لعل أكبر وأفضل وأهم وأخطر هدية قدمتها الدولة، للتيار السلفي الجهادي في المغرب، هي إيواء الآلاف من أتباع هذا المنهج وإتاحة الفرصة لهم للقاء فيما بينهم من جهة، وفيما بينهم وبين شيوخهم من جهة أخرى، وتوفير فضاءات للتواصل والتأطير والتكوين والتعليم. لكن هذا التيار لم يحسن استغلال هذه الوضعية، ولم يستفد من هذه الهدية، لصهر مكوناته وعناصره وتأهيلها، وتسطير رؤية موحدة يجتمع عليها، وانتخاب قيادة يأتمر بأمرها، ثم الخروج على المجتمع بمشروع شمولي متكامل متماسك، ودعوة الناس له ومن خلاله. قد يعترض علي الكثير ويتبهني إلى أن المقرات والفضاءات التي أتحدث عنها، اسمها الحقيقي، السجون والزنازن والمعتقلات، وأن المرء فيها فاقد لحريته مسلوبة فيها إرادته، محدود أفقه، والمعاناة والآلام والأحزان أكبر من أي طموح أو مشروع، فأجيب بأن أصحاب دعوات ومشاريع النهوض والتغيير، وحاملي الفكر والعقيدة، ودعاة التضحية، في كل الثقافات والأديان، لم تكن السجون تخيفهم، ولا الاعتقالات ترهبهم، ولا حتى التهديد بالقتل يزعزعهم، وفي حديث خباب ما معناه: "أنه كان قبلكم ينشر أحدهم بالمنشار ثم لايصده ذلك عن دينه"، فهم دعاة في كل الظروف وفي كل الأوضاع، حتى قال ابن تيمية قولته المأثورة: "مايصنع أعدائي بي... أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة".وينقل عنه ابن القيم أنه قال: "المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسر هواه". فالسجن أحب إليهم من مخالفة مايدعون إليه، كما قال نبي الله يوسف: "السجن أحب إلي مما يدعونني إليه"، وقال الإمام أحمد: "لست أبالي بالحبس، ما هو إلا ومنزلي واحد"، وقصته المؤلمة، روعة في الصبر والثبات والتضحية، وكتب لدعوته الانتشار والانتصار، من حيث اعتقد أعداءه إخمادها وكتمها وطمسها، وكذلك أغلب الدعوات، انطلقت من السجون بصبر أصحابها وثباتهم، الذين اتخذو من السجون مكانا للخلوة والعبادة، والتأليف والدعوة، كشمس الأئمة السرخسي الذي أملى كتابه في الفقه من ثلاثين مجلدا، وهو في السجن، وكذلك الأمر بالنسبة لابن تيمية، وابن القيم، وابن نجيم، وغيرهم الكثير، هكذا كان أصحاب العقائد والدعوات. لكن يبدو أن أتباع هذا التيار في المغرب، أعطوا أكثر من حجمهم، لأغراض معروفة لاداعي لتكرارها، فلاهم أصحاب منهج مسطر واضح، ولاهم أصحاب برنامج محدد، ولا هم أتباع شيوخ يتميزون بكاريزما القيادة، ولا هم على قلب رجل واحد، إنهم خليط من الأفكار والرؤى والاجتهادات، رأت الدولة وضعهم في سلة واحدة، وتقديمهم كقربان لآلهة العصر، ولا أدل على ذلك أن لا أحد أعلن عن قناعاته ومعتقداته بشكل واضح وتفصيلي، ولا أحد من الشيوخ والمنظرين قدم نفسه للناس، من خلال برنامج أو مشروع يعكس رؤيته وتصوره لقضايا الحكم والسياسة والاقتصاد وحلوله لمشاكل العصر، ورغم أن هذا النقص وهذا القصور تشترك فيه كل الجماعات الإسلامية بل وجميع الأحزاب يسارها ويمينها، بل حتى الدولة تفتقر لمشروع وبرنامج واضح، لكن بما أننا نتكلم عن تيار عقائدي، يسعى لتغيير واقع الأمة والنهوض بها، ويرفع شعارات التحرير ومحاربة الاستعمار وتطبيق الشريعة، وبما أن أغلب رموزه وأتباعه ومنظريه رمي بهم في غياهب السجون، فليس مثل السجن مكان أنسب للالتقاء والاجتماع، لوضع تصور والتشاور بشأنه وإعلانه على الملأ، وليس بعد تلك الأحكام الثقيلة من عقوبة تخشى، فلا أنسب إذن من هذه الوضعية زمانيا ومكانيا، لمخاطبة الناس ودعوتهم والتواصل معهم، وفتح نقاش جدي، عوض الهروب الذي تمارسه من جهة السلطات والأحزاب الاستئصالية، من اتهامات ساذجة سطحية لاتنطلي على المغفلين والبلداء بله الأسوياء الفطناء، وعوض الهروب الذي يمارسه من جهة أخرى، أصحاب هذا المنهج أنفسهم، من استجداء العفو، أو تكرار سمفونية البراءة والمظلومية، وكان الأولى عوض تسريب أشرطة البكاء والنحيب، التي صورت