عبد الحكيم أبو اللوز، باحث مغربي من مواليد 1973، مقيم بمدينة مراكش اتجه مشروعه أساسا إلى الانكباب على استكشاف بعض الحيثيات التي تحيط بالحركات الإسلامية في المغرب خاصة، وكذا بعض الأقطار العربية الأخرى. وقد توج، بدايات مساره هذا، بمنتوج أكاديمي تناول في إطاره بالتحليل والتمحيص "الحركات السلفية بالمغرب (1971-2004)"، تقدم به للحصول على الدكتوراه سنة2007 في القانون العام، علم السياسة، من جامعة الحسن الثاني بالدارالبيضاء، تحت إشراف الأستاذ محمد الطوزي. قبل هذه المحطة، اشتغل في بحثه لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة على موضوع : ((إشكالية الدين والسياسة في الخطاب الإسلامي المعاصر : نموذج رشيد الغنوشي)). سعى أبو اللوز، بأطروحته الجامعية، إلى تمثل ميكانيزمات الحركة السلفية المغربية، والإلمام بجوانب تمس أساسا حقولا ومجالات مادية، ترسم مداخل لإدراك أفقها المعرفي. لذلك، سيشارك في ورشات عديدة تعتني بالبحث الميداني، خارج المغرب كالجزائروإنجلترا وتونس ومصر وغيرها. ساهم في بحث ميداني، سنة 2007، تحت عنوان : ((المعتقدات والممارسات الدينية بالمغرب)) نظمه المركز المغربي للعلوم الاجتماعية (محمد الطوزي وحسن رشيق ومحمد العبادي). استطاع عبد الحكيم أبو اللوز، الفوز بمجموعة منح مالية، توفرها هيئات ومؤسسات دولية، بغية تشجيع البحوث المتمحورة حول المجموعات الدينية، أذكر : * سنة 2009، منحة المعهد الأمريكي للدراسات المغاربية، لإنجاز بحث في الجزائر، تحت عنوان : "السلفية في الجزائر". * منحة تبلغ 3000 دولار، تهم طلبة الدكتوراه، والتي يخصصها "مؤتمر تنمية البحوث في إفريقيا" للباحثين الأفارقة الذين وصلوا إلى المرحلة النهائية، دورة 2007. * منحة، في حدود 3000 جنيه استرليني، ساهمت بها جامعة كامبردج لتمويل رحلة بحثية إلى إنجلترا، فترة ماي – يونيو 2009. * فاز بمبلغ 10.000 دولار في المسابقة العلمية التي نظمتها مؤسسة فورد للبحث العلمي، دورة 2004، من خلال مقاربة عنونها، ب : ((الطوائف السلفية بالمغرب : 2001-2004، دراسة سوسيولوجية)). إلى جانب بيبليوغرافية زاخرة، بمقالات تصب أساسا في موضوع الحركات الإسلامية، صدر لعبد الحكيم أبو اللوز، سنة 2009، [الحركة السلفية في المغرب : 1971-2004، بحث أنثروبولوجي، سوسيولوجي]. كما، أنه حاليا بصدد طبع : [إشكالية الدين والسياسة في الخطاب الإسلامي. القاهرة، دار المحروسة للنشر] ثم [السلفية والسلفيون في المغرب العربي. بيروت المركز الثقافي العربي]. لمزيد من سبر أغوار الإشكالات، التي مثلت، هاجسا لفكر عبد الحكيم أبو اللوز، ارتأيت أن أطرح عليه في هذا الإطار بعض الأسئلة التوضيحية. أريد منك، أن تقدم للقارئ لمحة موجزة، عن الحيز المجالي الذي شكل حقلا لبحثك المتعلق موضوعه بالحركة السلفية المغربية ؟ اقتصرت الدراسة التي تطلبت ست سنوات على مجال جغرافي محدد، نتابع من خلاله الظاهرة وهو مدينة مراكش، إنها المدينة التي تعرف أكبر تجمع للتنظيمات السلفية، فقد ظهر أقدم تنظيم سلفي بالمغرب (جمعية القرآن الكريم) منذ سنة 1971، وتأسس التنظيم الثاني جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة سنة 1976، فيما تأخر ظهور الحركة الثالثة جمعية الحافظ بن عبد البر للعناية بالتراث الإسلامي إلى سنة 1993. وقد استمرت التنظيمات الثلاث في ممارسة نشاطها الدعوي إلى غاية توقيفها من طرف السلطة عام 2004. بذلك يكون الحيز الزمني، الذي ينسحب عليه البحث ممتدا بين 1971 و2004. علاوة على ذلك، تحتوي المدينة على تجمع كبير من مراكز التدين التقليدية (زوايا -أضرحة- طرق صوفية) مما يجعلها، حسب تقديري مجالا جغرافيا نموذجيا لمعالجة أحد جوانب المشكل البحثي الذي شدد، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، على المفارقة المتمثلة في أنه رغم الاختلاف الجوهري الموجود بين نمطي التدين التقليدي والطائفي، فإن أنماط عمل الطوائف يبين مراهنتها على استغلال أزمة التدين التقليدي المتمثلة في افتقاده لمطلق مرجعي، يزوده بالشرعية ويضمن له الديمومة، وليصبح ممارسات شكلية، وليتحول بقايا أتباعه إلى سوق انتداب ممتازة، من خلال مذهبيته الطهورية التي تقدم مطلقا مرجعيا جديدا ومغايرا وأكثر قدرة على التفسير والتبرير، ومن خلال نشاطه الذي يمنح هؤلاء الأتباع اعترافا