ما نقترحه، إلى جانب الاحتفاظ بالمنهج التاريخي التطوري، هو النظر إلى حقوق الإنسان في ضوء تاريخ تراجعي ينطلق من الحاضر إلى الماضي، ويصبح فيه الحاضر هو الأساس لفهم الماضي والحكم على وقائعه. الفائدة الأساسية لهذا المنهج التراجعي في التاريخ كامنة في كونه سيجعلنا قادرين على فهم مظاهر الجدة في مسألة حقوق الإنسان، علما بأن هذه المسألة مطروحة بصيغتها الراهنة انطلاقا من الزمن المعاصر، وليس أبدا مجرد تطور لوقائع واختيارات مبدئية سابقة في الماضي. ذلك أنه لم يسبق في التاريخ الإنساني العام أن توافقت الإرادات على جعل حقوق الإنسان معيارا من معايير الانتماء إلى المجتمع الدولي. 1 هناك، في نظرنا، تصوّران لتطوّر حقوق الإنسان في العالم المعاصر منذ الميثاق العالمي المتعلّق بها، الصادر عام 1948. التصوّر الأوّل هو الذي يرى في حقوق الإنسان مفهوما متطوّرا عن ماضي الإنسانية القريب أو البعيد، ويعود إلى هذا الماضي من أجل تأصيلها، كما تفعل اليوم ثقافات متعددة تسعى إلى إثبات تجذر ذلك المفهوم في تطورها البعيد. الغاية ضمن هذا التصوّر هي البحث عن الأصول من أجل إبرازها ومن أجل فهم الواقع الحالي في ضوئها. ولهذا التصوّر قيمته، إذ يستند إليه المنهج التاريخي في حالته العادية، حيث يكون الماضي في هذا المنهج هو الذي يقود نحو فهم الحاضر بإلقاء لضوء عليه عبر متابعة التطورات التي قادت نحوه في التاريخ. لكننا، مع الاعتراف بما لهذا التصوّر عن حقوق الإنسان من قيمة، لا نريد أن يدفعنا ذلك إلى إغفال الصعوبات التي يطرحها بصدد مفهوم حقوق الإنسان، كما بصدد مفاهيم أخرى. تكمن الصعوبة الأولى لهذا التصور-المنهج الذي أشرنا إليه في أنه قد يحول دون فهم مظاهر الجدة التي تأسّست عليها حقوق الإنسان. فما دام التصوّر السابق الذكر يعود إلى الماضي لفهم حاضر تلك الحقوق وتأصيلها في كلّ ثقافة، فإنّ ذلك يؤدّي إلى إدراك كلّ عناصر الحاضر بوصفها مجرّد امتداد لحضور سابق لتلك الحقوق في ماضي المجتمعات والثقافات الإنسانية. لا تصبح حقوق الإنسان ضمن هذا التصور التاريخي التطوّري مسألة جديدة انبثقت في الزمن المعاصر عن شروط جديدة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الإنسانية. لا تظهر الصعوبة الثانية للتصوّر التاريخي التطوّري في علاقة الماضي والحاضر معا مع المستقبل، وذلك بالنسبة للفعل والعمل الإنسانيين على السواء. فالاكتمال حسب ذلك التصوّر، بالنسبة لحقوق الإنسان كما بالنسبة لمفاهيم أخرى يوجد في الماضي. الصورة المثالية المكتملة لحقوق الإنسان وجدت في الماضي، والبحث في الوقت الحاضر يكون متعلقا بإبراز عناصر الاكتمال المتحققة في الماضي والتي يكون على إنسانية اليوم متابعتها والعمل على تجاوز كل الانحرافات التي لحقت بها عبر الزمن. وهكذا، فإن التصور التاريخي التطوري لحقوق الإنسان يوجه التفكير في مستقبل هذه الحقوق نحو اعتبار الماضي هو الأساس المعتمد للعمل بمقتضاها. وخلاصة القول في الصعوبة الثانية التي نحن يصدد إبرازها هي أن هذا التصور لا يدفع الفكر والعمل الإنسانيين نحو مجهود متزايد في قوته في سبيل تحقيق وضعية أفضل، فالمجهود الواجب ضمن هذا التصوّر يقف عند حدود الحفاظ على الاكتمال المتحقّق في الماضي. هناك صعوبة ثالثة مضمونها أنّ التصور التاريخي التطوري لحقوق الإنسان يعوقنا