في هذه اليوميات، التي كتبت مباشرة عقب العودة من روسيا، حيث نظم مونديال 2018 لكرة القدم، سيجد القارئ رحلة صحافية مثيرة؛ فيها الكثير من المعاناة، ولكن فيها أيضا الكثير من الكشف عن مناحي الحياة الإنسانية. بين السطور تمتزج رحلة صحافية يبحث من خلالها صاحب اليوميات عن الخبر، والجديد، ليكتب كل يوم لجريدته، وهوامش مهمة للغاية، تنقل للناس صورة روسيا اليوم، أو انطباعات شخصية عن روسيا اليوم، وهي الأصح. تجاوزت الرحلة من العاصمة موسكو إلى مدينة كالينينغراد الساعة والنصف (تفصلهما مسافة 1253 كلم). ولأن الطائرة راحت تمضي بعلو غير شاهق، حسب ما ألفنا، فقد استمتعت بجمال المنطقة قبل الوصول. الخضرة والماء نعمتان لا مثيل لهما في الدنيا. كالينينغراد مدينة مطوقة، فلا حدود برية تجمعها بالوطن الروسي. وحين وصلنا إليها، سرعان ما غادرنا المطار إلى المركز. ركبنا حافلة عجيبة، ظننت نفسي، بفعل زحامها، في الدارالبيضاء. ولم يتحرك السائق حتى استخلص واجبه من كل راكب؛ 80 روبلا بالتمام والكمال. سار سائقنا ببطء شديد، فيما كنا نمني النفس بوصول سريع عسانا نحصل على سكن. وتبين لنا من صور تتواتر ونحن في الطريق أننا إزاء مدينة مختلفة تماما عن كل ما رأيناه سلفا. هي مدينة غير سعيدة؛ وأهلها يعيشون في عزلة أشبه بعزلة القرية الشاطئية في رواية «الشيخ والبحر» لإيرنست همينغواي. تأكد لنا ذلك الانطباع حال وصولنا إلى المركز. فقد بدا لنا الناس من حولنا بعيدين عنا بعض الشيء. والسماء كئيبة إلى حد ما. وليس هناك أي تعبيرات ملحوظة عن الفرح بحضور جماهيري كبير، واحتفاء باستقبال مباراة مهمة في كرة القدم ضمن مونديال 2018. عدا ذلك، كان كل شيء ممتعا للعين. فالبنيات ممتازة. والمعمار ليس شبيها تماما بما تركناه في موسكو وسان بيترسبورغ، بل أقرب إلى دول أوروبا منه إلى روسيا. عمارات غير متطاولة في البنيان، ودور قصيرة، ونوافذ كبيرة، بحثا عن ضوء إضافي، يمسح جو الحزن المخيم على المكان بفعل موسم مطير طويل، وصيف شاحب. وتماثيل كثيرة؛ فهي مدينة الفيلسوف إيمانويل كانط، ومتحف الكهرمان، والسمك المقدد. كنا نبحث عن فندق نقيم فيه، فسرنا لمسافة معتبرة لكي نعثر على مقام. وجدنا أنفسنا إزاء خضرة مذهلة؛ أشجار في كل وجهة، وعشب منبسط، ومدارات تؤدي بك إلى شوارع يحفها الشجر، وكأنك ماض إلى فيلم للتشويق والإثارة على قناة «إم بي سي 2». التقينا، ونحن في الطريق، أسرة صغيرة من أب وأم شابين، أحدهما يدفع عربة أقلت رضيعا، والآخر يداعب صبيا صغيرا. سألنا عن وجهة نريدها، فوجهنا الأب بابتسامة حلوة. ثم إذ سرنا وابتعدنا، إذا بأنفاس حارة تلفح الظهر، ولهاث. اكتشفنا، ونحن نستدير، أن الأب الشاب كان يركض لينبهنا إلى الاتجاه الصحيح. أي حب للمساعدة يتملك هؤلاء القوم؟ يا سلام، يا سلام. صححنا الاتجاه، وإذا بنا في طريق ربيعي أجمل وأبهى. لا تمر سوى سيارات قليلة للغاية. وبدا لنا حينها كما لو أن المدينة تستعد لعيد ديني. فهناك هدوء صارخ جدا، بل قل هدوء يصعب تفهمه بالنسبة إلى غرباء مثلنا جاؤوا من وطن مشمس، ثم عبروا مدينتين حركهما الاحتفاء بالمونديال. حين وصلنا إلى البيت الذي كنا نبحث عنه، وهو مسيج بسياج صدئ، دلنا على الباب شخص وحيد كان يطل من نافذة ليدخن سيجارته بعيدا عمن معه. ذهبنا إلى الوجهة الخلفية، فإذا بنا إزاء باب لا يفتح إلا بقن سري. رحنا ننتظر هناك، ليبحث لنا الزميل خليل أبورزان عن حل، مادام هو من اتفق مع صاحبة البيت على التفاصيل. من حسن حظنا في تلك الأثناء، وقد رحنا نتحرك بحثا عن الدفء، أن رجلا خرج مع زوجته من العمارة التي تشبه مصنعا للسيارات، بجدرانها الصامتة. استخدم هاتفه المحمول ليحل الإشكال. ثم قال لنا: «بعد ساعة ونصف ستحضر السيدة المعنية، غير أنها تقول إن الأمر يتعلق بشخصين وليس سبعة أشخاص». كان الوضع مربكا. وإذ حضرت المعنية قبل الموعد المحدد، وكنا نتابع سيدة تتمرن في ملعب قريب، بمفردها أيضا، قالت لنا: «أنتم سبعة، وأنا اتفقت مع صديقكم على شقة لشخصين فقط». لم يكن ممكنا تضييع المزيد من الوقت. غيرنا وجهتنا، ورحنا نبحث عن فندق. قطعنا الطريق نفسه الذي أتينا منه. وكأننا كنا في إعادة تلفزيونية. فليست هناك حركة كبيرة للسيارات. فقط خضرة وهدوء. أما وقد اقتربنا من مركز المدينة، الذي أتينا منه، فبدت لنا بعض الجماهير تتحرك قرب محل ماكدونالدز الأمريكي لبيع المأكولات. ومن بعيد قباب ذهبية لكنيس، ونافورة، وعمارات بزخارف ونقوش هادئة، مثل سكان المدينة بالتمام والكمال. كانت العيون تشزر إلينا. كل من يمر بجانبنا يرمقنا، ويعبر بسرعة. قلما يبتسم الناس هنا. يمضون بسرعة أكبر، وهم يلبسون ثيابا غير صيفية، متأهبين للمطر، الذي سنشهد لاحقا أننا في مدينته. فكالينينغراد هي مدينة المطر بامتياز. ولعل ذلك بالضبط ما يجعلها خضراء، ونهرها لا يتوقف عن الجريان، غير عابئ بما حوله. انطلقنا إلى وجهة أخرى. قال لنا خليل إننا أخطأنا في المرة الأولى، وأمدنا بصورة وعنوان شقتنا. ركبنا سيارتي أجرة عثرنا عليهما بشق الأنفس. وحين وصلنا، إذا بصاحب الشقة في الانتظار. ظهر شابا، بوجه مريب، فيه علامات إدمان ما، أمام باب حديدي. كان يلبس تي-شيرت وسروال لباس رياضي، ويمضي بعرج خفيف. رحب بنا، وابتسامته لا ترحب. وبينما كنا ندخل، إذ بالأخت والزميلة حنان الشفعة، من راديو أصوات، تنسحب، متوجهة إلى ضيافة زميلتها جيهان دينار من قناة خليجية. كانت الشقة ممتازة. وحين طلبت شربة ماء، قال لي وأمه، وهما يسارعان إلى الثلاجة: «يمكنك أن تشرب». قلت لهما: «عفوا، نحن مسلمون، لا نشرب الخمر». كدت أنفجر من الضحك، وأنا أفاجأ بعشرات القنينات من البيرا. وإذ وصل بقية الزملاء، عاجلني الشاب وهو يكاد يطير فرحا، ويشير بأصابعه إلى عملية العد، بالقول: «أعطوني المال، بما أن الشقة أعجبتكم. هيا، بسرعة». أما وقد سمعنا منه المبلغ المطلوب، فقد صعقنا. طلب منا 6000 درهم مغربية. فانسحب الشباب مسرعين وعلى وجوههم علامات حسرة كبيرة. وبقيت معه في جدال، وقد أغلق الباب ومنعني من الخروج. كان وأمه يقفان لي بالمرصاد، كما لو أنني رهينة. قالا، وقد برزت أنيابهما، وعلا وجهيهما غضب على غضب: «لن تغادر حتى تؤدي لنا غرامة خمسين في المائة من الثمن». قلت لهما: «وهل اتفقت معكما على شيء؟»