وداد بن الطيبي إن أساس كل تواصل على مر التاريخ كان عن طريق الحوار، فهذا الأخير ربط بين حضارات وشكل مجتمعات بصفته الوسيلة المباشرة للتقارب الحضاري والثقافي بين الناس،لأنه يسمح لكل إنسان أن يتواصل مع بيئته المحيطة به و الاندماج بها،إضافة إلى أنه يساعد على تبادل الافكار بين المتحاورين ويتعرف من خلالها على مختلف وجهات النظر.
الحوار حاجة أساسية في حياة كل إنسان لكي يتفاعل مع الآخر و يعالج مشكلاته ويثبت استقلاليته و يوازن بين حاجاته، وهو وسيلة لإرسال إشارات و نقط تعبر عن فحوى الرسالة المراد تبليغها. و لا تقتصر الرسالة على لغة محدودة بل يمكن أن تتنوع من رموز و صور و إشارات و حركات و غيرها،وهذا لا يخص الجنس البشري وحده بل يتعداه إلى عالم الحيوانات التي نجد داخلها حوارات من إيماءات غريزية و إيحاءات أو رقصات وغيرها لإيصال الرسالة، لأن لغة الحوار لا تقتصر فقط على الكلمات و الألفاظ و إنما ترتبط أيضا بفهم الدلالات اللغوية لمعاني الكلمات و القدرة على استيعاب خلفية الاتصال أو ما يسمى بالإتصال الماورائي أي تفسير وفهم ردود أفعال المرسل كالإيماءات و تعابير الوجه و الحركات او الإشارات الصادرة منه،فالأهم في نجاح الحوار هو قدرة المحاور للتوصل إلى فهم و تفسير الرسالة المقصودة للمتحدث[1]. وعليه يمكن القول أن الحوار هو في الحقيقة تركيبة معقدة من ناحية اختلاف طريقة إيصاله و سهل في نفس الآن لأنه باب مفتوح أمام أشكال مختلفة من الطرق لإيصال الرسالة، وبالتالي فهو وسيلة للفهم والتفاهم المتبادلين في أفق خلق بصيرة واضحة و عميقة تتجاوب فيها الأطراف المتحاورة،وحسب الأدبيات الحجاجية المعاصرة فهو متوالية من الرسائل أو أفعال الكلام يتداولها واحد أو أكثر من المشاركين حيث يكون بوجه عام بين طرفين يسأل أو يستفسر فيه الأول الثاني حسب جملة من الضوابط والقواعد وبالتالي فالحوار هو ذلك الخيط الناظم لعلاقات الأفراد المشكلة لكل مجتمع متحضر ومتفاهم لحاجات بعضه. وبما ان نواة كل مجتمع تنبثق من الأسرة فهي إذن المؤسسة الأولى التي تحتضن نمو الفرد منذ نعومة اظافره،وفيها تنمو وتتطور شخصيته لأنها تمثل الخبرة الاولى في حياة كل طفل[2]،و تمثل الوعاء الذي تقام فيه مختلف التفاعلات والعلاقات الاجتماعية بين أفرادها و من ثم تؤثر على قدرة الفرد الناشئ في تكوين علاقات في المستقبل مع أفراد آخرين خارج نطاق الأسرة. إذن فهي المسئولة عن ضمان حياة هادئة ومستقرة إن هي نهجت أسلوب الحوار الأسري المتحضر حتى يتأتى لها تعميق أواصر الاحترام و تحقيق التفاعل الذي يساهم في اكتساب الفرد أثناء تنشئته لثقافة احترام الآخر و تكريس القيم لضمان الاستقرار سواء بين أفراد الأسرة أو خارج محيطها. فتنشئة الطفل منذ صغره على ثقافة الحوار هي عملية لإنتاج فرد متحضر مستقبلا قادر على التفاعل الإيجابي داخل مجتمعه خاصة ونحن اليوم نعيش على إثر أزمة قيم خانقة نحتاج فيها و بشدة إلى استيعاب و تطبيق مفهوم الحوار وخاصة الأسري منه كمنطلق أساسي لتفادي كل السلوكيات المضطربة التي أصبحنا نشهدها تصدر من أجيال على اختلاف أعمارها و الناتجة عن بيئة