تصوير: عبد المجيد رزقو لم تكن الرحلة إلى روسيا، لتغطية المونديال، متعبة. كانت مرورا على الصراط. ذلك الذي يتخيله الناس سكينا يذبح القدمين. فهناك أشياء كثيرة تستحق أن ترى لمتعة العين، ولكن هناك شيئا واحدا جاء الجميع لأجله، وهو العمل. كان معدل النوم ثلاث ساعات على الأقصى كل 24 ساعة. وحين ينطلق الصحافيون إلى وجهاتهم، يصبحون بقدرة قادر أبطال العالم في رياضات المشي الصبر والاقتصاد؛ اقتصاد المال حتى يكفي لبقية الأيام. بداية الرحلة.. بداية التعب العجيب.. تطلب الوصول إلى روسيا معجزة. لم يكن الصحافيون المغاربة، أو لنقل معظمهم؛ وهو الأصح، يملكون ما يكفي من المال ليسافروا ويقيموا هناك، ويغطوا كأس العالم. احتاج الأمر شراكة مع جامعة الكرة أنتجت دعما بقدر 18 ألف درهم لكل صحافي (مليون و800 ألف فرنك). وجاء تدخل الوزارة، مكرمة، في الدقيقة 90 لينقذ الموقف، بتذاكر الطائرة ومقر للإقامة. ثم انطلق الصحافيون، وصافرة الافتتاح تكاد تطلق، يركضون يمنة ويسرة ليحزموا حقائبهم، استعدادا للسفر. كنا على مشارف نهاية شهر رمضان الفضيل. واستدعى التوصل، في الأنفاس الأخيرة، بالدعم، إلى التصرف لحل مشكلة تحويل الشيكات إلى سيولة. واضطر بعض الزملاء (محمد عاقيل، الشهير بمكاو، وسفيان أندجار، وهشام بنثابت)، بفعل تغييرات في التذاكر، إلى السفر، على وجه السرعة، من مطار الرباط إلى مطار باريس، ثم إلى مطار موسكو، دون أي ترتيب يذكر. سفر مباغث جدا. حين التحقنا بالمغادرين الأوائل في العاصمة موسكو، حوالي الواحدة والنصف من صباح يوم 13 يونيو الماضي، قدم لنا الزميل بنثابت، من يومية العلم، كل الحلويات التي جاء بها معه من المغرب، سحورا، التهمناه على عجل، كي نعد لصوم اليوم الموالي. كان الفجر في حدود الثانية إلا ربع. ثم غادرنا زملاء لنا إلى سان بتيرسبورغ، حيث ستجري المباراة بين المغرب وإيران. وذهبنا إلى النوم، لنكتشف أن الشمس تسلم علينا وهي في كبد السماء. حين كنا نغادر ملعب لوجينيكي، بالعاصمة موسكو، كي نقتني تذاكر للسفر بالطائرة إلى سان بتيسربورغ وكالينينغراد، قدرنا أن الأغلبية يتعين عليها متابعة مباراة الافتتاح، على أن نقوم، نحن الأقلية، باللازم. وإذا بنا إزاء رحلة ستبدأ حوالي الساعة الثانية ظهرا، وتنتهي حوالي الساعة الواحدة ليلا. فموسكو مدينة تسيح بك كلما تقدمت فيها. والحروف الأبجدية الروسية لا تقرأ. وحي على المشي، واللف والدوران. وحي على الصبر. حين عدنا إلى الفندق في وقت متأخر من الليل، عرفنا أن وقتا وجهدا ومالا كثيرا سيضيع منا بفعل الانطلاقة الخاطئة. ما ضر الجامعة لو أنها تعاطت معنا بشكل أفضل، لكانت الرحلة غير مكلفة، فلا يهدر مال كثير، ولا وقت، ولا جهد، في ما هو جانبي، وهامشي. ألم يكن ممكنا أن نهتم، نحن معشر الإعلاميين، بعملنا فقط، عوض الاهتمام بكل ما يتطلبه الجانب الإداري واللوجيستيكي؟ ألم نذهب إلى هناك كي ننقل للناس في البلد كل صغيرة وكبيرة تتصل بالمنتخب الوطني أساسا؟ حي على المشي.. وتحية للمصورين المناضلين.. للوصول من فندقنا بمنطقة خوفرينو، ضاحية العاصمة موسكو، إلى أقرب محطة للميترو كان يتعين الركوب في حافلة أو المشي. اخترنا المشي بعد أن جربنا الحافلة، واكتشفنا أنها ستضيع علينا الوقت. حتى وهي بالمجان. بل قررنا، نحن جماعة من الصحافيين والمصورين الصحافيين، أن المشي سيفيدنا كثيرا، وسنحتاجه كثيرا. فهو رياضة على كل حال، وسيمدنا بالطاقة الإيجابية، ونحن نعبر من مكان جميل إلى مكان أجمل. وسيكون الأمر مثريا ومثيرا، بحيث سنرى أشياء مهمة قد لا تتاح لنا رؤيتها ونحن في الحافلة، حيث ننشغل عادة بالأيفون والأيباد. كنا نمشي بمعدل خمس ساعات أو أكثر كل يوم. وفي تلك الأثناء ننشغل، كل مرة، بنقاش واحد لا غير. تستدرجنا المقارنة بين ما عليه روسيا، في بنياتها التحتية، وعمرانها، وناسها، والنعم الظاهرة عليهم، وما عليه بلدنا. ثم نجد أنفسنا، بين الفينة والأخرى، نناقش الشأن ذاته، مهما تهربنا منه إلى الحديث عن الكرة، والمباريات، وسؤال:"لماذا قرر المسؤولون عن المنتخب الوطني المغربي أن يذهبوا به إلى سويسرا، ثم إلى فورونيج عوض موسكو؟". دون أي جواب يذكر. بل إن بعض المسؤولين في التواصل بالجامعة، التقيناهم بموسكو، وطرحنا عليهم السؤال، ردو علينا بسؤال آخر:"لماذا لم تتبع الصحافة منتخبها إلى فورونيج؟". قلنا:"حتى هذا نظر". لم يكن يغيب عن بالنا، ونحن نسير من مكان إلى مكان، ومن محطة إلى محطة، ومن درج إلى درج، أننا مطالبون، في وقت معين، بإرسال المواد إلى المركز في المغرب، قصد النشر والبث. ولم يكن يغيب عن بالنا أن ندقق في ما يتصل بكل ما هو إداري، وبخاصة في ما يتعلق بالوثيقة المسلمة من الخارجية الروسية، ويتعين تسليمها للجمارك عند المغادرة. ولم يكن يغيب عن بالنا أن نعرف مستجدات المونديال. ولم يكن يغيب عن بالنا أن نسأل عن الأمكنة الأفضل لمعاينة الجمهور المغربي، وتفاعلاته مع المونديال، والمنتخب الوطني على الخصوص. ولم يكن يغيب عن بالنا سوى شيء واحد؛ متى سنأكل، وما الذي سنأكله. كان هذا آخر شيء نفكر فيه. وحين نفعل، غالبا ما نجد الوقت متأخرا كثيرا. ثم نأكل ما تيسر، ونستعد للعمل حتى ساعات متأخرة من الليل. وننام. المصورون الصحافيون كانوا، ونحن نختار المشي، ونقرره، ونتخذه لنا سبيلا، يتعبون أكثر منا بكثير. فقد كانوا يحملون حقائب وزن كل منها يقدر ب18 كيلوغرام. وفي مرة حملت عن زميلي عبد المجيد رزقو حقيبته، لحوالي نصف ساعة من الزمن، عرفت أي معاناة كان يعاني هو والباقون من المصورين. وفهمت لم سقط سقطة حجر في واد وهو ينام بغرفة ضيقة في أحد فنادق سان بتيرسبورغ، كنا قصدناه مضطرين، ودفعنا ما طلبه من أثمان، لأن الليل داهمنا، ولو ببياضه الذي يمتد لشهر تقريبا في تلك المدينة المتحف. "شارجي.. اكتب.. صور".. أعد الكرة.. في الملاعب التي زرناها، ووصلنا إليها، سواء حين كان المنتخب الوطني يجري تدريباته، أو مبارياته، احتجنا إلى طاقة إيجابية كبيرة. فقد كان الوصول في حد ذاته متعبا. ثم بعدها تبدأ رحلة البحث عن الأبواب على مساحات شاسعة جدا. والبحث، بعد ذلك، عن المنطقة المطلوبة للحصول على التذكرة، وبطاقات المنطقة المختلطة وقاعة الندوات. ثم الانطلاق إلى المكان المفترض الجلوس فيه. ثم تبدأ المباراة، فيبدأ العمل. ليس هناك مجال للحركة أو التعبير عن شيء. هناك فقط مجال للعمل. فهناك قارئ أو متتبع ينتظر. وعليك أيها الصحافي والصحافي المصور أن تشتغل كي توفر له ما ينتظره. أما حين ينتهي الجميع ويذهبون