اجتماعيا جديدا. فتوفر المدينة على مراكز نشاط هذين النمطين من التدين، سيساعد، لا محالة، على معالجة هذا المشكل البحثي واختبار فروضه. لا تقتصر الوقائع الملاحظة على المظاهر المباشرة لهذه التنظيمات، وإنما تشمل أيضا معالم أخرى أكثر دلالة، مثل مناخ التنظيم، درجة الالتزام بالمعايير، أساليب الضبط في مواجهة الاختلالات... وفي هذا الإطار لا مناص للباحث من الدخول إلى التنظيم في هيئة التابع إذا اقتضى الأمر، حتى يمكن له رصد الأجواء بملاحظاته غير المباشرة، حتى إذا اكتسب ثقة المبحوثين، أمكن له القيام بمقابلات عديدة خصوصا مع نخب المجموعة، بعد التعرف عليهم أثناء البحث التمهيدي. مع تقسيم مريدي كل مجموعة سلفية إلى مجموعات مستقلة تنتمي كل واحدة منها إلى تنظيم محدد، ومن بين الثمانين طالبا الذين يتكون منهم كل معهد، ثم اختيار عينة لا تقل عن عشرة طلبة، اشتملت أجندة الحوار الذي أجري معهم على مواضيع متعددة تستعلم عن السن ومكان الازدياد ومهنة الأب وحالة الأسرة والمسار التعليمي والدروس الملقاة عليهم ورأيهم في الشيوخ، كل ذلك بغرض : · تحديد الروافد التي تغذي هذه المعاهد بالأتباع. · قياس أثر التنشئة التي يتلقاها هؤلاء في هذه المعاهد، إنه استطلاع لرأي الطلبة يهدف إلى التعرف على التمثلات التي يحملونها، مدى تجانسها أو تقاطبها، وذلك من خلال ما يحملونه من مواقف وما يستعملونه من مفاهيم. · تحديد مصادر التلقي عند الشريحة المُستجوبة، مدى انغلاقها أو انفتاحها، بمعنى هل تقتصر على المقررات المبرمجة الحاملة لمذهبية المجموعة وغيرها من المراجع الدائرة في فلكها، أم أن هناك انفتاح مرجعي يترك للطلاب حرية الاختيار، مع تحديد الاتجاهات التي يسير فيها هذا الانفتاح. · وأخيرا محاولة معرفة رأي الطلبة في الأساليب التعليمية التي سبق أن تلقوها سواء في مدارس التعليم الأصيل المدارس العتيقة والتعليم العصري (التعليم الديني على اختلاف أنواعه)، من أجل قياس أثر التلقين المذهبي، في تغيير معارفهم السابقة وقدرتها على إعادة تشكيل مخيال جديد. ماذا عن أهم لبنات النظام المعرفي عند السلفيين ؟ تلقن الإيديولوجيا السلفية عبر مراحل متعددة يراعى فيها نوعية نظام القيم المحيط بسوق التعبئة، وأقدمية التابع بالنسبة إلى الطائفة الدينية. هكذا، وكما الشأن بالنسبة لكل تعبئة إيديولوجية، فإن عملية التلقين المذهبي الذي يتم عبر هذه الدروس تمر بثلاثة مراحل أساسية : (1) مرحلة الإنتاج، (2) مرحلة الترسيخ، (3) مرحلة إعادة الإنتاج. مرحلة الإنتاج : تضع جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة على عاتقها مهاما، عديدة تعبئ لها دور القرآن التابعة لها، وهي: خدمة القرآن وتعميمه بين صفوف الأمة، لا فرق بين صغير وكبير، أو بين غني وفقير. ربط الأمة بكتاب الله وسنة الرسول قدر الإمكان. الرجوع بالأمة إلى عهد سلفها الصالح في قراءة القرآن مجودا مرتلا، ومحاربة كل ما يخالف ذلك. العناية بمتون التجويد بالأسلوب التربوي المتسلسل من الأدنى إلى الأعلى، أو من الأصغر إلى الأكبر. العناية بحلقات القرآن وتفويجها على الأعمار. يتضح إذن، أن المهمة الأولى لدور القرآن هي تحفيظ كتاب الله وذلك عن طريق أسلوب الحلقات، التي تتفرع إلى حلقات الحفظ التي يقرأ فيها القرآن ويستظهر وحلقات الإقراء، وفيها يتدرب الأتباع على التجويد على يد شيخ الحلقة(1)، ثم حلقات المتون، وتلقن فيها قواعد التجويد المصاغة في شكل نظم ليسهل حفظها بالإضافة، إلى كتاب الأربعين نووية، وهي مجموعة من الأحاديث الأكثر توظيفا للدلالة على رجحان المذهب السلفي. وعلى العموم، فإن العلاقة التربوية داخل دور القرآن تندرج ضمن النموذج التربوي التقليدي، من خلال مركزية الشيخ وامتلاكه لسلطة شبه مطلقة، تجعل منه مصدرا للمعرفة. أما المتلقي، فهو مجرد ناقل سلبي يتلقى المعرفة وتمارس عليه سلطة المدرس، كما تمر التفاعلات في اتجاه وحيد من الشيخ نحو الأتباع، ويتجلى ذلك في مظاهر عديدة: الصمت الذي يسود داخل قاعة الدرس، طاعة الشيخ التامة، واحترام القواعد الموضوعية من طرف الإدارة. مما يؤدي إلى افتقاد الدروس، الحيوية والتبادلية، ويكرس ذلك وحدة الخلفية المذهبية للشيخ والطلبة. في المقابل، تنجح هذه الوحدة عملية التواصل التي تجري بين الطرفين بحيث يتمكن الأتباع من استيعاب الدروس بسهولة. مرحلة الترسيخ : يعتبر الترسيخ مرحلة مهمة في صيرورة البث الإيديولوجي، بحيث ينتقل التلقين إلى مرحلة متقدمة تستهدف تركيز المعتقد، بشكل يمكن الأتباع من امتلاك جهاز تشفير يعطيه حصانة ضد كل ما يمكن أن يحصل للإيديولوجيا من تشويش بسبب التناقضات المنطقية والعملية التي تحملها. وبالنسبة للحركات السلفية، يتعلق الأمر بالانتقال بالدعوة من مرحلة الوعظ الديني، إلى مرحلة التعليم والتعلم الذي يتم في المعاهد التابعة للجمعيات السلفية. تتمثل المعاهد السلفية، كما هو الشأن بالنسبة لدور القرآن، في مؤسسات تربوية غير خاضعة للسيطرة المؤسساتية. أما الفكرة الأساسية التي قامت لأجلها هذه المعاهد، فهي مراعاة التكامل الضروري في تكوين داعية المستقبل، فعلى عكس دور القرآن التي تقتصر على تلقين نوع واحد من العلوم (العقيدة)، يروم القيمون على هذه المعاهد، نحو تحقيق التكامل المنهجي الذي يتجلى في تطعيم المعارف العقائدية بتدريس العلوم الأخرى كالتفسير والأصول والفقه والحديث واللغة والنحو... ومن ناحية منهجية التدريس، تعتبر المعاهد تطويرا لأسلوب الحلقات، بحيث يتم الانتقال من منهجية تواصلية عمودية يلقي فيها الشيخ المعلومات على أتباع يستمعون، إلى منهجية أفقية تتاح فيها الفرصة للطلبة من أجل التعبير والتعقيب والاستفسار. وذلك ما تترجمه الأهداف التي رسمت للمعهد العلمي التابع لجمعية الدعوة إلى القرآن والسنة وهي : 1 إيجاد مؤسسة علمية تحتوي على منهج متكامل في الشريعة واللغة والعلوم الحديثة. 2 تكوين الدعاة الذين يحملون المنهاج السلفي بجدارة واستحقاق. 3 تكوين العلماء المؤهلين للفتوى والتوجيه للأمة بالحجة والدليل، ولا يفتونها بالرأي الكاسد والقياس الفاسد. 4 محاربة الميوعة بكل صورها من تساهل في الاختلاط واللباس الغربي الوافد من بلاد اليهود والنصارى. 5 إعداد الداعية المخلص الصادق الذي لا يبيع دينه بعرض قليل من الدنيا. مرحلة إعادة الإنتاج : ضمن صيرورة البث الإيديولوجي، تتمثل أهمية مرحلة إعادة الإنتاج في كون المتوجه إليهم بالتعبئة يكونون مطالبين بترجمة المذهبية على مستوى سلوكهم اليومي وخطابهم الذاتي. هذه العملية ليست ميكانيكية، ولكن لها استقلالية في مسلسل البناء الإيديولوجي، فخطاب المناضلين لا يساير خطيا التوجهات التي لقنت لهم، إذ تتعرض عملية البث على هذا المستوى إلى تشويش بفضل التطور الذي يطرأ على مقدرات الإدراك والتأويل ونماء الخبرات لدى الأتباع، لذا تكون المؤسسات الخادمة لهذه الإيديولوجيا مضطرة إلى بذل مجهود مستمر وإضافي من أجل تتويج صيرورة التلقين الإيديولوجي بمرحلة نهائية تتم فيها بث الإيديولوجيا بشكل أكثر عمقا. وبالنسبة للحركات السلفية، يتم إعادة الإنتاج هاته في مؤسسات عالمية أهمها الجامعة الإسلامية بالمدينةالمنورة، فمباشرة بعد استكمال الأتباع للدراسة بالمعاهد العلمية السلفية، تتاح الفرصة لبعض النابغين منهم في الالتحاق بهذه الجامعة. إذ لا يتطلب ذلك أية شهادة أكاديمية رسمية، بل مجرد تزكيته من طرف شخصيات معروفة لدى الدوائر السعودية تشهد للطالب "بالأخلاق الفاضلة والعقيدة السنية السليمة والرغبة الشديدة في تعلم العلوم الإسلامية في مهبط الوحي المملكة العربية السعودية(2). وبالنسبة للمغرب، ظل الشيخان "لحسن وجاج" و"محمد المغراوي"، كل على حدة، الشخصيتان المانحتان للتزكية، وقد أهلهما لذلك ما يتمتعان به من ثقة ومكانة كبيرة لدى السعوديين، مع ملاحظة اختلاف طرقهما في منح التزكية، فبينما يكتفي المغراوي بتقييمه الخاص للشخص المرشح (وهو تقييم يدخل فيه، بالإضافة إلى المؤهلات العلمية مدى خدمة المرشح للشيخ ولجمعية الدعوة). يقيم "لحسن وجاج"، امتحانا تمهيديا ينتقي من خلاله المرشحين للقبول بالجامعة أو ملحقتها بموريتانيا(3)، وفي كلتا الحالتين لا تقتصر التزكية على بيان أهلية الطالب من الناحية العلمية، بل تشهد أيضا على سلامة عقيدته السلفية. وبعد أن يتم الالتحاق بالجامعة، تجرى مباراة تحديد المستوى للمرشحين المقبولين، كما يتقرر إعطاء المنحة للطالب من عدمها، حسب مجموع الدرجات والتقدير العام المحصل عليه في امتحان الترشح. أي موقع، لازال بالنسبة للكتاتيب القرآنية السلفية ؟ لقد هجر الأطفال الكتاتيب القرآنية السلفية، نحو مؤسسات التعليم الأولي العصرية وهجر الأطفال "المحاضرية" للكتاتيب القرآنية العتيقة سواء تلك التابعة للزوايا والمساجد أو المستقلة عنها في اتجاه التعليم الأولي، هكذا علّق أحد القائمين على أحد الكتاتيب على هذه الحالة بالقول "لم يعد أحد يبالي بتراث مدارسنا العتيقة ولا بريادتها التي لم تعد سوى رموزا لماض لا يستطيع أن يساير ركب هذا العصر المتطور، فقد أغلقت أغلب الكتاتيب القرآنية من النمط العتيق...، ومنها ما تحول إلى محلات لمزاولة حرف تقليدية أو مزارات للسياح أو ألحق بالمنازل المجاورة. لقد أصبحت الكتاتيب، تعد على رؤوس الأصابع بعد أن انتشرت الكتاتيب العصرية، ولم يعد ينظر إلى المسيد، أو المصرية، أو دار الفقيه، إلا نظرة ازدراء أمام التطور الحديث في العلوم الدنيوية". وعلى مستوى التسيير والتأطير، تستفيد دور الحضانة السلفية بتعدد جهات الإشراف والمراقبة في ميدان التعليم ما قبل المدرسي، ففي مجال الكتاتيب القرآنية وفي ظل افتقاد وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية للأطر المؤهلة للمراقبة، كان المتفقدون التربويون المكلفون بمراقبة مؤسسات التعليم الأولي الخاص، يقومون بمراقبة الكتاتيب القرآنية بغرض الرفع من مستوى التعليم بها وإنجاز بحوث وتقارير ميدانية حولها، رغم معاناتهم من صعوبة التنقل بفعل تباعد الكتاتيب وعدم توفرهم على تكوين في مجال الطفولة. لكن واقع الحال يكشف ندرة في الأطر التي تتوفر عليها المندوبية لمراقبة دور الحضانة السلفية، زد على ذلك تواضع المستوى التعليمي لأغلب المذررين والمذررات حيث لا يتعدى مستواهم الباكالوريا وما تحتها، علاوة على ضعف التكوين البيداغوجي لدى هؤلاء(4). مما دفع إلى الاستمرار في الاعتماد، على متفقدي التعليم الأولي في القيام بمهمة تفقد الكتاتيب القرآنية العتيقة. لكن الأمر الهام الذي ساعد الزيارات التي تم القيام بها لعدد من الكتاتيب والتي حددتها لنا السلطات المختصة، هو اكتشاف وضع هام يتمثل في استثمار العديد من خريجي دور القرآن السلفية في الكتاتيب القرآنية ومؤسسات التعليم الأولي. فمن جهة، يتوفر هؤلاء على كل الشروط التي يتطلبها القانون (حفظ القرآن بالنسبة للكتاتيب وشهادة الباكالوريا بالنسبة لروض الأطفال)، أما بالنسبة لشرط الحصول على شهادة من القائد، الذي يعد ضمن الوثائق التي يجب أن يتضمنها الطلب الموجه إلى المجلس العلمي، فيتمكن المعنيون بالأمر من الحصول عليها بسهولة بفعل عمليات الوساطة وحسن سمعة المعنيين لدى السكان..، لقد وفر استثمار السلفيين في الكتاتيب القرآنية ورياض الأطفال الفرصة للحساسيات السلفية من أجل معاودة الحضور الفعلي في التعليم الذي ضمن إطارا مؤسساتيا وقانونيا(5). خصوصا بعد إغلاق دور القرآن عقب أحداث 16 مايو 2003 بالدارالبيضاء. وعلى مستوى المضمون التعليمي السائد في الكتاتيب المذكورة، لاحظنا التفاف المعلم على المقررات الجديدة التي وضعها قانون التعليم العتيق والتي أصبحت بحكم القانون مرجعيات ملزمة، بحيث يتم تحويل هذه المقررات إلى كراسات صورية أو تفسر تفسيرا سلفيا، كما لاحظنا ضعف المستوى التعليمي لأطر المندوبية المكلفين بمراقبة وتتبع الكتاتيب القرآنية العتيقة(6)، بحيث لم يلاحظ الشخص الذي كلف بمرافقتنا في الزيارة النفس السلفي الواضح الذي كان يبديه المربي في تفسيره لما ورد في تلك المقررات، بل بالغ هذا المراقب في مدح المربي واصفا كتّابه بالنموذجي. كيف تتجلى فكرة التنظيم لدى السلفية، بل هل من شيء اسمه مثلا القناعة الإيديولوجية ؟ كان اكتشاف أنماط التنظيم داخل الحركات السلفية، محل الدراسة من أصعب المهمات التي واجهتنا وذلك لاعتبارات عديدة : منها قلة المظاهر التنظيمية ذاتها، والذي يجد تبريره فيما تحمله هذه الحركات من قيم تزدري هذا الموضوع، فقد جرت العادة في الخطاب السلفي على القول ببدعة العمل التنظيمي والهيكلي(7)، بحيث تعتبر هذه المقولة عند بعض الجماعات السلفية مبدأ اعتقاديا قيميا خارجا عن كل نقاش(8). وحتى إذا تم تبني بعض مظاهر التنظيم فلا تكون سوى مظاهر إجرائية هدفها إصلاح بعض مظاهر العمل اليومي دون المساس بشمولية الهياكل البسيطة الموجودة(9). ومما يزيد في صعوبة رصد مظاهر التنظيم، إحجام العديد من المستجوبين على الخوض فيه، فعلاوة على افتقار قاموسهم إلى المفاهيم التنظيمية، رأى هؤلاء السلفيون أن ما يجب علينا الاهتمام به هو جوهر الدعوة، الذي يتمثل في إحياء التعلق بالقرآن والسنة