أسرية غير متوازنة وغير متماسكة سببها غياب فرص التعبير عن آراء خاصة أو مشاعر شخصية و سيادة عقلية أبوية مسيطرة و متحكمة لا تسمح فيها بإتاحة الفرصة للأبناء على وجه الخصوص بالتصرف على طبيعتهم أو إثبات استقلالية سلوكهم، مما يؤدي إلى إذكاء الصراع وزلزلة المناخ الأسري الذي يؤثر لا محالة على قدرة الأبناء في تكوين علاقات في المستقبل مع أفراد آخرين. ومن هذا المنطلق يمكن بناء الإشكالية على أساس مدى فعالية الإسهامات التربوية للحوار الأسري في بناء شخصية سليمة للفرد ، ومنه بناء مجتمع متماسك يسوده ثقافة تقبل الغير واحترام القيم. متطلبات الحوار الأسري الناجح : الضوابط والأساليب إن كل حوار أسري ناجح يتطلب مجموعة من الأساليب و الوسائل،كما له شروط و تقنيات تضمن عملية مرور الرسالة من طرف الآخر بسلاسة و ليونة تتغذى عبره العلاقات بين الوالدين و الأبناء،ومن أهم متطلبات نجاح عملية الحوار الأسري نجد ضرورة مشاركة طرفين أو عدة أطراف،وعدم سيطرة طرف على الآخر كما يفعل الآباء في بعض الأسر إذ لا يسمحون لأبنائهم بالتعبير عن وجهة نظرهم أو إبداء آرائهم،كما يجب أن تكون إشارات ورموز الرسالة دقيقة و وواضحة يمكن أن تستوعب بسهولة من طرف مستقبلها،ولتحقيق ذلك يجب على المحاور أن يكون متمكنا من معلوماته و أن يستعمل أسلوبا سلسا و سهلا يناسب مستقبل الرسالة،وذلك عبر استخدام ألفاظ بسيطة ومفهومة مما يحيلنا على أن شروط الحوار لا تقتصر فقط على الرسالة و إنما لابد ان يتصف بها المتحاور أيضا لكونه العنصر الأساسي في عملية التحاور. ومن بين أهم الصفات التي يجب أن تتوفر في المحاور هي تحليه بفن الإصغاء و الإنصات وليس الاستماع فقط أي قدرته على إبداء الاهتمام بالمتحدث دون مقاطعته وذلك باستعمال عبارات وجمل تطمئنه بالتركيز مع حديثه وكذا استخدام لغات جسدية كالاتصال المباشر بالعين و غيرها،كما يجب أن يكون متقنا لأسلوب الإقناع عن طريق استعانته ببراهين و أدلة واقعية يوضحها للمستقبل بأسلوب لائق بعيد عن كل انفعال او جدال،مما يجعله مطالبا أيضا بالتحكم في ردود أفعاله و أن يتحلى بالموضوعية واللياقة واحترام الآخر وتقبله كما هو أي تمتعه بانفتاح وثقة في الشخصية، وأن يكون منسجما وسياق الحوار وقادر على تنسيق أفكاره وطرحها بأسلوب مرن و بسيط في الوقت المناسب،كما يجب عليه أن يكون دقيق الملاحظة سواء من حيث تركيزه على المضمون الجوهري للرسالة أو من حيث انتباهه للغة جسد المتحدث كوضعية جلوسه واتجاه حركات يديه وعينيه وغير ذلك. زبدة القول، تبقى تقنيات و أساليب الحوار عديدة ومتنوعة لابد من توافرها لضمان حوار فعال بين أعضاء الأسرة وخاصة تلك المتعلقة بعدم الاستئثار بالحديث أو فرض الرأي وعدم سماع صوت الآخر، حرصا على التوصل لنتائج إيجابية تعود بالنفع على استقرار وتوازن الأسرة. معيقات الحوار ودورها في إلغاء التقارب الأسري يعود السبب الرئيسي لانتشار ظاهرة التشتت الأسري الذي أصبحنا نشهدها اليوم إلى غياب الحوار الفعال و التواصل الإيجابي بين أفراد الأسرة، مما يؤدي إلى تشرد الأبناء و اضطرابهم النفسي الذي يمكن أن يتطور إلى حالة