من داخل السجون، أن تستغل الفرصة لتسريب أشرطة توضح وجهة نظر هذا التيار من مختلف الملفات والقضايا المطروحة على الساحة، بل كان هذا سيقربهم من الناس ويقدمهم كأصحاب فكر وأصحاب مشروع مهما اختلفنا معه، أصحاب قضية واضحة سجنوا من أجلها، وكان هذا سيكسبهم الاحترام والتعاطف، أكثر مما سيجنونه من تعاطف لحظي بدوافع إنسانية بحتة. لقد توقفت فعلا متأملا ومقيما لعشر سنوات تقريبا من السجن والاعتقال والمطاردة والتعذيب، لأصحاب هذا التوجه، فاستنتجت أنهم لاهم ثبتوا على مبادئهم ومواقفهم، إلا القليل، ولاهم استطاعوا تقديم أنفسهم للناس كتيار فكري أو سياسي، صاحب مشروع نهضوي، ومحو الصورة النمطية التي رسمت عنهم، ولاهم استطاعوا الخروج من السجون، رغم استعداد بعضهم لاعتناق ما تراه الدولة حقا لايأتيه الباطل، وبقي الملف يراوح مكانه، إلى أن عصفت رياح الشارع العربي، التي حركت مياها راكضة، وكشفت عن حقيقة أنظمة حكمت بالقهر، كما كشفت تلك الحشرة الضعيفة عن موت سليمان عليه السلام، "ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين". فعمت فوضى البحث عن الذات، كل الأحزاب والتيارات، واكتشفوا أنهم كانوا تحت رحمة جثث هامدة، صاغت عقولهم وطريقة تفكيرهم، لعقود طويلة. في المغرب وصلتنا نسمات من تلك الريح العاصفة، وكانت كافية لبعث الحياة في المفاصل المتكلسة، والأعصاب الجامدة، والعقول المتحجرة، وأصبح الحديث عن الدستور حديث الأطفال والعجائز، بعد أن كانت تتهيب الحديث عنه الأحزاب (الكبرى)، بل كان الحديث عنه شبه محرم، وتململت جماعات محاولة كسب موقع أو تسجيل موقف، فكانت السلفية الجهادية ممن تحرك مبكرا، وساند تحرك الشارع وباركه، لكن ذلك التحرك كان محكوما بإطار ضيق، حشر هذا التوجه نفسه فيه، المطالبة بالإفراج عن المعتقلين أولا وأخيرا، وترديد أسطوانة البراءة، دون الحديث عن البراءة مماذا، لاننكر أن مكاسب كثيرة تحققت لهذا التيار، كإرجاع ملفهم ومظلوميتهم إلى الواجهة، وإثارة النقاش حول معتقل التعذيب السري تمارة، بل حول قضية التعذيب عموما، والطعن في الرواية الرسمية للتفجيرات، وكسب تعاطف شعبي واسع، لكن كل تلك المكاسب لاتخرج عن إطار المظلومية، الذي رأى هذا التيار أن يتحرك من خلاله، فتشكلت لأجله التنسيقيات، على المستوى الوطني، ونظمت المسيرات والوقفات، وتم التحرك حقوقيا وإعلاميا، بشكل غير مسبوق، من أجل المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين، حتى المبادرات التي تطرح والمراجعات، محكومة بهذه الخلفية، وهذا الإطار. صحيح أن التحرك بهذا الشكل، يترك الباب مفتوحا لانضمام المزيد من المهتمين والمتعاطفين، ويؤجل نقاشات حادة بين أبناء التيار، هم في غنى عنها في هذا الوقت، لكن إعلان هذا التيار عن مشروعه وبرنامجه ورؤاه ومواقفه، وتوضيح حقيقة ما ينسب إليه من عقائد وأقوال واجتهادات، يقدمه أولا للمجتمع كتيار فكري وسياسي له اجتهاداته التي يجب أن تحترم، وليس كما تصوره الدولة عصابة من القتلة والمجرمين، ثانيا لأن الفرصة مواتية لإعلان هذا التيار عن نفسه، للأوضاع التي تمر بها الأمة عموما والمغرب خصوصا، ولتواجد أغلب أبناء هذا التيار ورموزه داخل السجون، ولا يوجد مكان أفضل من السجن لإعلان الفرد عن قناعاته. سواء كان مدانا أو بريئا. فليعلن أصحاب المراجعات عن برنامجهم وتصورهم، المؤصل والمدروس، بعيدا عن هاجس الإفراج، وليعلن الثابتين عن مشاريعهم ورؤاهم وأفكارهم مدروسة مفصلة مؤصلة، وليتقدموا للناس من خلالها، كأصحاب دعوة وعقيدة وبرنامج سياسي، ولندشن نقاش وطني حول هذا الملف وحول كل تلك الأفكار والقضايا المرتبطة به، ولتكن لعلمائنا الرسميين الجرأة وقبلها الكفاءة لمناقشة قضايانا ومشاكلنا وتحدياتنا، ولتتسع هذه الدولة لكافة مواطنيها بعيدا عن منطق الإقصاء والانتقام، والتبعية للغرب، وتتبع سننه شبرا بشبر وذراعا بذراع.