في العبادات والمعاملات، وتستنبط هذه الدعوة محاولة لجرنا إلى اعتبار الحركة السلفية مجرد فعل جماعي قام من أجل الدفاع عن غاية سامية، بدون أن يهتم بوضع تنظيمي محدد. مما ينافي ما تقول به سوسيولوجيا الحركات الدينية، من أنه لا يمكن ملاحظة ما يسود من أبعاد تنظيمية وهيكلية داخل المجموعات الدينية سوى على مستوى الفعل الديني وحده وليس على مستوى الإيديولوجيا. وللتغلب على هذه الصعوبات، وفهم الجو التنظيمي وتأثيره على تصرفات الزعماء والأتباع، سنستعرض المظاهر التنظيمية التي نجحنا في رصدها مع تأويلها لاستخراج ما تكشف عنه على المستويين القيادي والهيكلي. على كل حال يتبين أن علاقة القائد بالأتباع، علاقة عمودية تنساب فيها المعلومات والأوامر من الأعلى إلى الأسفل، وتتمركز فيها القرارات في يد القائد، وتنعدم مشاركة الأتباع. فما يثير في هذه الحركة، وجود قيادة مركزية للسلطة، اللهم ما كان من "بنية وسيطة"(10) تتكون من بعض الأفراد المقربين الذين يمثلون القيادة العليا ويساعدونها على المراقبة والضبط، فمن المبادئ التنظيمية عند جمعية الدعوة أنه من لا يلتزم بدار القرآن حضورا ودراسة، لا يمكنه أن يدرّس فيها مستقبلا ولا أن يتولى مهمة مماثلة(11). بمعنى آخر، فإن ولوج المهمات وما يخوله ذلك من الإطلاع على جزء من الأسرار الشخصية للقائد والتي لا يعرفها الآخرون، يقوم على خاصيتين : أهلية التحدث (وليس التفقه) في أمور الدين وفقا لتصور القائد(12)، والانضباط الذي يفرض التكتم على ما يجري بين الصفوة تطبيقا لمثل دينية كالأمانة. يتعلق الأمر، إذن، بنوع من القيادة الأتوقراطية التي من سماتها فرض الرقابة المباشرة على التنظيم، واتخاذ جميع القرارات المهمة و الحرص على ضمان الولاء للقائد. فرغم إقرار الأتباع بتعود القائد على الاستماع إلى مقترحاتهم وآرائهم، لكنه يحتفظ بكل القرارات لنفسه، ويرفض بقوة من لا يقبل الولاء الشخصي والانقياد لقوانين التنظيم(13). فمن مقدرات قائد جمعية الدعوة، جمعه بين أسلوب القيادة السلطوي، والمواقف التي تمارس فيه هذه القيادة حيث تظهر الكثير من التفهم الأولي وحسن الاستماع. ومن جهة الأتباع، فقد لمسنا لديهم درجة عالية من الإحساس بالتبعية(14)، مصدرها ضبط الجمعية لطرق الانخراط، ووعي الأتباع التام بأن الاقتراب من القائد هو مصدر الارتقاء في التنظيم وانتزاع الاعتراف والمكانة داخله. القائد في تصورهم هو المسؤول الأول والأخير، ولديه مهارات عالية لا يتوفرون عليها، ولا يشعر هؤلاء إزاء ذلك بأي ازدراء أو عدم تقدير، لقيام العلاقة بين القائد والأتباع على الإنصاف والاحترام المتبادل. وبفضل هذا الشعور، تمتلك قيادة التنظيم قدرة كبيرة على ضبط المجموعة وجعلها تسير على الإيقاع الذي تريده، ما دامت تمتلك إمكانية تزويد التنظيم بالموارد المالية والرمزية المتمثلة أساسا في العلاقة التي تساعدها على العمل في أشد الظروف. فتنوع الموارد وتعددها وارتباطها بالقائد هو الذي يحسن مردودية التنظيم، على عكس العديد من الحركات الاجتماعية، حيث يمنع الكثير من الوفاء للقيادة من تحسين المردودية. 5 عند أي مرحلة عمرية بالضبط يوجب السلفيون ارتداء الحجاب ؟ وكيف تتحدد معهم مستويات القبول أو الدفع ؟ ابتداء من سن الطفولة، لأن التابع يجب أن يكون منذ الصغر صورة يتحرك فيها القرآن والسنة ولا حاجة لمرحلة البلوغ تأسيا بما يعتبره السلفيون ترجمة لسلوك الصحابة. إن ما يضمن فعالية التعبئة في سن الصغر ويعفي الآباء من إمكانية رفض الأبناء للحجاب وغيره من السلوكيات الرسمية الإسلامية هو وبشكل عام، طرق التلقين الفعالة التي تتم في الصغر، ففيها يتم بث المعتقد الديني، بطريقة تراعي حداثة الملتحقين وحداثة المعتقدات بالنسبة إليهم، وبشكل يحترم قدراتهم الإدراكية البسيطة، لذلك يعتمد التلقين، في هذه المرحلة على بعض المراجع الأساسية : "كتاب التوحيد" و "الأصول الثلاثة" و "القواعد الأربع"، وكلها لمحمد بن عبد الوهاب و "الأربعين نووية" للإمام النووي، و"العقيدة الواسطية"، وهذه الأخيرة عبارة عن نظم لابن تيمية بسيط الأسلوب سهل الحفظ سلس اللغة، بعيدا عن الغموض والتعقيد المميز للمنظومة العقائدية الأشعرية المسماة "المرشد المعين على الضروري من علوم الدين" لابن عاشر. وهو المرجع الذي يحال عليه في تلقين علم الأصول الإسلامي في المدارس العتيقة