لن أسوق اليوم أقوال المعارضة في وصف الحالة السورية وما يختلج في عقول وقلوب بنات وأبناء سوريا، ولن أقتبس مقتطفات من بياناتها، ولن أتدخل في أي قول مما سأورده، وسأكتفي بنقل ما قاله الموالون للنظام من حزبيين ومستقلين خلال جلسات الحوار الوطني، التي أعلن عنها الرئيس وتشهدها المحافظات السورية المختلفة منذ قرابة أسبوعين، وتعقد تحت إشراف السلطة ممثلة بحزب البعث وجهات إدارية عامة يرأسها المحافظ، ويحضرها ضباط أمن وممثلون عن أجهزة وهيئات رسمية وغير رسمية ظهرت قبل الأحداث الأخيرة ولعبت دورا أمنيا خطيرا فيها، فهي تراقب الجلسات وتضبط إيقاعها، و«تتابع» بعض المتحدثين بعد انتهائها، كما حدث في أكثر من حالة ومكان، حسب الروايات التي يتناقلها من حضروا الجلسات. أما النصوص التي سأنقلها، فهي مأخوذة بكاملها من جريدة «الوطن»، التي تصدر في دمشق وتعد صحيفة شبه رسمية. قبل الحديث عما دار في الجلسات، أود أن أذكّر هنا بأن المعارضة لم تشارك في الحوار، وانتقدت نقله إلى المحافظات لأن القصد منه لم يكن توسيع دائرته بل خفض سقفه، ذلك أنه كان قد بدأ تحت إشراف نائب رئيس الجمهورية وبمشاركة هيئة رسمية سماها الرئيس لهذا الغرض، بينما تركزت مهامه على مواضيع تتصل ببنية السلطة والدستور والنظام البديل المطلوب... الخ، وها هو يصير الآن برئاسة أشخاص ثانويين لا حول لهم ولا طول، في حين يتركز القسم الأكبر من موضوعاته على مسائل اجتماعية وخدمية، في ترجمة لموقف السلطة من الوضع الراهن، الذي تعتبره رائعا إلى درجة أنه يتعرض لمؤامرة شرسة تريد إطاحته بواسطة مضللين ينزلون إلى الشوارع بذريعة الاحتجاج على أوضاعهم والمطالبة بحقوق مزعومة، ليس حراكهم في حقيقته غير تغطية متفق عليها ومقصودة لهذه المؤامرة، وليس ما يتعرضون له على يد الأجهزة الأمنية المختلفة قمعا وتنكيلا، بل هو مجرد قيام الدولة بواجبها في حماية المواطنين منهم وإعادة الأمن إلى نصابه، ودفاع حتى عن الذين يشاركون في الاحتجاج، الذين سيكتشفون ذات يوم كم خدمتهم السلطة عندما قتلتهم وجرحتهم واعتقلتهم! كتبت الوطن يوم 12 أيلول الجاري على صفحتها الأولى تقريرا حول بدء الحوار في بعض المحافظات، فقالت إن «بعض المتحاورين دعوا في إدلب لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية ومحلية والعمل بدستور 1950 عوضا عن الدستور الحالي»، بينما طالب محاورون في درعا «بصياغة دستور جديد يلحظ تحديد عدد الولايات الدستورية لرئيس الجمهورية بولايتين مدة كل منهما خمس سنوات، على خلاف الدستور الحالي الذي يبقي المدة مفتوحة ومدة الولاية سبع سنوات، كما رفض البعض فكرة المؤامرة، وطالبوا بعودة الجيش إلى ثكناته وتحجيم دور المؤسسات الأمنية ومكافحة الفساد والمحسوبيات وتوفير فرص العمل وإجراء إصلاح اقتصادي واجتماعي وتعزيز سيادة القضاء. وقال الحاضرون إن الأزمة السورية الراهنة هي سياسية في عمقها». وأبرزت بعض المداخلات ضرورة «تكافؤ الفرص بين الجميع والحياة الحرة الكريمة لجميع الناس، وفصل السلطات وإطلاق سراح جميع المعتقلين الذين لم تثبت إدانتهم بارتكاب أعمال تخريب، والسماح بالتظاهر السلمي، وتعزيز حرية الإعلام وجعل الشعب مصدرا للسلطات وفسح المجال أمام التعددية السياسية باعتبار أن مجالس الشعب السابقة لم تكن «موفقة»، ووضع برنامج زمني لتطبيق المراسيم والقوانين وبرنامج الإصلاح الشامل، والعمل على مكافحة الفساد والمحسوبيات والوساطات». خلال هذا اللقاء لفت خالد العلي من حوران إلى معاناته خلال فترة توقيفه، مشددا على «أنه لم يدع يوما إلى إسقاط النظام، لكنه يرفض تأليه الأشخاص أيا تكن لأن فيه خطرا على الأمة»، في حين دعت بعض الفعاليات إلى «تحويل حراك الشارع إلى حراك تنظيمي وحراك حزبي بمشاركة المعارضة، إذا كان هدفها الإصلاح لأن الحوار هو