، فبهتا معا. وفي لحظة عاد الزميل سفيان أندجار، وقال لي: «ما الذي تنتظره هنا؟ هيا بنا، وليعملا ما بدا لهما». وحين اتصلت بخليل وكلماه، أفسحا لي الطريق، ثم انطلقت مسرورا، وكأني خرجت توا من سجن. قررت وزملائي، حينها، أن نستجيب لمقترح جديد لخليل، فمضيت وسفيان وأبورزان نحو فندق آخر. استقبلتنا ثلاث فتيات جميلات بابتسامة فائقة الجمال. ورغم أنهن تأسفن لأن فندقهن لم يكن يتوفر على غرف تسعنا، فإنهن عبرن عن رغبتهن في مساعدتنا. رحن يبحثن لنا عن بديل. استعملت إحداهن هاتفها، ومضت تبحث إلى أن وجدت. ولن أستطيع وصف فرحتها وهي تعثر على غرف في فندق آخر. كما لو أنها هي من سيقيم هناك، ولسنا نحن. أكثر من ذلك، فقد اتصلت بسيارة أجرة لتقلنا إلى هناك. الفندق الذي اقترحته علينا الفتاة كان من صنف أربع نجمات. وحين وصلنا إلى هناك، وجدنا أنفسنا أمام فيلا ممتازة من ثلاثة طوابق. وضعنا أمتعتنا فورا، وليتنا أدينا ثمن ليلتين عوض ليلة واحدة. فقد كان الثمن مرتفعا بعض الشيء، غير أن الخدمة كانت ممتازة، والمكان رائع الجمال، وأهله طيبون، ومحترفون أيضا. أما المحيط فكان بهيجا، ولو تحت سماء رمادية. الرائحة العطرة للنباتات تتصاعد في الأنف، وينزل أوكسجينها إلى الرئتين مثل برد آت من جنة. كان واضحا جدا أن الفندق حديث العهد. اسمه «فيلا توسكانا». ويوجد في شارع ضيق، في عزلة عن المركز، ولكن غير بعيد عنه تماما. على بعد أمتار منه سوق ممتازة تتأخر في الإغلاق ليلا، وأتاحت لنا فرصة كي نشتري ما نحتاج إليه لإطفاء لظى جوعنا. تدفع البوابة الحديدية للفندق الفيلا، فتفضي بك إلى واجهة جميلة ببناء من حجر أصفر، ونوافذ مزخرفة، وسقف بقرميد أسود. وهناك خضرة في المدخل، ثم باب خشبي جميل، وجرس بنغمة ممتعة. ثم هناك مكتب للاستقبال بالأصفر الفاتح، على يساره مكتبة برفوف وضعت عليها مجلات، وإلى اليسار قرب نافذة تطل على الخارج كنبة بيضاء جميلة. أما في الداخل، فمباشرة وأنت تتحرك خطوات تجد بابي الغرفتين رقم 1 و2، ثم بهو بجدران مغلفة بالورق الملون، تقودك إلى المطعم، ومنه إلى باحة خلفية بها خضرة، وحجر رقيق على الأرضية، يدغدغ القدمين. داخل الغرف مشكل من طراز قديم جدا، بمظهر يعود إلى مرحلة العشرينات أو أكثر، والدليل عليه تلك الرشاشة كبيرة الحجم، وذهبية اللون في الحمام. أما السرير فغطي بغطاء مزركش أبيض اللون، وفي المقابل شاشة تلفزيون مسطحة، علقت فوق مكتبة طويلة الحجم، وبأباجور شكلها أيضا قديم للغاية. ساحر جدا. وضعنا أمتعتنا، وبدأنا نستأنس بالمدينة، حتى نعرف الوجهة التي يتعين علينا أن نمضي إليها إن أردنا الذهاب إلى الملعب.