والمعاهد الدينية بالمغرب، والمنظومة مليئة بالجدل الكلامي لكونها تقيم العقيدة على مسائل ذهنية ومعارف فكرية ومقدمات فلسفية وأقيسة منطقية يصعب فهمها على المتخصص فما بالك بالتابع المبتدأ. ولا تتبع عملية الحفظ السلفية هذه أي شرح، إذ لا يتمتع الأتباع في هذه السن المبكرة بمقدرات إدراكية كافية لاستيعاب النظرة المجردة لفكرة الله التي تحملها الإيديولوجيا السلفية، بحيث يكتفي الشيوخ بتحفيظ الأطفال هذه الخصوصيات، في انتظار أن تنضج مؤهلاتهم العقلية والانفعالية التي تمكنهم من تمثل فكرة الله على نحو ما تتصورها العقيدة السلفية. أعتقد بأن طقس الحجاب كما يمارس في الأوساط الإسلامية، لا يأخذ طابعا أوتوماتيكيا، كما يحدث عند السلفيين، فهو إما نتيجة للتربية المحافظة أو اقتناع شخصي من لدن الفتيات. أما مع التقليد السلفي، فهي معتمدة في النص ولا يجوز التهاون في لبس الخمار الإسلامي. أخبرتني سابقا، عن معاناة نفسية قاسية ؟ نعم، إنه سعي انتهى بي عند طبيب الأمراض العقلية والنفسية. لقد بدأت البحث بدراسة، أردت أن أعرف في إطارها، إذا كان الفاعلون ومكونات الحقل، سيتجاوبون مع شخصية من خارج الحركة السلفية. وسأقبل بحماسة زائدة، لما تلقيت وعودا من رموز الحركة السلفية، كي أجري معهم مجموعة لقاءات وحوارات، وهو ما سيسمح لي أكثر بأن أعيش لفترة ما بين صفوف مريديهم. مع ذلك، لم يكن الظفر بترخيص الولوج سهلا، لأني عجزت عن إقناع بعض السلفيين بحيادية العمل الذي أتوخى القيام به، لأن الحيادية مفهوم، معترض عليه داخل النظام المرجعي السلفي، وكل الأفعال ينبغي أن تصير في خدمة الدعوة. ونتيجة التجربة التي اكتسبتها، بعد معاشرة لأشخاص من الجماعة السلفية، ومع قنوات الأصدقاء، نجحت فعلا في الانخراط، وأدركت بأن توظيف حاجز الدعوة السلفية لديهم، كان فقط مبررا دافعه الارتياب من هدفي. هكذا، أنجزت بحثي الميداني بطريقة عادية لفترة 9 أشهر، وأعترف لكم بأن ما عشته ولازلت أعيشه عبارة عن إغماء نفسي وضغط حاد، حينما أزور ثانية مدرسة قرآنية أو أحاور مجددا أحد المشرفين عن هذه الأمكنة. كنت مضطرا إلى التكيف مع هذا المناخ الطقوسي على الأقل مظهريا وتعبيريا، كي لا تجسد شخصية الباحث عائقا، أمام إنجاز المهمة. لقد مارست رقابة ذاتية، كي أتمثل منظومة سلوكية تمنحني هوية الانتماء إلى الجماعة. سلوكات مثل، كيفية شرب الماء أو قراءة المعقبات بعد الصلاة، وشيوع التحايا بطريقة خاصة وأن تتكئ على الحائط والتحلق حول الشيخ لحظة إلقائه الدرس. لكن، ما إن اتخذت الأمور مجراها الطبيعي، حتى وقعت أحداث 16 ماي 2003. بمناسبة تفجيرات الدارالبيضاء والتي نسبت إلى السلفيين، كيف أثر الحدث على مشروعك ؟ لقد جسّد الحدث مرحلة انتقالية بكل المقاييس. وانعكس سلبيا على برنامج البحث، الذي بدأت ملامحه تتضح شيئا فشيئا. هكذا، بعد أن صار الحقل ديناميا، وتمكنت من تطبيق منهجية العمل الاجتماعي والاستئناس بمعطيات المجال واكتساب ثقة الفاعلين، تحولت فجأة إلى شخص مشكوك في أمره، وبالرغم من تمسكي بمسألة إعادة تأكيد هويتي كباحث، فإن معطيات اللحظة تجاوزت في قوتها كل دليل أو تفاوض. لقد خسرت جراء 16 ماي، جل ماراكمته سابقا. افتقدت الاتصال بالمتحاورين، وتراجعت ثقتهم. السياق، إذن حتّم علي البقاء بعيدا عن منطقة ختمت بالشمع الأحمر، والاكتفاء بالملاحظة عن بعد في انتظار مؤشرات مشجعة أكثر، وأن أنكب على القراءة كي أتعمق معرفيا في خبايا الحركات الاجتماعية ذات المنحى الطائفي، وكذا متابعة الإصدارات المهتمة بالميدان. خلال، فترة التوقف الاضطراري، طرحت على نفسي سؤالا، يتعلق بحدود الخطأ، لأني توخيت معالجة موضوع لم تتبلور بعض شروطه ! ثم ما هو الثمن الشخصي والنفسي والاجتماعي، الذي سأدفعه في نهاية المطاف حينما قررت الانكباب على معرفة مضامين جماعة دينية غارقة في الخصوصية ؟ مرت ثلاثة أشهر، وظل الوضع مأزوما، فلا مؤشرات تدل على خلاص قريب، وما زاده تعقيدا، أنه عندما نجحت في انتزاع حوارات ولقاءات مع بعض مسؤولي السلفية، تعرضوا مباشرة بعد أسبوع واحد لحملة اعتقال قاسية، مما زاد في شك السلفيين، بأني أعمل لحساب المخابرات. هنا، أدركت بأن المناهج الاجتماعية المعتادة، ليست فعالة، ومن الضروري تبني تغير راديكالي على مستوى استراتيجية الاشتغال. فحاولت خلال مناسبتين، الانضمام إلى جماعة سلفية، غير أن نخبها أجابت بالرفض، فجاءت الخطة الجديدة على المنوال التالي: إن وفرة المدارس القرآنية بمدينة مراكش، سمح لي بإمكانية شد الرحيل نحو مدارس متعددة، وبالتالي تجنب إثارة الانتباه، فتابعت أبحاثي الميدانية باستعمال الملاحظة الضمنية، وأن أتصرف وفق منظومة مريدي هذه الحركات. هكذا التزمت مظهريا وتعبيريا، فأرخيت لحيتي، وأصبحت ألبس على طريقتهم. كان ضروريا، أن أنتبه جيدا في استعمال منهجية علمية، كي لا أصير موضوع شك، وقد لاحظت بأن توظيف تقنيات البحث المألوفة مثل الأسئلة بواسطة الاستمارة، ليس ممكنا، وعوض ذلك، التجأت إلى منهجية ثانية، وتتمثل في التركيز على أسئلة معينة ومحددة، أحتفظ بها في ذاكرتي، ثم أحاول الاستفسار عنها أثناء الاجتماعات المفتوحة التي تنعقد على هامش نشاط جمعوي أو حين الخروج من المسجد، وحرصت أشد الحرص، كي لا يشعرون بأن أسئلتي تتوخى قصدا معينا. صورة تقريبية عن بعض تلك الأسئلة : لقد طرحت أسئلة، بدت لي منطقية قياسا إلى السجال، الذي ارتبط دائما بالمشهد الديني في المغرب. مثل : 1 هل أنتم متفقون مع تبني المذهب المالكي من قبل الدولة ؟ 2 ماذا تظنون في الرأي الذي يقول بأن الشريعة الإسلامية تعتبر مذهبا رسميا للمغاربة ؟ 3 هل تنحازون إلى جانب الرأي، الذي يقول بأن الصوفية كمرجعية سلوكية وتربوية وإيتيقية، تجسد حقا مكونا جوهريا قصد فهم واستيعاب الإسلام ؟ ...، هي أسئلة، بالأساس تحريضية بحيث وجد الأشخاص المحاورين، خلال سياق الاستفسارات، مناسبة كي يعبروا عن انطباعاتهم حيال انتماءاتهم الدينية، مع ذلك فأجوبتهم لم تتوقف عند تأكيد أو نفي. طبعا، حاولت بكل ما أستطيع، أن أظهر بأني أتقاسم معهم نفس الرؤية للعالم وأوجههم بطريقة أو أخرى، كي يكشفوا عن تصورهم للوقائع، مثلما تقدم لشخص ينتمي لنفس المجموعة، لأن هؤلاء غالبا ما يرفضون التكلم للغرباء، بحرية زائدة. لقد ترددت كثيرا على المدارس القرآنية، ركزت على أنشطتها اليومية، ونسجت علاقات صداقة داخل هذه الفضاءات، مما خلق لدي إمكانية تجميع حصيلة غنية، وضعت على ضوئها بناءات مفهومية بالنسبة لهذه التنظيمات الدينية. كذلك تمكني من النفاذ إلى الوثائق التنظيمية، أضفى زخما على روافد البحث. إذن مع الانغلاق الشديد لهذه المجموعات الدينية، كيف وظفت دور الوسيط ؟ في المرحلة الأولى، استعملت شبكة العلاقات الأسروية للمستجوبين، بيد أن هذه الطبقة لم تكن مفيدة كما توقعت، لذلك اتجهت أكثر نحو شبكة الصداقة، التي أفادتني أكثر، وإن اتصفت بعائقين جوهريين : · عائق مرتبط بالأخلاقيات الإسلامية، بما أن محاورة الوسيط حول شخصيات أخرى، قد تبدو بمثابة نميمة، لا يجيزها الإسلام. · عائق مصداقية المعلومة، الوسيط يلح أن يبقى مصدرا مجهولا، تحت دواعي مختلفة، مثل جزمه بأنه غير متأكد من صحة معلوماته وأحيانا، لأن الإفصاح قد يعكر صفو علاقته مع زملائه. لكن، تبين لي فيما بعد، أن أغلب الذين اعتقدتهم وسطاء يعتبرون عناصر سلفية بلا انتماء رسمي. لقد فهمت، بأن البحث في تاريخ جماعات الدعوة، يشكل نقاشا في الوسيط نفسه، وهو ما يفسر التضايق والانزعاج أو الاعتذار عن إعطاء أجوبة بخصوص أسئلة كثيرة، حتى ما تعلق منها بوثائق تأسيس هذه الجمعيات. · التعلل بمسألة احترام التراتبية الإدارية للجماعة، فرئيس التنظيم حسب أغلب العناصر التي حاورتها، يبقى المتموضع بشكل أفضل كي يجيب على الأسئلة. ومن أجل حلّ الصعوبات المرتبطة بالتنقيب في بيوغرافيا النخبة السلفية، تابعت أنشطتهم الأخرى خارج جماعاتهم، ولاسيما لدى صنف الأساتذة الجامعيين، فذهبت إلى خزانات الجامعات حيث يشتغلون كي أحصل على جرد كامل للنماذج البحثية التي أشرفوا عليها، فوضعت أصابعي بالتالي، على تجليات الثبات والتحول في اهتمامات الفاعلين السلفيين وتمرحلات مسارهم، خاصة وأن الكتب التي أصدروها تعتبر فقيرة على مستوى المعطيات السوسيولوجية، ومكرسة فقط للسجال الديني المدافع عن السلفية. تلك باختصار، أهم المشاكل التي واجهتني في بحثي السوسيولوجي وأنا متأكد، بأن الباحثين مثلي، يعانون كذلك. وإذا كنت حاليا، أتحمل تبعات آثار صحية، جعلت مني زبونا وفيا لطبيب الأمراض النفسية وكذا الصيدليات، غير أن أكبر عزاء مع كل ذلك، يبقى لذة القراءة وكذا البحث الميداني مثلما عشته خلال تلك الفترة، والفرص التي أتاحها كي أتعرف على أناس