عن تصور تاريخ حقوق الإنسان كما هو، ويقدم لنا بديلا عنه تاريخا منسجما ليس فيه إلا احترام لتلك الحقوق، ولا وجود فيه لغيابها أو لاختراقها. ويقود هذا التصور نحو تاريخ يكون دائما موضوعا لتمجيد في الحاضر، فيغيب بذلك كل نقد لذلك الماضي في الحاضر. التاريخ الذي يقدّمه التصور التاريخي التطوّري خال من الثغرات والعوائق التي تحول دون العمل بمقتضى حقوق الإنسان، وهذا غير مطابق للتاريخ الواقعي كما عاشته الإنسانية في المجتمعات والحضارات المختلفة. التاريخ التمجيدي للماضي يكون في الواقع جزءا من التاريخ التمجيدي لما هو قائم في الحاضر عن طريق الماضي الذي نعتبره دائما الأصل. وبذلك، فإن الموقع الحقيقي لذلك التاريخ يكون هو الإيديولوجيا وليس هو الواقع. وبما أن هناك حديثا في الوقت الحاضر عن إدماج التفكير في حقوق الإنسان في الممارسة التربوية لترسيخ الإيمان بها والدفع بالوعي الإنساني نحو العمل بمقتضاها، فإننا نقول إن استمرار التاريخ التمجيدي للواقع يحول دون الوصول إلى تشكيل وعي حقيقي بحقوق الإنسان من حيث إن الإيديولوجي فيه يسعى إلى أن يملأ ثغرات الواقع بتقديم بديل عنها غير مطابق لحقيقته. يقود التاريخ التمجيدي للماضي حين يتعلق بحقوق الإنسان نحو دفع الوعي والعمل الإنسانيين إلى مفارقة يكون التعبير عنها في نظرنا كالتالي : بينما يكون المقصود هو ترسيخ الوعي بحقوق الإنسان يتم في سرد التاريخ تقديم الخروق على أنها ممارسة لتلك الحقوق. ولن تكون التربية على حقوق الإنسان فعالة إلا إذا غادرت هذا التصور التاريخي التمجيدي واستعاضت عنه بطريقة أخرى عند التفكير في تاريخ المجتمعات الإنسانية وحضور حقوق الإنسان فيها أو غيابها أو ضعف ممارستها في ذلك التاريخ. نقترح التفكير في القضية التي أثرناها من خلال مثالين مختلفين. المثال الأول قريب منا لأنه يتعلق بالطريقة التي يتم فيها في كثير من الأحيان في فهم حقوق الإنسان في التاريخ العربي والإسلامي عامة. فإن الطريقة المتضمنة لتمجيد هذا الماضي دون النظر إليه نظرة نقدية بأي مستوى تحول دون معرفة حقيقة الوضعية التي تهم حقوق الإنسان فيه، وخاصة الجوانب التي تضمنت فيها الحياة المجتمعية اختراقات لتلك الحقوق. وعندما يتم تربويا تقديم ذلك الماضي بصورة مشرقة فقط، تحجب تلك الصورة حقوق الإنسان بدل أن تكون طريقا لتمثلها والعمل بمقتضاها. والذي يتلقى تربية قوامها تمجيد الماضي وينظر إلى الحاضر في ضوء ذلك لا يكون مؤهلا للوعي بما في الحاضر من عناصر جديدة، ولا يكون قادرا على إدراك ما ينبغي فعله للعمل بمقتضى حقوق الإنسان، ولا ما ينبغي السير في الطريق المعاكس له لأنه يتنافى مع تلك الحقوق. المثال الثاني إنساني عام نأخذه من الطريقة التي تعاملت بها فرنسا مع ماضيها الاستعماري. فبعد أن أصبحت هذه المسألة موضوع نقاش عمومي تمّ عرض قانون يتعلق بها وصوّت البرلمان لصالح تمجيد دور فرنسا في الفترة الاستعمارية، وهو دور روعي فيه أخذ عنصرين بعين الاعتبار : لعبت فرنسا في فترة استعمارها لبلدان أخرى في إفريقيا وآسيا دورا في تحديث البنيات الاقتصادية والإدارية والمجتمعية لتلك البلدان. ومن جهة أخرى، فإن عدم تمجيد دور فرنسا في تلك الفترة سيكون إجحافا في حقّ الفرنسيين الذين ماتوا وهم يدافعون عن دور بلادهم الحضاري والتحديثي خارج ترابها. قد يجد هذا الحل قبولا في الوعي الفرنسي الذي يريد أن يتجاوز التناقض بين صورة فرنسا التي كانت منذ ثورتها (1789) تظهر بوصفها مصدرا لمبادئ إنسانية وبين ما تضمنته الفترة الاستعمارية من مظاهر التعارض مع تلك المبادئ.