في هذه اليوميات، التي كتبت مباشرة عقب العودة من روسيا، حيث نظم مونديال 2018 لكرة القدم، سيجد القارئ رحلة صحافية مثيرة؛ فيها الكثير من المعاناة، ولكن فيها أيضا الكثير من الكشف عن مناحي الحياة الإنسانية. بين السطور تمتزج رحلة صحافية يبحث من خلالها صاحب اليوميات عن الخبر، والجديد، ليكتب كل يوم لجريدته، وهوامش مهمة للغاية، تنقل للناس صورة روسيا اليوم، أو انطباعات شخصية عن روسيا اليوم، وهي الأصح. ليست هذه مدينة. هي شيء آخر تماما. هي متحف مفتوح. أو ربما هي ملحمة. أو لعلها باليه كبير يشارك فيه السكان والوافدون على وقع موسيقى غير متفق عليها. بل قل تشارك فيه حتى الشمس والبحر. كل شيء يبتسم. وكل شيء يتحرك. وكل شيء يغري بالانطلاق. إنها سان بيترسبورغ. عاصمة الثقافة الروسية. وعاصمة القياصرة وزعيم البلاشفة والحرب، والانبعاث أيضا. أخيرا، ها نحن نستريح بعض الشيء. تركنا أمتعتنا عند المكلفة بالفندق، بما أنه كان علينا أن نغادر في الثانية عشرة. ابتسمت وقالت: «ضعوها هنا بجانبي. متى ما عدتم ستجدونها رهن إشارتكم». وانطلقنا نكتشف المدينة، ونقتني بعض الأغراض. إلى اليمين حيث الشارع الطويل الضيق يفضي إلى شارع فسيح. ومن هناك إلى اليمين حيث لا ندري، وحيث كل شيء يغري. ثم إلى الفضاء المفتوح من حولنا. بنايات بعمران أوروبي تقليدي خالص. باريسي بعض الشيء. يشبه بنايات وسط مدينة الدارالبيضاء التي بنيت في عهد الماريشال ليوطي، في بعض تفاصيلها. عمارات بطوابق معدودات، وزخارف خارجية باذخة، ونوافذ كبيرة، وسقوف بقرميد لكي ينهمر منه المطر في أيام الشتاء. يعبر الترامواي القديم جدا بتأن عجيب، وتعبر الحافلات، وتعبر السيارات، ولا يعبر الهدوء مطلقا. الشوارع فسيحة جدا، ومعدة بأسفلت لا ثقب فيه أو حفر. وطوار كبير يتيح للمارة، وهم كثيرون للغاية، مكانا يعبرون منه، كل في الاتجاه الذي يرغب فيه. على أن أهل المدينة بدوا مرحبين جدا بالأجانب ممن جاؤوا لكي يتابعوا مباريات كأس العالم بملعب سان بيترسبورغ. الابتسامات توزع يمينا ويسارا، مثل ندف خوفرينو/موسكوالبيضاء التي تطير في الهواء. وكل يبادر إلى المساعدة. عبرنا الطريق في الاتجاه الآخر، عسانا نكتشف شيئا آخر. وإذا بنا أمام «قرية سياحية صغيرة». بناؤها بسيط جدا. تتضمن عمارات كأن محاربين غادروها للتو. جدران غير مبلطة، وأدراج قديمة، وصغيرة. حوانيت في كل مكان، بعضها لبيع المأكولات، وغيرها لبيع الملابس، وأخرى لبيع أدوات التزيين. وفي السطح حديقة؛ أي نعم، حديقة رائعة ليطل منها الناس على المدينة من الأعلى. كان مغربي يعيش في روسيا قد نصحنا بالصعود إلى هناك. التقيناه صدفة، ونصحنا. وإذ كنا في السطح، إذا بنا نكتشف، مرة أخرى، طريقة بسيطة يربح بها هؤلاء القوم مالا وجمالا. فكي تلج السطح، الذي هو عبارة عن ألواح خشبية وضعت بعناية