للاحتفال في مكان ما، عليك أيها الصحافي أن تنطلق لتعمل من جديد. وحين يذهبون إلى حال سبيلهم، يمكنك الآن، أيها الصحافي، أن تبدأ الكتابة أو فرز الصور، أو التدقيق في التسجيلات. وأخيرا، حين تنتهي، يمكنك أيها الصحافي أن تحكم إغلاق النوافذ، فالشمس تسلم عليك وهي في كبد السماء. ويتعين عليك أن تغض الطرف عنها، وإلا فإنك لن تنام. حاذر أن تغفل عن وضع تلفونك وبقية الآليات في مكان الشحن. وحاذر أن تغرق في النوم أكثر من اللازم. بل حاذر أن تنام. ثم حاذر ألا تستيقظ قبل غيرك، وتنطلق في التأكد من أن كل الإرساليات وصلت في حينها، وبالشكل المطلوب. وحاذر أخيرا أن تكون قد نسيت برنامج اليوم الذي أنت فيه. هيا، إبدأ، وكرر الحكاية. ينتظرك يوم طويل عريض، ومساحات على الأرصفة، وباحات الحدائق، وأبهاء الميترو، وفي المطارات، كي تمشي عليها. لا تتعب. لا تتأفف. وحين يقولون لك:"لماذا لم تأت إلى حيث المنتخب الوطني بفورونيج؟"، إياك أن تقرع الجدران، إياك أن تقول شيئا، بل مت في الخزان، وسلم على غسان الكنفاني. في مرات كثيرة سرق النوم أحدنا ونحن في الطريق إلى الفندق. وحدث مرة، وكنت مع زميلي رزقو، أن اضطررنا إلى اقتعاد أرضية مقطورة ميترو الأنفاق. لو لم نفعل، لسقطنا مغشيا علينا من كثرة التعب. كان يوما عجيبا جدا. مشينا لكيلومرات دون أن نشعر بذلك، بفعل خدر التعب. وحين بلغنا الميترو لنذهب إلى خوفرينو، ضاحية العاصمة موسكو، كان يلزمنا أن نستريح. أمامنا 1500 ميتر أخرى كي نمشيها بين الأشجار، حتى نبلغ باب الفندق. مجرد التفكير في ذلك يتعبك. وعليك، إذن، أن تستعد. ثم هناك يوم آخر يأتي. ويوم آخر بعده أكثر إتعابا. وأشياء لا يتعين على الصحافي أن يفعلها، كان علينا فعلها. تحت الملعب.. عندما كانت المباريات تنتهي، كنا نسارع، مثل محاربين، إلى جانب آخر من أرض المعركة. إلى المنطقة المختلطة، ثم قاعة الندوات. هنالك يبدأ عمل آخر يتعين الحرص على تتبعه بدقة. فاللاعبون، الذين يمرون بسرعة أو تثاقل، حسب مزاج النتيجة، قد يقولون جملة، أو فقرة، أو إنشاء كاملا. وكذلك المدرب، وهو يدخل قاعة الندوات، ويتتبع تعليمات مسؤولي الإعلام لدى فيفا. وفي الطرف الآخر، بالمغرب، من ينتظر أي شيء كي يوفره للمتتبع. فلتسارع، دون أن تتسرع. ويحدث أن يقول أحدهم، مثلما فعل بنعطية، كلمات مشفرة، تحتاج إلى من يفك شفرتها. فتبحث قدر المستطاع عمن يفعل ذلك من المسؤولين. فيقال لك:"لقجع مشغول، والبقية يقيمون في سان بتيرسبورغ. ولديهم طائرة تقلهم إلى هناك". ثم تجد نفسك ملزما بالبحث عن رقم هاتفي لمسؤول، وقد يقول أو لا يقول. وتبقى حيرتك مشتعلة. لا جواب. وقد تغامر، فتسافر إلى فورونيج، بحثا عن حل للغز، فتوصد في وجهك الأبواب. لا جواب. وحين ينتهي كل شيء، وتستعد للعودة، تتيقن أن الرحلة لم تنته بعد. بل يتعين عليك ألا تمتثل لفكرة أبي الخيزران، في رواية "رجال في الشمس" لغسان الكنفاني، حين قال لأحدهم:"لا تجعل من القضية مأساة، هذه ليست أول مرة". أليس هو بالضبط من قال في النهاية:"لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقولوا؟ لماذا؟". ولذلك بالضبط "وفجأة، بدأت الصحراء كلها تردد. لماذا لم تقدوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟".