السير والجولان في العاصمة الروسية موسكو، والمدن الأخرى التي زرناها، سمفونية تستحق أن يقتعد لها السائح، من أمثالنا، كرسيا، ليمتع السمع والبصر. إنها حكاية تستحق أن تروى. وهي درس في السياقة، واللباقة. وهي درس في احترام القانون، والانضباط له، بما يفيد البلاد والعباد. ممرات الراجلين.. المقدس رقم واحد تفاجئك موسكو، العاصمة الغول، بمساحتها الممتدة على 2562 كيلومتر مربع، وعدد سكانها الذي يناهز 12 مليون نسمة، بحركة سير وجولان فريدة. فالطرقات الفسيحة، في كل الأحياء على اختلاف قاطنيها، وموقعها، تظهر حركة متواترة وكثيفة، تشبه حركة نهر موسكوفا العظيم. ومع أنها كذلك، فإن أكثر شيء يحترمه سكان العاصمة موسكو هو ممر الراجلين. فهو مقدس بحق. لا يمكن، بالمطلق، لأي كان أن يتجاوزه دون أن يكون له الحق في ذلك. فمن ناحية، الراجلون يستعملونه دون غيره من أماكن العبور في الطرقات. ومن ناحية أخرى، فمستعملو المركبات يتعاطون معه على أنه خط أحمر، لا يصح تجاوزه إلا بضوء أخضر، ووفق ضوابط معينة. يحدث أن تنسيك زحمة الأشياء التي تتراقص في ذهنك بأنك في روسيا، فتندفع نحو الطريق. ثم سرعان ما تكتشف، بفعل وقفة الآخرين؛ كل الآخرين، أنك أخطأت. تتوقف. تعتذر بطريقة ما. بانحناءة رأس. وتنتظر، مع غيرك، إلى أن تعطاك وإياهم إشارة العبور. ثم تعبر معهم، كما لو أن الأمر يتعلق برقصة باليه، وليس بمجرد خطوات من ناحية إلى أخرى. Û وحين تصل إلى الجهة المقابلة، وأنت تتابع العد التنازلي في الإشارة الضوئية الخضراء، يغريك ذلك المشهد الرائع بالتفاتة إلى الخلف، كي ترصد الصورة كلها، وبرؤية استرجاعية، وتتأكد أن هناك وقفة أخرى، ستعيد المشهد إلى نقطة الصفر. ثم يتكرر كل شيء، بنظام وانتظام. وهكذا، مثل آلة غير مرئية توقف حركة الناس للحظات، وتسيرها بحساب دقيق. في تلك الأثناء، يتوقف مستعملو المركبات على مسافة واضحة جدا من ممر الراجلين. وحين يقترب العد العكسي من الصفر، تصيخ السمع، عساك تصل إلى زمجرة سيارة ما، أو حافلة، أو دراجة نارية، يخبرك صاحبها، بطريقته الخاصة، أن عليك أن تسرع إلى الطرف الآخر، وإلا فلن يرحمك حين تعطاه إشارة العبور. لا يحدث ذلك مطلقا. بل العجيب أن العد العكسي وهو يصل الصفر، يضيف لحظات أخرى، كي يتمكن العابرون العجزة أو العاجزون أو المنهمكون في شيء ما من الوصول إلى الناحية الثانية. شيء آخر جميل هنا. في كل الإشارات الضوئية التي صادفناها في موسكو، وسان بتيرسبورغ، وكالينينغراد، يصدر صوت يعني المكفوفين وضعاف البصر. فلهؤلاء حقهم الكامل في استعمال الطريق، واحترام وضعيتهم الخاصة. يمين ويسار.. سرعتان ومنبهات لا يمكنك استعمال الطريق في العاصمة موسكو، والمدن الأخرى، دون أن يخطف بصرك انسياب السير والجولان. يستحيل أن تجد سائق حافلة نقل عمومية، بشتى أنواعها، وقد تأهب لتجاوز سيارة أمامه. أما أن يستعمل السائق المنبه، ويصرخ ويهدد، أو يبصق، ويسب، فذلك مجرد خيال. كل شيء يمضي بهدوء، ووفق نظام واضح. لا يقال لك عنه، بل تكتشفه بنفسك. وبالطبع، لو أقمت في البلد، سيصبح، مع مرور الوقت، أمرا عاديا جدا. الحافلات تسير، كما يشاهد زائر البلد، في الرواق الأيمن للطرقات. وسيرها بسرعات محددة، لا يمكن تجاوزها. فهي تستعمل لتمكين العموم من الوصول إلى وجهاتهم. وهذا يقتضي أمرا لا بد منه؛ أمان الراكب، والنازل، والصاعد أيضا. فمن جهة يفترض أن يشعر الراكب بالأمان والحافلة تمضي به إلى وجهته. ومن جهة أخرى يقتضي أن ينزل أحدهم ويصعد غيره بهدوء، ودون شعور بالقلق المنبعث من إمكانية أن يسرع السائق، الغاضب، إلى الضغط على آلية السرعة، ويغلق الباب فجأة. السيارات بدورها تتبع نظاما خاصا. فالطريق تتضمن أروقة، وكل منها يمضي في رواقه. عند الحاجة إلى تغيير السرعة يتعين احترام الغير، وتدقيق النظر، والتجاوز بسلاسة، حتى لا يتضرر من ذلك أحد، ثم يؤدي الأمر إلى الإضرار بالانسيابية. ليس هذا فحسب، فاحترام المسافة بين سيارة وأخرى ملحوظ. وهذا يؤكد جدية الساهرين على تطبيق القانون، وجدية من يستعملون الطريق. كل يعرف حقه والواجب عليه. وكل يحترم المنظومة التي ينتمي إليها؛ أكان راجلا، أم سائقا، أم مؤتمنا على تطبيق قانون السير والجولان. الجميل في طرقات موسكو، وغيرها من مدن روسيا، أنها تسهم، وهي الصامت الكبير، في سلاسة السير والجولان. فهي ممتازة في بنيتها، ومنظمة بطريقة مميزة؛ حيث أن أغلبها باتجاه واحد، على شساعتها، حتى تتيح لأكبر عدد ممكن من المركبات أن تمضي بسرعة وتواتر، ودون تراكم يعثر حركية المستعملين. فضلا عن ذلك، فهذه الطرقات تتوفر على معابر تحت أرضية، تسهم في تيسير العبور للراجلين، وتضمن سلامتهم الجسدية. وكي يبقى لكل حقه المستعمل حرا غير مستباح من غيره، فإن من هيأوا تلك الطرقات، وضعوا في الاعتبار أن هناك من سيستسهل عملية العبور من طرف إلى آخر، ما قد يؤثر على سير المركبات. ومن ثم، فإنهم سيجوا جانبا مهما من الطرقات، وفي مواقع معينة، أغلبها عند الاقتراب، لمسافة معتبرة، من ممرات الراجلين. بحيث يكون الممر هو المكان الوحيد، لا غير، الذي يمكن الراجل من العبور إلى الطرف الآخر من الطريق. وبذلك، يكون السائقون على بينة من أمرهم، وفي راحة تامة أثناء القيادة. الاستتثناءات.. ثلاث قصص عجيبة هناك دائما استثناءات. هي تؤكد القاعدة طبعا، ولا حكم لها. منها تحرك سيدة عجوز على ممر الراجلين في وقت كانت قاطرة ترامواي، من النوع القديم جدا، تتقدم نحوها بشارع رئيسي لمدينة سان بتيرسبورغ. صعقني المشهد، فلم أتمالك نفسي لأجدني أنادي عليها بما لم أتبينه من كلمات، لعلها تنتبه. ما وقع بعد ذلك مباشرة أن القاطرة توقفت، فيما السيدة العجوز واصلت طريقها بهدوء. ليتضح بأنها تعرف جيدا ما تفعل، وألا خوف عليها ولا هي ستحزن. فهناك تعامل دقيق مع الراجلين، وخاصة مع المسنين. قال لي زميلي المصور رزقو حينها:"راه السيدة عارفة أش كتعمل". ثم مضينا إلى الطرف الآخر من الطريق، وما يزال الترامواي يسير ببطء شديد، وكأنه يمشي بقدمين، وليس على عجلات. أما غيرنا ممن كانوا ينتظرون الضوء الأخضر، فلم ينتبه أي منهم لأي شيء. كانوا يدركون أن الأمور تمضي بهدوء وحسب المتوافق عليه. المشهد الاستثنائي الثاني كان لسائق طاكسي عجيب. سميته، سابقا، "زوربا الروسي". وهو شخص يملك طبائع خاصة للغاية. فهو الوحيد من بين كل السائقين ممن ركبنا سيارات الأجرة المملوكة لهم، الذي أزال "بنارة الطاكسي"، وساق بسرعة جنونية. بل هو الوحيد بينهم الذي استعمل المنبه. وتجاوز دون أن يعطي غيره حقه في الطريق. ومضى يستعمل يديه ويسب ويصرخ. كان بالنسبة إلينا فلتة وسط الروس. ولو أنه أعادنا، بشكل من الأشكال، إلى الشارع المغربي. وفي الطريق إلى المطار استخدم "زوربا" هاتفه المحمول ليسمعنا موسيقاه المعشوقة. بل وراح يغني. ولم يهتم إلى أننا نريد أو لا نريد الاستماع إليه. كان سائق سيارة أجرة، وراكبا مسافرا في آن واحد. فهو يختار طريقة السير والجولان، وهو يختار الموسيقى، وهو يختار فتح أو إغلاق النوافذ. أما وقد وصلنا إلى المطار، فقد زاد على ذلك كله أنه طلب إضافة مائة روبل إلى المبلغ الذي سبق لنا الاتفاق عليه. استثناء آخر حدث أن شاهدناه في موسكو. في منطقة خوفرينو بالتحديد. وهو لحادثة سير. فقد كنا نعود من جولة صباحية إلى مكان غير بعيد، حين طالعنا "ميكروباص" متوقفا على غير العادة، وخلفه دراجة نارية. ثم تبين لنا أن الأمر يتعلق بحادثة. الجميل في ذلك المشهد الاستثنائي أنه لم يكن هناك ركاب، والأرجح أن من يعنيهم الأمر حلوا مشكلتهم، لكي لا يضيعوا عليهم وقتهم الثمين. ثم إن النقاش بين من يعنيهم الحادث كان وديا. بل كانت هناك ابتسامات، في انتظار حضور الشرطة. وانتهى الكلام. تلك الحادثة الوحيدة التي صادفناها على مدار 16 يوما في روسيا. أما الحادثة الثانية فهي تلك التي طالعتنا بها وسائل إعلام عالمية، لسائق دهس جملة من المارة، وتبين، حسبها، أنها ليست لعملية إرهابية من تلك التي ظل العالم يتخوف منها، حتى قبل بداية كاس العالم 2018. الترامواي.. صديق الآخرين اكتشفنا في موسكو وسان بتيرسبورغ وكالينينغراد أن الترامواي صديق كبير للناس والمركبات. يرتشك معابره مع غيره. لا يفضل أن يمضي منفردا، مزهوا بنفسه. بل تجده مع الغير في طريق واحدة. أكثر من ذلك، فهو يتوقف في الضوء الأحمر. ويترك مسافة زمنية للراجلين كي يعبروا بهدوء. إنه أكثر من صديق. وفضلا عن جماليته التي تجعله أشبه بجرة ريشة في لوحة فنية، فهو يفسح الطريق لتستعمل معابره بحرية تامة. ففي كل مكان وجدت به سكته الحديدية، يمكن لغيره أن يمضي بهدوء، ودون أي إزعاج لمن يستعملون الترامواي. لا يمكن تضييع مساحة كبيرة لفائدة وسيلة واحدة، مع أن تلك الوسيلة هي نفسها تستعمل المعبر على مسافات متفاوتة من الزمن. إنه يشبه، في واقع الأمر، شيئا للترف. حتى وإن لم يكن كذلك في الواقع. فهو للزينة في مدن تستعمل الجمال في الأماكن العامة، وعلى الخصوص في تلك المواقع التي يرتادها الناس بكثرة، لإشعار العموم بأن الدولة وجدت لخدمتهم، فقط لا غير. في موسكو لم نصادفه في كل مكان. بل في مواقع محددة. وكم كان عبوره فريدا، وجميلا. فهو يضفي على المكان، بعبوره على سكة حديدية أقيمت على حجر صلب، مسحة من الماضي. وكل ماض له سطوة في العيون القلوب؛ يذكر الناس بالذي فات، ويدعوهم إلى التفكير بقوة في الذي سيأتي. من قال إن الترامواي مجرد وسيلة نقل؟ من قال إنه ليس وسيلة نقل الناس من زمن إلى آخر؟