على أرضية عادية لكي تبدو أنيقة، وعلى بعضها عشب صناعي، يتعين عليك أن تدفع مقابل ذلك. بدت سان بيترسبورغ، من هناك، كطفلة تحمل مرآة في يوم العيد. تلك المرآة تعكس أشعة الشمس. ونحن يروقنا المنظر كله. نعم هناك عمارات بطوابق كثيرة جدا، وقباب ذهبية عجيبة لكنائس في كل مكان. وهناك شوارع فسيحة، وأناس يتحركون مثل جيوش، بانضباط محير للغاية. القانون يصنع الجمال أيضا. والخضرة حيثما وليت الوجه والنظر. قرر الزملاء أن يجربوا جولة سياحية مقسمة إلى قسمين؛ أحدهما عبر الحافلة والآخر عبر الباخرة. وفضلت العودة إلى الفندق. كنت متعبا حقا، ومتعبا أكثر من ذلك الجمال الباذخ الذي فاق كل حد. وإذ نحن نتجه إلى حيث يمكن العثور على الحافلة السياحية، إذا بنا نلتقي شبابا روسيين استوقفونا. سألنا أحدهم: «من أي البلاد أنتم؟». قلنا له: «من المغرب». قال: «مزيان». وانطلقنا، هذه المرة، في حديث بشجون. سألناه، بعدما تكلم معنا بالدارجة المغربية، كيف تعلمها؟ ففاجأنا بقوله: «تعلمتها لأنني أردت ذلك. ليس معي طلاب مغاربة في الكلية. ولم أسافر قط إلى المغرب. تعلمت بالمراسلة الشفهية». كان يتحدث ببطء، ويضغط على الحروف، ويخرج الكلمات من جوفه. غير أنه كان يوصل المعنى؛ بل قل يوصل الكلمات بمعانيها المرادة. وضحكنا كثيرا في تلك اللحظات. طلب صورة، واستجبنا. ثم ودعنا بالدارجة، وواصلنا الطريق. في لحظات تالية، وقد اتخذ الزملاء طريقهم واتخذت طريقي، استرقت النظر، غير ما مرة، إلى المحلات الموجودة في الشارع الضيق، شارع الكرنفال الصاخب. كانت المقاهي صغيرة، بامتدادات على الأرصفة، غير أنها راقية جدا، وموضبة بطريقة ذكية، وفيها تجانس، وانسجام كبير مع محيطها. هل قلت محيطها؟ نعم، وهو محيط تلخصه تلك اللوحات والزخارف والمنحوتات المعلقة على مدى الطريق، في الشارع الضيق الصاخب. وكأني بنفسي كنت أمشي في رواق لمعرض فني كبير. تعبت من النظر؛ تعبت لأنني كنت أستعد للكتابة عن سان بيترسبورغ، وهناك أشياء كثيرة تملأ ذهني، فمن أين أبدأ؟ وهل أكون مخطئا في حق القارئ إن لم أنقل إليه كل ما رأيته؟ وكيف أكتب عن جمال الناس هنا؟ كيف أنقل ابتساماتهم التي تشفي؟ وكيف لي أن أصور جمال المعمار؟ شيء آخر أخذ بلبي. إنه الرصيف. كان يبعث المتعة أثناء المشي. فهو ممهد بطريقة تجعله يدغدغ الراجلين. على الأقل هذه المرة مشيي لم يكن متعبا؛ أو لعله كان متعبا وممتعا في آن، أو لنقل كان ممتعا بحيث يذهب التعب في حينه. وإذ وصلت إلى باب الفندق، وهو أشبه بباب خلفي لمستوصف، عدت أنظر إلى الشارع لكي لا يفوتني أي تفصيل يمكنني أن أنقله إلى القارئ. لاحظت شيئا آخر، هناك خيوط كثيرة في سماء المدينة. تساءلت: «لم كل هذه الخيوط؟ الهاتف؟ لا يمكن. الكهرباء، مستحيل. لماذا إذن؟ لست أدري. لكنها تجعل الأمر يبدو كأننا إزاء أستوديو فيلم هوليودي قديم، وليس مدينة تستقبل كأس العالم». وجدت بعض البنائين، جاؤوا من جمهوريات اتحادية تابعة لروسيا، يشتغلون على الجدران والأدراج. قلت: «السلام عليكم» بكل عفوية، فسمعت: «وعليكم السلام». وبشت الوجوه. كان منظرا عجيبا. سألتهم، فقالوا إنهم مسلمون، جاؤوا من بعيد لكي يشتغلوا في البناء. وقلت لنفسي: لا شك أن مثل هؤلاء لا يهمهم جمال سان بيترسبورغ. الذين يبحثون عن الخبز دائما ما لا تثيرهم الأشياء المثيرة ل«سائح مثلي». شعرت بالتعب مجددا، وقد كنت أقتعد كرسيا وثيرا يفصلني عن مصطبة الاستقبال بمتر أو متر ونصف. طلبت من شابة مكلفة بالنظافة، تلبس وزرة زرقاء، أن تدلني على المرحاض. توضأت، وصليت في المكان الضيق. أما وقد رحت أكتب جملا للشكر في «دفتر ذهبي» وضع لذلك، فقد شعرت بأن هناك من يراقبني. كانت الفتاة نفسها. قالت: «هل تكتب بالعربية؟». قلت: «نعم، أنا عربي». قالت: «وأنا مسلمة». وحين سألتها عن الفاتحة لم تعرفها. قالت إن والدها وأمها في البعيد يصليان، أما هي ففي بعض الأحيان. وبعدما أرحت رأسي على الحائط خلفي، وأغمضت عيني، شعرت بتربيت خفيف على كتفي. فوجدت الفتاة، مرة أخرى. جاءت تحمل وسادة. ماذا قالت؟ «يمكنك أن تتمدد». وفهمت، غير بعيد، أنها تطلب من زميلتها الشقراء أن تتحدث بصوت منخفض، لأن هذا الأجنبي متعب، ويتعين أن نتركه يستريح. لم يطل مقامي كذلك. بدأت أعد للرحيل من سان بيترسبورغ نحو موسكو. كان يتعين أن نخرج في جولة أخيرة وقصيرة. وهل يملك المرء أن يصف جولاته في مدن كهذه إلا بالقصيرة؟ هناك أشياء كثيرة تستحق المشاهدة، لكن الوقت لم يكن يسمح بذلك. اقترح بعض الزملاء أن نمضي مزيدا من الأيام في المدينة الجميلة. كان الاقتراح جميلا ويدغدغ المشاعر، غير أن ما لدينا من مال لا يكفي في ما نريد. وقطعنا الشك باليقين، علينا أن نعود الليلة إلى العاصمة موسكو. هناك عمل كثير ينتظرنا. فقد اختارت الجامعة تهريب المنتخب إلى مدينة فورونيج البعيدة، والبديل الذي بين أيدينا هو نقل كل ما يحيط بتنظيم كأس العالم إلى المغاربة. نعم، كل شيء ممكن نقله لإفادة القارئ في البلد، حتى تكتمل عنده الصورة. حين حل وقت المغادرة، ووقفنا في ناصية الشارع الضيق الصاخب، الذي لاحظنا ساعتها أنه بدأ يستقبل رواد الليلة البيضاءالجديدة، سرعان ما توقفت سيارة لرجل عجيب. قال لنا إنه يعرف ما نريده، «تبحثون عن سيارة أجرة. ها هي واحدة جيدة». وإذ طلبنا منه أخرى، أوقفها في الحين. وتوجهنا رأسا إلى المطار في رحلة مثيرة للغاية. لقد كان الرجل شابا مسنا. يغني ويتكلم بلا حد. توقف للحظات. أزاح «بنارة» الطاكسي. قال بعصبية وتحد: «والآن، ليتبعوني. سنرى من الأكثر سرعة». ثم راح يتجاوز الآخرين بحماقة. وفي النهاية طالب بزيادة، فوافقنا، وقال: «مسلم جيد». ضحكنا. وودعنا المدينة الرائعة على أمل لقاء قد يأتي أو لا.