يستعصى علاجها، وفي ظل نفسية معنفة غير مستقرة يصعب الحديث عن فرد متوازن في سلوكه و منضبط في علاقاته و طرق تعامله مع الآخر. و قد أوضحت دراسات علمية ان الشجار الدائم وممارسة العنف داخل المحيط الأسري و انعدام التفاهم والود والاحترام بين الوالدين يؤدي إلى فقدان الأبناء للشعور بالاطمئنان و الاستقرار مما يكسبهم أنماطا سلوكية سلبية وأعراضا مرضية مثل حالات الاكتئاب، و القلق وفي بعض الأحيان أمراض عضوية يصعب علاجها،ما يساهم في تنشئة فرد انطوائي رافض لمختلف أساليب الحوار والمناقشة مع الآخرين في حياته المستقبلية،ولعل أهم أسباب انعدام لغة الحوار الأسري تعود لغياب الثقة بين أفراد الأسرة وتجاهل بعضهم البعض، بالإضافة إلى عدم وعيهم بأهمية الاستماع و الاهتمام بمشاعر الآخر ومشاركته لمشاكله،أي انعدام الأذن الصاغية والجوار في العلاقات،وبالتالي فالتنشئة التسلطية أو التنشئة الديمقراطية وطبيعة العلاقات داخل الأسرة هي العنصر المؤثر سلبا أو إيجابا على علاقات الأبناء داخل المجتمع وعلى نشاطهم الاجتماعي المتوقع لهم[3]. من جهة أخرى تبقى أهم المعيقات التي تحول دون إقامة حوار أسري ناجح كامنة في مجموعة من السلوكيات والتصرفات أبرزها فقدان الأسرة لتقنيات الحوار ونهجها لأساليب العنف و التسلط على الأبناء، ما يجعلهم يتجنبون التواصل ،ثم الإهمال كأكثر تصرف مؤثر على شخصية الطفل بسبب ترك هذا الأخير دونما اهتمام و تشجيع أو دون محاسبة و توجيه مما يؤدي بتنشئته في الاتجاه الخاطئ،نفس الشيء بالنسبة للحماية المبالغ فيها والتي تضعف من شخصية الطفل و تجعله غير قادر على مواجهة أية مواقف جديدة بنفسه،و من ضمن تلك المعيقات هناك اعتماد الوالدين لاتجاهات تربوية متسلطة و قاسية إما لا تستمع فيها للآخر أو تفضل عضو من الأسرة على الآخر،الشيء الذي يرفع من معدل البغض و الصراع و يقلل من فرص الاتصال و التحاور بين أفراد الأسرة، مما ينتج عنه آثار وخيمة قد لا يحمد عقباها مستقبلا. فمادامت الأسرة هي اللبنة الأساسية والمنظمة الاجتماعية الأولى التي تصنع شخصية أبناءها،فهي إذن المسؤولة الأولى والأخيرة عن تعلم هؤلاء الأبناء لسلوك اجتماعي منضبط و تكوين اتجاهاتهم الاخلاقية والدينية وغيرها،وتحمل مسؤوليتهم،وبالتالي فأي اضطراب أو تصدع على مستوى البيئة الأسرية لن تعطينا سوى أفراد مضطربين و منفعلين غير قادرين على الانخراط في تكوين علاقات إيجابية داخل مجتمعهم،على عكس الأبناء الذين ينشئون في محيط تسوده قيم التسامح و الحوار فإنهم يكونوا قادرين على تقبل الآخر و احترامه،وبالتالي يبقى الحوار الأسري و استخدام تقنياته على النحو الإيجابي هو مفتاح تنمية سليمة لكل مجتمع متحضر تسوده ثقافة توقير الآخر و استيعاب رأيه ووجهة نظره.
[1] – محمد أحمد النابلسي، الاتصال الإنساني وعلم النفس، دار النهضة العربية للطباعة والنشر،بيروت ، 1991، ص99 [2] – كروش كريمة،الحوار بين الآباء و الابناء، رسالة ماستر،2010/2011، ص 12 [3] – فوزية بوموس،دراسة أهم معوقات الحوار الأسري من وجهة نظر الأبناء،مجلة الإنسان و المجال،عدد 6، مجلد 3، أكتوبر 2017،ص34.