، ولكنه لن يكون الحلّ المقبول لدى الجميع، وخاصة لدى من قاوموا مظاهر الاحتلال الفرنسي ومات مواطنوهم في تلك المقاومة. وهذا ما يدفعنا إلى التأكيد أن تمجيد الماضي سيكون إطارا لحجب كل الاختراقات التي حصلت في الفترة الاستعمارية لحقوق الإنسان كما هي مطروحة اليوم على الصعيد العالمي. بإمكان من يقرا هذه الدراسة أن يجد لنفسه أمثلة أخرى قابلة لاعتمادها من أجل تبين الدور المعيق الذي يلعبه تمجيد الماضي في سبيل تمثل حقوق الإنسان كما يراد لها أن تكون اليوم. 2 لم يكن قصدنا من إبراز الصعوبات التي تواجه التصوّر -الذي وسمناه بالتاريخي التطوري- العمل على الإبعاد التام لكل تصور يرجع إلى الماضي لتحصيل معطيات تاريخية واعتمادها عند التفكير في حقوق الإنسان وتطورها في المجتمعات والثقافات المختلفة التي مايزال لها تواجد في عالم اليوم. كان قصدنا منحصرا في إبراز نقائص ذلك التصور وإيضاح النتائج التي يقودنا نحوها. ولكن ذلك لن يمنع من القول إن الاستفادة من المعطيات التاريخية تظل مطلوبة. لا ننكر أن عنصر التطور موجود بالنسبة لمسألة حقوق الإنسان، ومظهر هذا الوجود هو أن الإنسانية لم تتوافق حول ميثاق يتعلّق بتلك الحقوق إلا بعد أن عرفت تطورات عديدة وعاشت في جهات مختلفة من العالم العواقب الوخيمة لعدم احترام الحقوق المختلفة للشخص الإنساني. فإننا ننظر إلى لحظة التوافق حول ميثاق تحث بنوده على احترام حقوق الإنسان، بغضّ النظر عن الدين أو الانتماء الحضاري والثقافي والمجتمعي والطبقي والإيديولوجي، لحظة نضج للإنسانية تسمو فوق تلك الاعتبارات كلها. ولذلك نحتفظ بالمنهج التاريخي التطوري من الجهة التي نرى له فيها فائدة، أي من حيث إن التطورات تلقي الضوء على الوقائع الحاضرة. ما نقترحه، إلى جانب الاحتفاظ بالمنهج التاريخي التطوري، هو النظر إلى حقوق الإنسان في ضوء تاريخ تراجعي ينطلق من الحاضر إلى الماضي، ويصبح فيه الحاضر هو الأساس لفهم الماضي والحكم على وقائعه. الفائدة الأساسية لهذا المنهج التراجعي في التاريخ كامنة في كونه سيجعلنا قادرين على فهم مظاهر الجدة في مسألة حقوق الإنسان، علما بأن هذه المسألة مطروحة بصيغتها الراهنة انطلاقا من الزمن المعاصر، وليس أبدا مجرد تطور لوقائع واختيارات مبدئية سابقة في الماضي. ذلك أنه لم يسبق في التاريخ الإنساني العام أن توافقت الإرادات على جعل حقوق الإنسان معيارا من معايير الانتماء إلى المجتمع الدولي. الفائدة الثانية للتاريخ التراجعي أنه سيمكننا بالنسبة لكل مجتمع بصفة خاصة، وبالنسبة للمجتمع الإنساني بصفة عامة، من مراجعة التاريخ انطلاقا من المفهوم الذي تريده الإنسانية لنفسها عن حقوق الإنسان، وهو مفهوم كوني فوق كل الاعتبارات المختلفة للأصول العرقية أو المكانة المجتمعية، وكذلك الاختيارات العقائدية والإيديولوجية والسياسية. يفترض المبدأ العام لحقوق الإنسان مساواة بين جميع الناس، إذ يكون من الواجب التعامل معهم وفقا لاستحقاقهم لتلك الحقوق باعتبار انتمائهم للنوع الإنساني بغض النظر عن كل الاعتبارات الأخرى. وقد كان الوعي الذي وجه وضع النصوص