لحسن كجديحي ليس من شك في أن الأسرة احتلت مكانة مهمة لم تحتلها أية مؤسسة اجتماعية أخرى في تاريخ التطور الإنساني فيما يتعلق بالتنشئة، فقد كانت الأسرة منذ القديم المؤسسة الاجتماعية الوحيدة التي تعلم الأطفال وتعدهم للمستقبل. ولما كانت الحياة في تلك المجتمعات بسيطة نسبيا فإن التنشئة لم تكن معقدةٌ بل كانت أقرب ما تكون من عملية التربية غير المقصودة وكانت تتضمن استخدام الإيضاح والتعلم بالمحاكاة والممارسة. فالأسرة نظام اجتماعي يشترك كل فرد فيه في نظم فرعية متعددة، ويتضح أيضًا أن المصادر الأسرية تشكل القاعدة التي تنبثق عنها التفاعلات داخل الأسرة وتفاعلاتها مع الأفراد الآخرين في المجتمع. وتتمثل المصادر الأسرية بمميزات الأسر كعدد أفرادها، خلفيتها الثقافية، وضعها الاجتماعي – الاقتصادي، وخصائص أفرادها كوضعهم الصحي، قدراتهم العقلية، جيناتهم الوراثية... ويمثل مجرى حياة الأسرة سلسلة التغيرات التي تؤثر عليها في المراحل المختلفة كحوادث الحياة الفجائية - المواليد الجدد، توقف أحد الوالدين عن العمل، المرض، الوفاة ...فمثلا : عندما ينمو الأطفال في غياب أحد الوالدين بسبب الوفاة أو الانفصال أو السفر أو العمل. يتوحد الطفل أو الطفلة مع الطرف الغائب ويتقمص شخصيته لكي يعوض غيابه. فالبنت في غياب أبيها قد تكون أكثر ذكورة، والولد في غياب أمه قد يميل إلى الأنوثة. وهذه الصورة ليست إلا تعبيرًا عن الدفاع اللاشعوري للطفل ضد حالة من حالات قلق الانفصال. ليبقى الترابط الأسري مرآة تعكس الطرق التي تتفاعل فيها النظم الأسرية الفرعية مع بعضها البعض. وعلى وجه التحديد، يعرف الترابط الأسري على أنه الرباط العاطفي الذي يشد أفراد الأسرة نحو بعضهم البعض من جهة، واستقلالية الفرد في النظام الأسري من جهة أخرى. وعليه فمن الممكن تصور الترابط بأنه مدرج متصل أحد طرفيه التداخل وطرفه الآخر الانفصال. في حالة التداخل الكبير تكون حدود كل نظام في الحياة الأسرية غير واضحة أو ضعيفة. والتفاعلات الأسرية التي يسودها التداخل الكبير غالبًا ما تتسم بالتدخل المبالغ فيه والحماية المفرطة، وهذا الجو الأسري لا يسمح إلا بقليل من الخصوصية وكل القرارات والأنشطة ليست موجهةٌ نحو الأفراد ولكنها تتمركز حول الأسرة كلها. أما الحياة الأسرية التي تتصف بانفصال أفرادها عن بعضهم البعض فهي تتسم بحدود صارمة تفصل النظم الفرعية المكونة للنظام الأسري عن بعضها البعض، ومثل هذه الحياة الأسرية قد تترك تأثيرات سلبيةً على أفرادها مثلها في ذلك مثل الحياة الأسرية المتصفة بالتداخل الكبير. ليبقى التوازن بين طرفي الترابط السابق الذكر هو من خصائص الأسر الناجحة، التي تقوم بوظائفها بشكل جيد. فالحدود بين النظم واضحة وأفراد الأسرة يشعرون بالارتباط العاطفي القوي من جهة وبالاستقلالية والخصوصية من جهة أخرى. ولكي يتسنى لنا فهم الأدوار التي تقوم بها الأسرة ينبغي التذكير بأن الأسرة نظام دينامي، فالعلاقة ما بين الفرد وأسرته علاقة تبادلية، فهو يتأثر بها ويؤثر فيها، ولا أحد من أفراد الأسرة يعمل بمعزل عن أفراد الأسرة الآخرين. فالإطار المفهومي لنظام الأسرة يشتمل على مكونات رئيسية يتمثل بعضها في الوسائل المتاحة لهذه الأسرة لإشباع الحاجات الفردية والجماعية لأعضائها، بالإضافة إلى العلاقات بين أفرادها والمجموعات المتفرعة عنها. إذا كانت الخبرة الأسرية ترسم ملامح نمو الإنسان وقدراته وتكيفه في مرحلة الطفولة فهي تحدد مدى استقلاليته ومفهومه لذاته في مرحلة المراهقة، وتحدد مستوى شعوره بالطمأنينة ومدى تحقيقه لذاته ووضوح أهدافه في مرحلة الرشد. وكما تقول (د. سناء الخولي ) ""الأسرة هي نظام اجتماعي رئيسي يشكل أساس وجود المجتمع ومصدر الأخلاق فيه"".فالأسرة لا تعمل على تلبية الحاجات الأولية للفرد من طعام ومأوى وملبس فحسب ولكنها تلبي حاجاته الإنسانية الأخرى كالحاجة إلى الحب والانتماء وتنقل من جيل إلى جيل التقاليد والقيم الثقافية والروحية والأخلاقية. لكن و مع تطور الحياة وتعقيداتها تغيرت الأدوار التربوية للأسرة حيث إن التطورات الحديثة سلبت الأسرة وظائفها تدريجيا. وقد عبر "" الدكتور على وافي"" خير تعبير عن هذه الحقيقة إذ كتب يقول إن وظائف الأسرة تطورت : "من الأوسع إلى الواسع ثم إلى الضيق فالأضيق، فوظائف الأسرة في الإنسانية في أقدم عهودها كانت واسعة كل السعة شاملة لمعظم شؤون الحياة الاجتماعية، ولكن المجتمع العام أخذ ينتقص هذه الوظائف من أطرافها شيئًا فشيئًا، وينتزعها من الأسرة واحدة بعد أخرى، ويعهد بكل منها إلى أجهزة خاصة تسير تحت إشرافه، حتى كاد يجردها منها جميعًا".( الدكتور على وافي ) وهكذا، فالجو الأسري السلبي يقود إلى مشكلات سلوكية لدى الأبناء، إذ يصبحون أكثر تهورًا وعصيانًا ويشعرون بتصدع على المستوى النفسي. ويتبين أيضًا أن الخلافات الزوجية في مرحلة ما قبل المدرسة تترك تأثيرات طويلة المدى تستمر إلى مرحلة المراهقة حيث يكون الأبناء أقل قدرة من غيرهم على بناء علاقات اجتماعية إيجابية مع الآخرين وأقل قدرة على ممارسة الاتزان الذاتي.و في المقابل تشير نتائج دراسات علمية أيضًا إلى أن اتفاق الأب والأم على أساليب تنشئة الأبناء ينبثق عنه بيت أكثر تجانسًا وأبناء أكثر كفاية من النواحي العقلية والاجتماعية.ابتعادا على الابتزاز العاطفي الذي يسقط فيه كثير من الآباء. ( جورج موكو ). بعض المراجع : الدكتور على وافي في كتابه "عوامل التربية". جورج موكو في كتابه التربية المزاجية والوجدانية لدى الطفل ( بالفرنسية ). د. سناء الخولي في كتابها "الأسرة والحياة العائلية".