يُعد مفهوم المثقف الجيلي، مفهوما إبداعيا، نُحاول من خلاله "تسليط الأضواء" على نوع من التفكير العمومي الذي يخص تاريخ الإنسانية عامة، منذ ظهورها على وجه البسيطة مكانا وزمنا حتى تاريخنا المعاصر اليوم. ولذلك، فعنونة هذه الأوراق ب "في الحاجة إلى المثقف الجيلي اليوم"، هي عنونة يقصد من ورائها محاولة تفكير مثقف لا يتأثر بالزمن التاريخي أو بالمكان الجغرافي أو بالإنسان الغربي أو العربي أو الإفريقي أو الأمريكي… الخ؛ بل، تفكير يُبحر في وضعيات الأجيال المختلفة بين الماضي والمستقبل مرورا بالحاضر، في إطار عملية استنباط واستخراج ثم صناعة لمفهوم نحن اليوم في أمس الحاجة إليه، أكثر من أي وقت مضى. ونحن، في ذلك، لا نقوم بصناعة المفاهيم، وإنما نبدي وجهات نظرنا الخاصة في واقع اليوم، لعلنا بذلك نستشف ما يقف في طريق مجتمعاتنا المعاصرة، حجر عثرة دون بلوغ التطور والنهضة والتنمية؛ وهو ما تم بالفعل اكتشافه، من خلال نتائج دراسات وأبحاث في مجال "الأجيال". ومن هذا المنطلق، نسعى إلى "تَفكير" المثقف الجيلي باعتباره رهانا موضوعيا في الزمن الحاضر، ونطرح للنقاش المفتوح والمنفتح جانبا من إشكالاته التأسيسية نظريا وعمليا. أولا: تجدر الإشارة إلى أن التعاريف التي تحاول مقاربة ماهية المثقف كمفهوم متعدد الأوجه، تختلف باختلاف وتعدد وجهات النظر إليه، سواء تفكيرا أو ممارسة. فهناك من ينظر إليه من وجهة نظر معرفية، وهناك من ينظر إليه من وجهة نظر اجتماعية، وهناك من ينظر إليه من وجهة نظر سياسية أو اقتصادية أو تاريخية أو لغوية. وكيفما كانت واختلفت وتعددت هذه الرؤى، إلا أن إشكالية المثقف، اليوم، تظل قابلة للتفكير وإعادة التفكير، في كل مرحلة من مراحل تطور الإنسان المعاصر باعتباره مثقفا جيليا. ولتفكير المثقف الجيلي، اليوم، أي جعله موضوعا للتفكير، من خلال حاجتنا إليه، سوف نقدم تعريفا شبه عام، وفق وجهة نظرنا الخاصة. وهي، تلك الرؤية التي تعتبر المثقف الجيلي: * من جهة أولى، وفي مرحلة أولى، كل عضو أو ذات حاملة لمشروع اجتماعي، تهدف إلى تقديم أفكار تأطيرية وتوجيهية – نظرية وعملية – لفائدة كل الأجيال، دون التقوقع في خانة الانتماء الإيديولوجي المرهون بتحقيق مصالح خاصة عوض المنافع العامة للأجيال الحالية دون الأجيال القادمة على سبيل المثال. وفي مرحلة ثانية، كل فكر نقذي، يحاول دوما وباستمرار إعادة النظر في المنطلقات حسب التطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والتاريخي والثقافي الذي تعيشه الإنسانية بانتظام وتواتر عابر للأجيال في الزمان والمكان؛ * ومن جهة ثانية، هو ذلك الإنتاج الموضوعي الذي تُبنى، من خلاله، الشخصية العامة، التي تشتغل عبر الفضاءات العامة، والتي لم تعُد مُلكا ذاتيا صرفا لنفسها؛ بل، أصبحت مُلكا مشتركا للإنسانية جمعاء عبر مختلف الأجيال. فالإنتاجات المعرفية والتَّلمَذِيَّة لأفلاطون وأرسطو وسقراط، أو لابن خلدون وابن رشد والغزالي، أو لمحمد أركون ومحمد عابد الجابري ورشيد علمي الإدريسي – وهم مِن المثقفين الجيليين – لا تزال تساهم بشكل أو بآخر في خدمة مختلف الأجيال المتعاقبة في الزمان والمكان؛ * ثم من جهة ثالثة، هو ذلك الانطباع السلوكي الذي يقدم لنا مرجعية عِلمية وأخلاقية نموذجية في حسن التعامل والتواضع والعطاء والإبداع والتطوع دون خلفيات تَميِيزِيَّة أو