المتعلقة بحقوق الإنسان هو أن الإقرار بهذه الحقوق بالصيغة التي تم تقديمها بها موقف إنساني غير مسبوق في تاريخ الإنسانية. والأساسي بالنسبة لحقوق الإنسان في لحظة وضعها هو الاتجاه نحو مستقبل تتوفر فيه الشروط لانطباق تلك الحقوق على الصعيد الكوني. وتبعا لهذا المنظور، يصبح المستقبل مرجعا بالنسبة للتفكير في حقوق الإنسان والعمل بمقتضاها. الحاضر ذاته يصبح موضع حكم بالنسبة للمطلوب تحقيقه. فالسؤال يكون دائما: ما الذي تم تحقيقه لبلوغ الانطباق التام لحقوق الإنسان على صعيد كل بلد بصفة خاصة وعلى الصعيد العالمي بصفة عامة؟ ينطلق التاريخ التراجعي من المستقبل الذي يتحدد فيه ما تريد الإنسانية بلوغه بصدد حقوق الإنسان، ويمتد ذلك التاريخ متراجعا إلى الوراء إلى الحاضر، ثم إلى الماضي. ينبغي أن نحدد مع ذلك الطريقة التي ينظر بها التاريخ التراجعي إلى ماضي حقوق الإنسان، وهي، في نظرنا، متسمة بالسمة النقدية. وباتباع هذه الطريقة يبدو الفرق بيت التاريخ التراجعي الذي نقترحه للنظر في ماضي حقوق الإنسان وتطورها، وبين المنهج التاريخي التطوري الذي يقود إلى البحث عن الإرهاصات التي تعتبر في هذه الحالة الأصول التامة التي ينبغي العودة إليها لقياس مدى التباعد عن تطبيق ذلك التحقق التام الذي كان في الماضي. بتعبير آخر، يكمن الفرق بين طريقة التاريخ التراجعي وبين طريقة التاريخ التطوري، في أن الأول ينقل الاكتمال الذي يسعى إلى تحقيقه إلى المستقبل ويقيس على ذلك الاكتمال حالة الحاضر ووقائع الماضي، في حين أن طريقة التاريخ التطوري يرى اكتمال فكرته في التاريخ الماضي ويقيس على ذلك مدى الابتعاد عبر الزمن عن ذلك الاكتمال. التاريخ الأول، الذي نقترحه منهجا للنظر إلى حقوق الإنسان يحاكم الماضي انطلاقا من الحاضر ومن المستقبل المأمول الذي يتجه نحوه العمل الإنساني للتقدم في سبيل إقرار حقوق الإنسان، وأما التاريخ الثاني الذي أبرزنا مظاهر نقصه، فإنّه يحاكم الحاضر انطلاقا من الماضي، ويوجه التفكير في المستقبل ذاته ارتكازا على ذلك الماضي. وهذا هو التاريخ الذي تكون حقوق الإنسان تامّة ومتحققة في الماضي الحضاري والثقافي والإيديولوجي الذي ينتمي إليه المحلل. يفيد التاريخ التراجعي لحقوق الإنسان، بطبيعته النقدية، في مستوى آخر من حيث النظر إلى تطور فكرة تلك الحقوق على الصعيد الإنساني. فهو، كنا أوضحنا ذلك، لا يتجه إلى الماضي من أجل الحصول على اكتمال متحقق فيه لحقوق الإنسان ليمتدح الماضي استنادا إلى ذلك، ولينتقد الحاضر كذلك اعتمادا على فكرة الاكتمال ذاتها، بل إن التاريخ التراجعي يتجه إلى الماضي انطلاقا من الحاضر ومن المستقبل المنشود ليبحث في الثغرات وفي عوائق التحقق التي عاقت في الماضي انطباق حقوق الإنسان كما هو بالتصور الكوني الذي نراها به اليوم. تظهر في التاريخ التراجعي الذي ندعو إلى تطبيقه مظاهر التجاوز عن حقوق الإنسان ومظاهر خرقها والممارسات المضادة لوجودها. وهذه هي المظاهر التي يحجبها عن التفكير الاكتفاء بالنظر إلى تاريخ حقوق الإنسان انطلاقا من منظور المنهج التاريخي التطوري إلى يكتفي بالبحث عن الأصول والإرهاصات، ويوجه الفكر نحو امتداح الماضي وتمجيده. التاريخ التراجعي كتابة أخرى لتطور الوعي بحقوق الإنسان وللعمل بمقتضاها. فهو التاريخ الذي يجعلنا ندرك الغياب والنقص في