المخرج من الأزمة». أما في اللاذقية، حيث «غنى كل على ليلاه»، حسب قول «الوطن»، فقال غسان حنا، الذي تحدث عن نزول الجيش إلى الشوارع: «إنه لا حل ما دامت الدماء تسيل، ملغيا فكرة وجود مؤامرة على البلد ومطالبا بالخروج منها تماما»، في حين أكد المستقل أسامه الفروي «أنه لا بديل حاليا للرئيس بشار الأسد، وأن المعارضة لا تمثل حتى عائلاتها»، وأخذ علي إبراهيم «من سكان لواء إسكندرون كانوا يطلقون عليه في الإعلام السوري قبل الأزمة الاسم التركي: هاتاي. والآن، ها هو يعود لواء اسكندرون، الحمد لله على سلامته الوطنية والقومية، ولو إلى حين! أخذ علي ابراهيم على المعارضة أنها لم تستطع حتى اليوم أن تتفق على برنامج عمل محدد يخدم سوريا، فهي لا تمثل حراك الشارع ولا تستطيع تحريكه إلا يوم الجمعة». في دمشق، تركز الحديث على الشأن الاقتصادي، فقال أستاذ الجامعة الدكتور أكرم الحوراني: «إن الأدوات والإمكانات والكوادر متوفرة لدينا، ولكن هناك غياب للإدارة وللفعل الحقيقي من قبل المعنيين، وهناك أخطاء يجب عدم تجاهلها في الجانب الاقتصادي والدولة مسؤولة عنها من أبرزها السياسة الضريبية المتبعة، ووجود مليون وثلاثمئة ألف عاطل من العمل يشكلون 23% من الشباب، وبالتالي ساهم الفقر ويساهم في الاحتقان الطبقي، وهناك خلل في آليات مكافحة الفساد والمشكلة في البيئة الاقتصادية فهناك في سوريا 200 رجل عمال يتمتعون بالنفوذ ويستحوذون على 40% من الناتج القومي». وأشار الدكتور حسين البطل الأستاذ في كلية الزراعة إلى «أن الواقع الاقتصادي هو جزء من المحنة التي تمر بها البلد فالاحتجاجات نجدها في الأحياء الفقيرة، ولهذا يجب البحث عن حلول تطمئن سكان هذه الأحياء، بينما لا يقتصر الفساد على الرشوة، بل يمتد إلى تعيين إدارات ليس لديها رؤى مستقبلية أو كفاءات»، ورأى الدكتور رسلان خضور أن «السياسات الاقتصادية الفاشلة والفاجرة ساهمت في إحداث خلل في توزيع الدخل وزيادة التفاوت الطبقي في المناطق والأحياء». في ريف دمشق، تحدث أمين فرع الحزب حسن بجه جي عن «أهمية الحوار وضرورة السماح لجميع أطياف المجتمع السوري بالحوار باعتباره الطريق الأجدى لحل المشكلات ومحاولة بناء سوريا مع احترام حرية الرأي والرأي الآخر». يوم 20 أيلول، وفي مدينة حلب، تحدث فارس الشهابي، أحد الذين فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات عليهم بتهمة تمويل الشبيحة، فطالب «بتشكيل حكومة أزمة وتكنوقراط للمباشرة بالإصلاح الاقتصادي»، وقال: «إن تغيير الدستور هو حاجة اقتصادية إلى جانب السياسية، ورأى أن الاتفاقية التجارية مع تركيا جاءت على حساب الاقتصاد الوطني»، بينما أكد ليون زكي: «أن كل شهر اضطرابات تعيشه سوريا يعادله تراجع سنة اقتصادية إلى الوراء» وأضاف أن السنوات القليلة الماضية تجاهلت الطبقة الوسطى، وأدى التباين الذي حصل بين طبقات المجتمع إلى إحداث شرخ نفسي واجتماعي كبير. قبل يومين من ذلك، قالت الفنانة كاميليا بطرس في درعا: «من تحرك في الشوارع هم إخوتنا وأبناؤنا، وهم أنفسهم من كان يحمل صور رئيس الجمهورية واللافتات الوطنية، فما الذي تغير؟». قبل ذلك، وبالتحديد يوم 13 أيلول، وجه المتحدثون في القنيطرة انتقادات إلى القيادة القطرية لحزب البعث، وقالوا «إنها هي التي أوصلتنا إلى هنا»، بينما طالب محاورو السويداء «بوقف الرصاص وإطلاق الحريات»، وناشد متحدثو ادلب الرئيس «قيادة مبادرة محلية سريعة لوقف نزف دماء المدنيين والعسكريين»، وأكد متحدثو اللاذقية على «رفض التعصب والتمييز الطائفي وطالبوا بحرية العمل السياسي وإطلاق سجناء الرأي وإلغاء المادة الثامنة من الدستور وإعلاء قيم العمل والإيمان به»، وقال الدكتور أحمد برقاوي، أستاذ الفلسفة المعروف في جامعة دمشق: «إن العامل الرئيس في الأزمة هو احتكار السلطة