رائعين. الهوامش : (1) يعتبر السلفيون أن التجويد فرض وأن منكره كافر، كما أن منهم من أبطل صلاة منكر التجويد. مقتطف من كلمة ألقاها داعية سلفي عند تنظيم حفل الإفطار الجماعي بدار القرآن المسيرة بتاريخ الأول من دجنبر 2002. (2) يعد هذا النموذج تطويرا للتزكية التقليدية، التي كانت اعترافا بقيمة الطالب وشيوخه الذين أخذ عنهم، ويستطيع أن يثبت بها مستواه العلمي الذي من شأنه أن يؤهله للعمل على الأقل ببعض المجالات العلمية المرموقة إن لم تسعفه قدراته الذاتية على إثارة الانتباه إليه عن طريق محاضراته ومؤلفاته. الحسين وجاج، دور الحديث، ص 110. (3) أغلقت هذه الملحقة على أثر تداعيات أحداث 11 شتنبر 2001. (4) كشفت الدراسة التي أجرتها السلطة على المذررين في الكتاتيب القرآنية التابعة لنيابة التعليم في عمالة المدينة على الأرقام التالية (ستة حاصلون على الإجازة، و 83 ما دون ذلك، و 18 حافظون للقرآن الكريم). (5) يتعلق الأمر بكتابين نتحفظ على ذكر اسمهما ومكان تواجدهما احتراما لرغبة مسيريهما. وعلى الرغم من أن العديد من المستجوبين في القضية قد أخبرونا بتواجد كتاتيب ورياض أطفال أخرى يستثمر فيها السلفيون، على أننا لا نستطيع من الناحية العلمية القول بأن الظاهرة عامة ومنتشرة مثل ما فعل أوليفيه روى في مؤلفه « l'Islam mondialisé » حيث خلص إلى أن الكتاتيب القرآنية تعد المصدر الأساسي للمناضلين السلفيين. (6) يتكون الطاقم الإداري بمراقبة الكتاتيب القرآنية العتيقة من ستة مراقبين تابعين لمندوبية الأوقاف والشؤون الإسلامية. (7) يعبر الشيخ زحل عن معارضته لفكرة العمل التنظيمي التي بدأت تتبناها بعض الحركات السلفية العاملة في المغرب. بحيث ، قال : "ننتظم ولا نتحزب، نجتمع ولا نتعصب..."، أنظر حواره مع جريدة التجديد، العدد 492، 20 أكتوبر 2002. (8) تتجلى أبرز مظاهر رفض مبدأ التنظيم عند ما سمي بالسلفية الجهادية من خلال رفضها إطلاق أسماء مخصوصة قد توحي بأنها تنظيم قائم، بحيث تقدم نفسها كتيار عقدي أصولي يقتدي بشيوخ معينين وليس كتنظيم على غرار التنظيمات الأخرى، وفي هذا الإطار يرفض الميلودي زكرياء، الزعيم المفترض لجماعة الصراط المستقيم أن يطلق على المجموعة التي ينتمي إليها لفظ الجماعة، نظرا لقناعة راسخة لديه مفادها أن هذا اللفظ لا يجوز إلا لجماعة المسلمين التي ينضوي تحت لوائها كل المسلمين الموحدين، في كل البلاد الإسلامية، فلا وجود لجماعة أخرى غير "أهل السنة والجماعة"، وبالتالي فوجود جماعة صغيرة داخل هذه الجماعة يعتبر أمرا مبتدعا وغير شرعي. يقول : "ليست هناك جماعة بالمعنى الذي يفهمه بعض الناس، بل هناك تيار دعوي يعرفه الجميع، تيار يتميز بشموليته وسلامة منهجه لاستناده كليا إلى الشرع وتأسيه بهدي الأنبياء والمرسلين، ونحن نجتهد بفضل الله عز وجل لنكون جزءا من هذا التيار ومن دعاته ويشرفنا ذلك". الأحداث المغربية، عدد خاص عن أحداث 16 ماي 2003. (9) لكن ونظرا لحساسية الموضوع فكثيرا ما أدت هذه المطالب النابعة من أجل الحركات السلفية والمتعلقة بالتنظيم إلى حدوث انشقاقات داخلها. (10) يعتبر ضعف النبيات الوسيطة في الحركات الاجتماعية، السبب في انطباع هذه الأخيرة بالطابع السلطوي، راجع : Fillieule (O) et Cécile (P), lutter ensemble les théories de l'action collective, (Paris : l'Harmattan, Paris, 1993). P 50. (11) يتوفر معظم هؤلاء على الإجازة في الدراسات الإسلامية (يعتبر الشيخ عبد الكبير الوحيد من بين أتباع جمعية الدعوة الحاصل على دبلوم الدراسات العليا في نفس الشعبة) ويتلقون نظير تدريسهم أجورا تتفاوت حسب عدد الحلقات التي يقومون بتأطيرها والدروس التي يقومون بإلقائها سواء في دور القرآن أو المعهد العلمي. (12) لذلك توجه لهم نخب تنظيم جمعية الحافظ انتقادات بالقصور العلمي والأخلاقي واصفين إياهم بالطحاليب من حيث الصلة بالعلم. (13) لا يتعلق الأمر بقوانين مصاغة، يتضمنها نص أساسي كما هو شأن الجمعيات الأخرى، وإنما بسلوكيات محددة يتعرف عليها التابع بمجرد التحاقه بأحد دور القرآن التابعة للجمعية ويتعود عليها طيلة مكوثه فيها. (14) يتعلق الأمر عند جميع التنظيمات السلفية بأتباع وليس منخرطين، فهم لا يؤدون واجبا للانخراط، بل يستفيدون من خدمات الجمعية التي تتبناهم وترعاهم علميا واجتماعيا. [email protected]