" لا تتدخل فيما يعنيك! ".. هذا ما لا يستطيع "الجهاز المخزني" قوله صراحة لشباب " 20 فبراير", لكنه يريد أن يوصل هذه الرسالة، بطريقته، عبر سلسلة متواصلة من "الحروب" الصغيرة، التي تتم بالوكالة أحيانا وبالمباشر أحايين أخرى، ماذا يقع بالضبط؟ ولماذا هذا الانزعاج من اهتمام الشباب بما يعنيهم وابتعادهم عما لا يعنيهم ؟ سبق ل " پول ڤاليري"، الشاعر الفرنسي المعروف، أن عرف السياسة قائلا : "إنها الفن الذي يمنع الناس من التدخل فيما يعنيهم". ربما قولة مثل هذه قد تجيبنا عن السؤال أعلاه وتحل لنا اللغز, لكن الشباب، منذ 20 فبراير، ما عادوا يطيقون ترك ما يعنيهم , لقد أبدعوا أخيرا ورفعوا شعارهم : "هذا المغرب واحنا ناسو...". يبدو إذن أن السياسة, في عرف من بيدهم القرار, هي كيفية منع هؤلاء الشباب من التدخل فيما يعنيهم, أمر كهذا تطلب إستراتيجية خاصة لتحقيقه, فكيف مارس أهل الحل والعقد عندنا " سياستهم" هذه تجاه شباب " 20 فبراير" ؟ وكيف واجه الشباب هذه الإستراتيجية ؟ لنتابع، بداية، بعضا من مظاهر إستراتيجية منع الشباب من التدخل فيما يعنيه: 1 - التشويه والتشكيك: قبل 20 فبراير قيل للشباب : إذا تدخلتم فيما يعنيكم, فإنكم تجعلون من أنفسكم موضع شبهة واتهام, فتمويلاتكم مشبوهة, وقد تكونون من "أنصار البوليساريو" أو من "الشواذ" أو من "وكالين رمضان" أو أنكم, باختصار, في خدمة أجندات أجنبية.. ثم نفذوا أقوالهم "صوتا وصورة" ... 2- التعويم والتمييع: بعد 20 فبراير قيل للشباب: إذا كان ما يعنيكم هو مطالبكم المعلنة في أرضيتكم, فقد أصبحت الآن مطالب الجميع، من أحزاب وجمعيات ونقابات..., بل والنظام نفسه, فلا داعي للاهتمام وعودوا إلى قواعدكم سالمين, فرسالتكم وصلت وتبناها الكل: اليمين وأقصى اليمين ! اليسار وأقصى اليسار! الوسط ووسط الوسط ! ... 3- القمع والاستنزاف: بعد 9 مارس قيل للشباب: إذا استمر تدخلكم فيما يعنيكم فقد تستنزفون أوقاتكم وأرزاقكم وصحتكم, فشعاراتكم حفظت وكررت, ومطالبكم أصبحت تحصيل حاصل, فاستريحوا وأريحوا وإلا فانتم مهددون بالصراع من داخلكم وبالقمع من خارجكم, فالتناقض بينكم والاعتقال أمامكم والبلطجة ورائكم, وبالتالي فالعنف ينتظركم والقمع مصيركم والعزلة مآلكم.. وكذلك حاولوا... 4- التنميط و الإدماج: بعد فاتح يوليو قيل للشباب : المرحلة الآن هي مرحلة "تنزيل الدستور", وهذا ما يجب أن يعنيكم, وكل ما عدا ذلك هو تدخل فيما لا يعنيكم, فابتعدوا عن الشوارع, فهي مليئة ب "الكائنات والأسماء الغريبة": البلطجية , المخبرون, العدميون, الراديكاليون, المتهورون,العدليون والنهجيون... أما الفاعلون السياسيون "الحقيقيون" فهم مشغولون بما يعنيهم : الانتخابات على الأبواب، فابحثوا من الآن عن مقاعدكم، واحترموا "ثوابت" وطنكم.. إنها إستراتيجية التنميط و الإدماج، إي عملية دمج الجميع في إطار محدد من خلال خلق" ثوابت جماعية" تساهم في ضبط ردود الفعل السياسية و الإعلامية إزاء الأحداث و الأشخاص أو ما أسماه محمد الساسي ب "التوجيه الرسمي العام" . كيف أصر الشباب على التدخل فيما يعنيه واستطاع بالتالي الصمود في وجه إستراتيجية التشكيك و التمييع و القمع و الإدماج ؟ لنتابع بعضا من هذا الصمود : 1- الوضوح و الشفافية المالية: في مقابل التشويه و التشكيك اتخذ الشباب موقفا حذرا و يقضا إزاء مسألة المال و التمويل، فحرصوا، كل الحرص، على الوضوح و الشفافية المالية، و شاهدنا كيف كانت تقرأ التقارير المالية، بالتفصيل، في الجموع العامة، دفعا لكل التباس قد يحيط هذا الأمر الهام و "الإستراتيجي" بخصوص مصداقية أي نشاط سياسي، مهما كانت طبيعته، فالسياسة اشتغال على الرأي العام، و معروف أن كسب هذا الأخير لن يتم دون وضوح سياسي و تنظيمي، بل و مالي أيضا. 2 - التميز و التبات على الموقف: في مقابل التعويم و التمييع حاول الشباب التميز و التبات على الموقف، و هكذا فأمام الخلط و العموميات بخصوص الموقف من اللحظة السياسية إلى درجة أننا شاهدنا اختفاء مطلقا، بالبلد، لأي خطاب لا يتغنى ب "التغيير الديمقراطي القادم ". قلت أمام هذا النوع من التمييع، لا حظنا كيف أن مواقف شباب " 20 فبراير" تميزت بخطاب مباشر و صريح، يقف عند التفاصيل حيث تكمن "الشياطين"، عندها اشتد الاصطفاف، وظهر الفرق بين الأقوال والأفعال، وبرزت المسافة بين اتخاذ الموقف و التبات عليه. 3 - الوحدة والصمود الميداني: في مقابل القمع والاستنزاف لم يجد الشباب أمامهم سوى الوحدة في النضال والصمود في الميدان، لقد استطاعوا تذويب خلافاتهم وحافظوا على سلمية احتجاجاتهم، فلم يلاحظ أية ردود عنيفة من طرف الشباب "الفبرايري" على التدخلات الأمنية والحملات البلطجية، بل على العكس من ذلك، لقد تميزوا بإبداعات نضالية حضارية، من حملة تنظيف الأحياء إلى حملة التبرع بالدم مرورا بتوزيع الورود على رجال الأمن، بالإضافة إلى القيام بحفلات موسيقية تدعو إلى رفض الفساد والاستبداد. لقد امتلكوا "حسا حقوقيا" مكنهم من ربط الحق بالواجب من جهة، وفضح التجاوزات الحقوقية للنظام أمام الرأي العام المحلي و الدولي من جهة أخرى. 4 - الحرية و استقلالية الرأي: في مقابل إستراتيجية التنميط و "الإدماج"، بمعناه السالف الذكر، حافظ الشباب على حرية التفكير و استقلالية الرأي، ولذلك فقد استطاعوا تجاوز الخطابات التي تحاول رسم "الخطوط الحمراء" السياسية، و تشبثوا بمطالبهم المطروحة في الساحة العمومية، رافضين كل تأجيل للديمقراطية أو مصادرة حقهم في طرح الأسئلة الأساسية التي تواجه النظام السياسي السائد، باعتباره نظاما مازالت تفصله أشواط كبيرة عن قيم العصر، بالرغم من كل المحاولات التجميلية التي لا تصمد أمام الوقائع المرة على الأرض. و أخيرا.. المعركة مستمرة .. و الصمود كذلك...