والقوة على مدى عقود، ما أدى إلى احتكار الثروة ففقدت السلطة عصبيتها السياسية»، وأضاف جمال محمود، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة: «إن المرحلة تقتضي إلغاء الدستور الحالي، وإن على البعثيين الخروج من حالة التردد تجاه المادة الثامنة من الدستور، لأن صناديق الاقتراع هي الفيصل في أي انتخابات». أخيرا، قالت جريدة الوطن في عنوانها الرئيس يوم 15 أيلول: «محاورون يتهمون قيادات البعث بتغليب «الانتهازيين» وآخرون يرون أن عصر التصفيق ولى، ودعوات إلى عقد اجتماعي / سياسي جديد ونظام شبه رئاسي». هذه خلاصة حرصت أن تكون أمينة تماما وحرفية لأهم ما قيل في ندوات الحوار الوطني، وهي تؤكد حقائق ثلاث لطالما ذكرناها خلال الأشهر الماضية، هي: - لم يعد النظام في صورته وبنيته الحالية مرجعية لأغلبية السوريين الساحقة، بمن في ذلك كثير من البعثيين وأصدقائهم. إن كل واحد تحدث خلال جلسات الحوار قال هذا بلغته الخاصة وعلى طريقته، من خلال المطالب الجزئية أو العامة التي قدمها. ومن يجمع ما نطلق به المشاركون في الحوار، سيصل بسهولة إلى نمط النظام الذي يريدونه، وسيضع يده بيسر على رفضهم استمرار النظام السياسي والحزبي الحالي، الذي قالوا بألف لسان إنه تقادم وتسبب في الأزمات والمشكلات التي تعاني سوريات منها، وعجز عن حلها. إن نظرية المؤامرة لم تقنع القطاعات الأكبر من الشعب السوري، أما أسلوب معالجة المؤامرة فهو محل اعتراض شديد لدى أغلبية من تحدثوا في الجلسات، وهم في معظمهم من الموالين للنظام. تحدث القوم أيضا عن أسباب الأزمة، فإذا هي سياسية واجتماعية واقتصادية وقانونية وحزبية وترتبط بالتفاوت الاجتماعي وتوزيع الدخل وسوء الإدارة والفساد وغربة النظام عن الناس وعدائه لهم، وقمعه وأساليبه غير القانونية وغير الإنسانية في التعامل معهم وعجرفته واستهتاره بحقوقهم وحرياتهم وكراماتهم، وفساده وإفساده... الخ، بينما تحدث صوتان أو ثلاثة عن المؤامرة، التي يبني النظام عليها سياساته حيال الشعب، فلا بد أن تلاقي مقاومة وإدانة قطاع هائل من السوريين، ممن طالبوا بوقف الرصاص وتحدثوا عن عبثية الحل الأمني، ولم يذكروا ولو من بعيد خرافة الممانعة والصمود السلطوية، مع أنها المادة الرئيسة للاجتماعات واللقاءات الحزبية، وللإعلام الحربي الكاذب، الذي يفبرك منذ ستة أشهر مجرمين ينتشرون في كل بيت وشارع وقرية ومدينة، بعد أن كان يتهم بالعمالة والخيانة كل من يتحدث حول احتمال وقوع احتجاجات في سوريا، التي تقف كرجل واحد وراء قيادتها. - يبدو أن لغة المعارضة وخطابها صارا لغة وخطاب القسم الأكبر من الشعب، مع ذلك، يرفض النظام رؤية هذا أو أخذه بعين الاعتبار، ويواصل الحديث في إعلامه الحربي وتصريحات مسؤوليه إما عن عدم وجود معارضة أو عن فرقتها وانقساماتها، كأن نزول المواطنين إلى الشوارع طيلة نيف وسبعة أشهر يعبر عن الموالاة، وكذلك أحاديث من دعاهم هو ولبوا دعوته إلى الحوار الوطني في المحافظات، ممن أوردت أقوالهم ولم يتركوا شيئا في بنيانه وممارساته إلا وطالبوا بتغييره، وصولا إلى نظام ديموقراطية وحرية بديل. هل فهم النظام ما قاله الناس في الحوارات، وهل سيصدق من الآن فصاعدا ما قاله الموالون له؟ إنه لم يفهمه، وهو لن يصدق حرفا واحدا مما قالوه، ولن «يشيله من أرضه»، كما يقال، والدلالة: استمرار الحديث عن مؤامرة قضى عليها وأعاد الأمور إلى نصابها، رغم استمرار الموت المجاني اليومي. هل سيجيب النظام عن سؤال الفنانة بطرس: ما الذي تغير وجعل إخوتنا وأبناءنا الذين كانوا يحملون صور رئيس الجمهورية يتظاهرون ضده ويطالبون برحيله؟ أعتقد أنه لم ولن يطرحه هذا السؤال أو أي سؤال يشبهه على نفسه. سوريا في أزمة أقل ما يقال فيها إنها تتحول في أيامنا، وبالطريقة التي تعالج من خلالها، إلى مأساة قاتلة!