التطبيق أو الاختراق للمبادئ التي توجد ضمانات للحقوق بفضل تطبيقها. وهناك، في نظرنا، فرق بالنسبة للحاضر والمستقبل بين معرفة تلك المظاهر التي يساعدنا التاريخ التراجعي على الوقوف عليها وبين عدم العلم بها أو حجبها عن الفكر. حقوق الإنسان، كما هي مثبتة من خلال بنود التوافق حولها على الصعيد العالمي، حدث جديد في تاريخ الإنسانية، والتاريخ التراجعي لتلك الحقوق هو الذي يساعدنا على إدراك مظاهر الجدة في وجودها، في حين أن التاريخ التطوري الذي يبحث عن الأصول والإرهاصات ومظاهر الاستمرار قد يحجب عن الفكر مظاهر الجدة التي يتشكل بفضلها الوعي الحقيقي بحقوق الإنسان.، وهو الوعي الموجه للعمل بمقتضاها. لن نغفل أن نضيف إلى الفوائد السابقة الفائدة التربوية، ونعني بها الكيفية التي يمكن بفضلها تكوين الأجيال الحالية والمقبلة على تمثل المعنى العميق للتوافق الحاصل الآن حول حقوق الإنسان، ولشروط العمل بمقتضاها. ففي كل بلد يعلن عن التزامه بتطبيق مواثيق حقوق الإنسان يكزن من الملائم توعية المواطنين بمعنى ذلك الالتزام بالنسبة لحياتهم اليومية، وللشروط الجديدة التي تسمح باحترام ما يعود إلى كل واحد منهم من حقوق، ولكن هذه التربية توجه الإنسان كذلك إلى الشروط التي تجعل كل فرد في المجتمع ملتزما في سلوكه بمقتضيات حقوق الإنسان وفاعلا بما يلائمها بالنسبة للآخرين. ويتجه هدف هذه التربية أساسا نحو المستقبل من أجل ضمان تحقق شروط أفضل لاحترام حقوق الإنسان. لكن هذه التربية التي تنطلق من الحاضر وتتجه بفكر الإنسان الذي يتلقاها نحو المستقبل تقع في تناقضات عندما يستمر نظرها إلى الماضي تمجيديا، إذ أن عدم الوقوف على مجموع الاختراقات التي وقعت في الماضي من أجل التعرف عليها بما هي كذلك تمهيدا لعدم تكرارها في المستقبل، يجعل تلك الأفعال تبدو وكأنها مطابقة لمبادئ العمل بمقتضى حقوق الإنسان. ولذلك نرى أن العمل التربوي ينبغي أن يتجه إلى تطبيق ما دعوناه هنا التاريخ التراجعي لحقوق الإنسان لمساعدة المتلقي لذلك العمل التربوي على التعرف على الشروط التي منعت تمتيع الإنسان بحقوقه في الماضي، دون إغفال كل الإرهاصات والأفعال التي تكون في هذا الماضي نفسه ملائكة لمقتضيات حقوق الإنسان كما هي مطلوبة اليوم. ويصدق هذا المبدأ على الوضعية في كل بلد، كما هو صادق على وضعية حقوق الإنسان في الوضع العالمي الراهن. فمنا أنه يكون على كل مجتمع القيام بمراجعة تاريخية نقدية لتاريخه في مجال حقوق الإنسان، فإن اتجاه الإنسانية في وحدتها نحو تطبيق أفضل لمطلب العمل بتلك الحقوق مراجعة تاريخ العلاقات بين البلدان والوقوف على اللحظات التي تم غيها اختراق لحقوق الإنسان على صعيد ما يعود إلى الشعوب من حقوق. وعندما لا تكون الإنسانية في وحدتها قادرة على مثل هذه المراجعة النقدية، وعندما يتم تمجيد القهر والاستغلال والهيمنة، فإنه لا يمكن الوصول إلى تقديم نظرة واقعية وواضحة عن حقوق الإنسان وعن مغزاها بالنسبة للحاضر والمستقبل. ليس لدينا ميل إلى إنكار ما تحقق من أنواع التقدم في سبيل تطوير العمل بمقتضى حقوق الإنسان، ولكن سعينا كان عبر اقتراح العمل بمنهج يعتمد التاريخ التراجعي لتلك الحقوق إتاحة الفرصة ليقظة فكرية دائمة تساعد على تحقيق مزيد من التقدم في هذا المجال، على صعيد كل مجتمع وعلى الصعيد العالمي في نفس الوقت.