مُمَيَّزاتِيَّة. ونستطيع اتخاذه مثلا أعلى نقتدي به في معاملاتنا وسلوكاتنا وأفعالنا وأعمالنا اليومية. إنه كل تصرف إنساني يربي فينا حسن التخلق مع دواتنا قبل غيرنا، ويعكس في دواخلنا انطباعات بحتمية الاستثمار في الضمير الحي، الخلاق، الذي لا يرضى بالكذب والنفاق أو بالظلم والاستبداد أو بالاستغلال والاستعباد أو بالعنف والصراعات والحروب، مهما اختلفت ثقافاتنا ودياناتنا وأجناسنا وجنسياتنا وانتماءاتنا وجغرافياتنا وأجيالنا. ثانيا: إن المثقف الجيلي، ليس شخصا فحسب، بل هو مشروع وموضوع و"مطبوع". فالأول ذاتي بما هو فاعل معرفي خَلّاق؛ والثاني موضوعي بما هو قول إنتاج فَتّاق؛ والثالث سلوكي بما هو فعل اجتماعي طَبّاق. وكلها، تتكامل فيما بينها لتخلق لدينا مثقفا جيليا، يجمع – من جهة أولى – ما بين التكوين الذاتي المحقق للتراكم المعرفي والعلمي الرصين، في إطار مشروع مجتمعي مؤهل فكريا للاستجابة لشروط النقد والمراجعة المتواترة جيليا؛ ومن جهة ثانية، بين خدمة الذات المفكرة وخدمة المصالح العامة للمجتمع والدولة، في إطار إنتاجي، يُخرج لنا الكفاءات المعرفية والبشرية لخدمة مختلف الأجيال المتعاقبة؛ ثم من جهة ثالثة، بين محاولة المساهمة في تكوين مجتمع ناشئ، يعتمد على معايير معيارية، قانونية وأخلاقية لحفظ المجتمع من عمليات التشيؤ الناتجة عن خطر التفسخ الأخلاقي أو الاعوجاج الحداثي أو الانبهار الآلي، مع التحذير من مخاطر استهلاك الأفكار الاستلابية من قبيل تأليه النموذج أو تقديس المثل الأحادي أو عبادة الزعيم الوحيد. إن الحديث عن المثقف عموما والمثقف الجيلي خصوصا، يستهدف الخروج من بوثقة المفاهيم التي تحاصر المثقف كحامل للمعرفة فقط أو كمدافع عضوي أو كملتزم بالقضايا المجتمعية، وغيرها من المفاهيم الانحِصارِيَّة؛ ولهذا، بصريح العبارة، حاولنا الجمع بين العديد من المفاهيم الضيقة أو التخصصية أو الجزئية لنمنح للمثقف ما هو به تتحدد ماهيته الوجودية، أولا كإنسان، وثانيا كمجتمع، وثالثا كآخر. يحمل في الأولى مشروعا مجتمعيا ينبثق من قناعاته الإنسانية، ويبسط في الثانية طرقا متعددة توصل كلها إلى الوحدة المجتمعية، بينما يتبنى في الثالثة نماذج للعبرة تقود إلى المعاملة الإنسانية في كافة المجتمعات دون الانحياز إلى مكان معين أو فترة زمنية محددة. بل، إن المثقف الجيلي، هو حلقة من الذوات والأفكار والعلاقات التي لا تقف عند زمن معين أو مكان محدد أو جيل بعينه. يُعد المثقف الجيلي، ذلك "الفعل والفاعل والموضوع" الإنساني العضوي الملتزم بكافة القضايا الإنسانية، في إطار حلقة متكاملة العناصر، والتي تتضمن الإنسان والمجتمع والدولة، ولا تنبثق من أحادية متطرفة أو محايثة أو محايدة؛ بل، هي وحدة المشترك الإنساني لإعادة بناء الإنسان والمجتمع والدولة. وهذا، ما يصعب تحقيقه دون توفر أدنى ما يمكن من العناصر الموضوعية البنائية من قبيل المعارف العلمية والأخلاق النبيلة والقوانين التنظيمية. ثالثا: لا شك بأن المثقف الجيلي في صورته الخاصة، قد يعتبره البعض قاصرا عن شمل كل التعاريف السابقة حول المثقف عموما؛ وهذا الأمر صحيح في بعض جوانبه، ولاسيما إذا نظرنا إلى المثقف الجيلي من ناحية تجزيئية كمتحدث سياسي أو اقتصادي أو تاريخي… الخ. ولكننا إذا نظرنا إلى المثقف الجيلي في صورته العامة دون ربطه بمجالات تخصصية أو ضيقة، سوف نجد بأنه مفهوم واسع وقابل لتضمين مختلف التعاريف الجزئية لأنه مفهوم عابر للأجيال ولا يرتبط بمجتمع أو بشعب بعينه أو بحقبة زمنية محددة أو بمكان معين. بل، هو مفهوم يرتقي في الأفق مخاطبا الوجود الإنساني بما هو ذلك المشترك بين مختلف الأجيال: جيل الماضي بإرثه الذي ننعم به اليوم، وجيل الحاضر الذي يصنع ويكيف حاجياته مع يومه، ثم جيل المستقبل بمفاجآته وأحلامه وآماله التي نستشرفها أو نتنبأ بها اليوم. إن الذي يمارس أو يساهم أو يشارك في عمليات تفكير الواقع الإنساني في العالم المعاصر، من وجهة نظر المثقف الجيلي، ستبدو له الأوضاع التي نعيشها اليوم، أشبه بما خُبِّرنا به من وضعيات الأمس وما نُبِّئنا إليه من وضعيات الغد. إن الخطير في الأمر، هو محاولة اختزال المثقف الجيلي في تصوراتنا للماضي أو للحاضر أو للمستقبل فقط، في حين أن المثقف الجيلي هو الماضي والحاضر والمستقبل في إطار شمولي لا يفرق بين مكوناته التكاملية إلا من لا يؤمن بتكامل الأجيال في إطار تعاقبها الزمني والمكاني. جربوا أن تعيشوا بإحساس الأجداد والجدات، وقصوا وقائع تواريخ حياتكم الماضية بروايات معاصرة للأجيال الحالية، ثم تخيلوا انعدام وجودكم في الحاضر لأنكم جزء من المستقبل الذي لم يولد بعد؛ وذلك، قبل أن تخبروننا في النهاية عن كل الأمكنة التي تعايشتم فيها ومعها. لا محال بأنكم ستجدون أنفسكم، قد تقمصت دور المثقف الجيلي، مشروعا وموضوعا ثم طباعا، فكريا وأفكارا ثم سلوكا. تلك وذلك، مما يدخل في تعريف المثقف الجيلي حسب وجهة نظرنا الخاصة. فهلا حاولتم إعادة تفكير دور المثقف الجيلي كبديل عن كل أصناف المثقفين المعدومين أو المنسحبين من الحياة العامة أو المستغلين لها في المجتمعات المعاصرة اليوم، ومنها المجتمعات العربية بالخصوص والمجتمع المغربي بالأساس؟ تلك دعوة لتفكير الإنسان والمجتمع والدولة من وجهة نظر المثقف الجيلي. وغايتنا، في ذلك، مشاركة عمليات التفكير لخلق فضاء عمومي منفتح على كل الاحتمالات التي يمكن للواقع المعاصر أن يخلقها أمامنا كإشكاليات معرفية وفكرية أو مجتمعية أو مؤسساتية وسياسية. ******* إننا لا ندعي احتكار الصواب فيما يسعى المثقف الجيلي إلى بلوغه فكريا واجتماعيا، حسب تعريفنا الموضوعي وفق إمكانياتنا المتواضعة معرفيا. ولكننا، نريد التأكيد على أمر ضروري، وهو إعادة النظر في الأدوار والآليات والأهداف التي ننتظر العمل بها ووفقها اليوم كأطراف متعايشة ثقافيا واجتماعيا وسياسيا وتاريخيا في العالم المعاصر، من الإنسان المفكر إلى المجتمع الواعي والدولة المنظمة. وما دون ذلك، فقد تقع هنا وهناك ثم هنالك، فوضى عارمة قد يُفتَقَد بسببها المعنى في الحياة الانسانية كلها؛ الأمر الذي قد يقود إلى العدمية في التفكير والتشيؤ مع الاستعباد في المجتمع والاستلاب مع الاستبداد في الدولة. من كل ما سبق، قد نختم هذه الأفكار بقاعدة عامة، تقول: لا تُفرق بين الإنسان أو تميز بين الأمكنة أو تفضل بين الأزمنة، من وجهة نظر ضيقة أو تجزيئية أو مصلحية، تبعا للجنس أو العرق أو اللون أو اللغة أو الجغرافية أو الانتماء الإيديولوجي أو الماضي أو الحاضر أو المستقبل… الخ، تصبح مثقفا جيليا. وكلما عملت بهذه القاعدة العابرة للأجيال زمانا ومكانا، عشت إنسانا واعيا بوجوده المشترك مع باقي الكائنات الحية على كوكب الأرض خاصة وفي الكون عامة.