعض الشيء. أما السائق الشاب، فلم يأبه لشيء، وراح يقطع الطريق الفارغ بإيقاع بطيء. حين وصلنا إلى الملعب، تبين أن السائق لا يعرف مكان التوقف. واحتاج الأمر إلى دقائق أخرى لكي يركن الحافلة، وينزل الركاب. ثم بدأنا رحلة جديدة للبحث عن المدخل المخصص للإعلاميين. كان الباب رقم 6 بعيدا للغاية، ويحتم الوصول إليه العبور بين صفوف من الجماهير المغربية والإسبانية المحتفية بوجودها هناك. لم يكن المتطوعون، هذه المرة، على جانب كبير من النجاح في مهمتهم، رغم أن الوسائل الاحتفالية كانت أكبر وأوضح، والموسيقى الصاخبة تملأ المكان. ولم يكن لهم، في واقع الأمر، أي ذنب في ذلك، بما أن الجماهير كانت تتقاطر شيئا فشيئا، وعلى مسافة بعيدة جدا من الملعب، فتتفرق شيعا، لتراها تصل إليه على مبعدة من بعضها البعض، ما يجعل جمعها في أفواج تغني وترقص وتصخب بعيد المنال. كنا نتضور جوعا، غير أننا لم نهتم للأمر. فقد كنا مشغولين بالدخول إلى الملعب، والحصول على التذكرة، والتأكد من مكان الجلوس لمتابعة المباراة بين المغرب وإسبانيا، تحت وابل من المطر. بلغني في تلك الأثناء، من زوجتي، أن هناك أخبارا تقول بإمكانية تأجيل المباراة بفعل المطر، وأكدت لها أن هذا لن يحدث، فالملعب جميل، وعشبه رائع، وستجرى المباراة في وقتها المناسب. قلت لها: «لعلها تكون أجمل بفعل المطر، وليس العكس». في الداخل كانت الأجواء لاتزال باردة، بما أن الجماهير المغربية لم تلج كلها بعد. ورحت أمتع النظر في بناء الملعب، الذي وقف فريدا وحيدا وسط ساحة ممتدة، غير بعيد عن وسط المدينة، بلفات زرقاء وبيضاء أشبه بعمامة عربية (الرزة بالدارجة المغربية). وراقني ذلك التباعد المدروس بين الجدران الخارجية والمدرجات، بما يسمح للمنظمين بالتحكم في تدفق الجمهور. ولن أحكي كثيرا عن المرافق، لأنها مذهلة حقا، وتحفظ للناس كرامتهم.. «قياس الخير». بلغنا، ونحن نلتقي بقية الزملاء في المركز الإعلامي، أن بنعطية لن يكون حاضرا في مباراة اليوم. وانطلقنا في العمل. لم يكن ممكنا أن نترك عملنا لكي نبحث عن الطعام في تلك الأثناء. الواجب أولا، وبعدها «يحن مولانا».