بسم الله الرحمن الرحيم لا يفوت المراقبَ الموضوعيَّ المهتمَّ بالشأن السياسي في المغرب أن يلاحظ أن معظم الخروقات القانونية والحقوقيةَ والبوليسية في السنوات الأخيرة، وخاصة منذ تفجيرات الدارالبيضاء الإجرامية في ماي 2003، إنما كانت في حق مواطنين يتبنّوْن المرجعية الإسلامية في أفكارهم واجتهاداتهم واختياراتهم وسلوكاتهم، وكذلك في ممارساتهم الحياتية اليومية. وأنبه القارئ الكريم أنني حينما أقول "يتبنون المرجعية الإسلامية"، فإنني لا أقصد أنهم على رأي واحد، وينتسبون لتيار واحد، ويذهبون مذهبا واحدا في النظر والفكر والاجتهاد، وإنما أقصد أنهم، على اختلاف آرائهم، وتعدد مشاربهم، وتباين اختياراتهم، فإنهم مُصنَّفون في دائرة "الحركة الإسلامية" حسب المفهوم الاصطلاحي الشائع اليومَ لهذه الحركة. مثلا، لا يمكن لأيّ مهتم له إلمام متوسط بمكوّنات الحركة الإسلامية الحديثة في المغرب، أن يخلط بين توجه السيد المغراوي(محمد بن عبد الرحمن) "السلفي"(بين قوسين)، المُعْرِض عن العمل السياسي، وبين مذهب من اشتهروا في الصحافة بشيوخ "السلفية الجهادية"-فرج الله كربتهم وأعْتقهم من الظلم الواقع عليهم وعلى ذويهم- بعد أحداث الدارالبيضاء الإجرامية"، المُتسمِ بالتشددِ في الأصول والعقائد، والعنفِ في النقد والرأي والخطاب، وبين طريقِ السيد المرواني أو السيد المعتصم-وهما من الخمسة المظلومين ظلما واضحا فاضحا في ملف ما عُرف بقضية "بلعيرج"، ربَط الله على قلوبهم جميعا، ويسّر سراحهم في أقرب الآجال- المتميِّز بالحركية السياسية الديمقراطية، وبين منهاجِ جماعة العدل والإحسان الفريد في توجهه التربوي واجتهاده السياسي، وبين اختيارِ حركة التوحيد والإصلاح وواجهتِها السياسية "حزب العدالة والتنمية" طريقَ المشاركة والإصلاح من داخل المؤسسات. فهؤلاء الذين مثّلت بهم ينتمون، عند التصنيف العام، إلى التيار الإسلامي، على الرغم من الفروق والاختلافات الموجودة بينهم، والتي تصل في بعض الحالات إلى حد التناقض والتنافر. قلت لا يفوت المتابعَ الملاحظ الموضوعيّ أن يسجل أن الظلم الواقعَ من الدولة المخزنية، في السنوات السبع الأخيرة، هو في معظمه، واقعٌ على المواطنين من أصحاب المرجعية الإسلامية، سواء أكانوا مشاركين في اللعبة المخزنية أم غير مشاركين، وسواء أكانوا مؤيدين لشرعية النظام أم معارضين. إنه ظلم صريح في حق مواطنين لم يكن لهم من ذنب سوى أنهم عبروا عن آراء واختاروا اختيارات لم ترض عنها الدولة، فكان أن واجهتهم هذه الدولةُ بالعنف والقمع والحصار والمحاكمات الظالمة والأحكام القاسية اللاقانونية بدل أن تواجههم بالفكر والحجة والبيان. وإن الدولة التي ليس لها لمعارضيها إلا المنعُ والقمع والسجن لهي دولة ضعيفة مهما نفخ فيها النافخون، وأشاد بها المدّاحون الكذّابون المنافقون. إن الدولة الظالمةَ ساقطة، عاجلا أم آجلا، لأنها تحمل في ذاتها عوامل اضمحلالها وزوالها؛ والظلم مؤذن بخراب العمران، كما كتب بحقّ العلامة عبد الرحمن بن خلدون، رحمه الله. بل إن ابن خلدون، في الحقيقة، لم يزد على أن صاغ، بعبارة العالم المؤرخ، حُكما مقررا في كثير من آيات القرآن الكريم وأحاديث السنة النبوية الصحيحة؛ من ذلك قول الله، عز وجل، في سورة "الحج": (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ). ومن الحديث الصحيح أن النبيَّ، صلى الله عليه وسلم، قال: ((إنَّ الله ليملِي للظالم حتى إذا أخَذَه لم يُفلِته)، ثم قرأ: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)[من سورةهود)). ولْنُلقِ الآن نظرة سريعة على بعض الأمثلة البارزة في السنوات السبع الماضية، أي بعد أحداث تفجيرات الدارالبيضاء الإجرامية في 16 ماي 2003. (1) بعد انفجارات الدارالبيضاء الإجرامية في 16 ماي2003، اشتد سعار المخزن، وتحركت أذرعته القمعية تضرب في كل الاتجاهات، بسبب معقول وبغير سبب، وبسند قانوني وبغير قانون، فكان حصادُ هذه التحركات انتهاكاتٍ للحقوق جسيمة وواسعة، ومحاكماتٍ مفبركة وسريعة أسفرت عن صدور أحكام ظالمة وقاسية في حق بعض المتهمين الذين لم يكن لهم، من قريب أو بعيد، يدٌ فيما حصل، كالسيدين أبي حفص(محمد عبد الوهاب رفيقي) وحسن الكتاني، ومتهَمِين لم يكن له ذنب إلا أن لهم آراء لم يكن الجهاز المخزني عنها راضيا، ومتهَمِين وجدتهم الحملةُ الغاشمة في طريقها، فجرفتهم إلى السجن. وقد اعترف مسؤولون من مستوى عال في الدولة المخزنية بما شاب هذه القضية من خروقات ومظالم، لكن هذا الاعتراف بقي كلاما بغير إجراءات فعلية ملموسة تصحح الأخطاء وتنصف المظلومين. وقد كانت هناك نداءات كثيرة، ومن جهات متعددة، سياسية وحقوقية وفكرية، من أجل إرجاع الأمور إلى مسارها الصحيح في هذا الملف، لكنها لم تجد لدى المخزن أذنا واعية وإرادة مجيبة. ومع هذه النداءات، كانت هناك مبادراتٌ من أجل فتح حوارات مع من عُرفوا في الصحافة باسم "شيوخ السلفية" في السجن، لكن من غير جدوى. وكانت هناك أيضا رسائل وإشارات ومبادرات من السجناء المظلومين أنفسهم، كمبادرة "أنصفونا"، التي تزعمها أبو حفص(محمد عبد الوهاب رفيقي)، لكن، لحد الآن، لم يَظهر من المخزن ما يفهم منه أن هناك، أصلا، نيةً لدى من يعنيهم الأمر من أجل إنصاف المظلومين وتصحيح أخطاء الجهازين البوليسي والقضائي الجسيمة. (2) في شهر فبراير من سنة2008، أعلنت وزارة الداخلية، القوةُ الضاربة للدولة المخزنية، كانت وما تزال، أنها نجحت في تفكيك شبكة إرهابية بزعامة عبد القادر بلعيرج المغربي الحامل للجنسية البلجيكية. والمفاجأة كانت أن من المتهَمِين المعتقلين في هذه القضية ظهرت أسماءُ ستة من النشطاء المعروفين في الساحة السياسية، وهم السادة مصطفى المعتصم وأمين الركالة القياديان في حزب البديل الحضاري، ومحمد المرواني وعبد الحفيظ السريتي، من حزب الأمة الذي لم ينل الترخيص القانوني بسبب المنع المخزني الظالم، وقد كان السيد السريتي، قبل اعتقاله، مراسلا لقناة المنار اللبنانية في المغرب، والسيد لعبادلة ماء العينين العضو في المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية، وحميد نجيبي من الحزب الاشتراكي الموحد. وبعد جلسات وجلسات، عانى فيها السجناء المظلومون وذووهم الأمرّين، صدرت الأحكامُ القاسية، في يوليوز2009، في حق الستة الذين لم يستطع الادعاء أن يقدم ولو دليلا حقيقيا معتَبَرا واحدا على التهم الموجهة إليهم، بل كانت المحاضرُ المزورة هي الركيزة الأساس التي اعتمدت عليها المحكمة في أحكامها الظالمة المفضوحة: 25 سنة في حق السادة مصطفى المعتصم ومحمد أمين الركالة ومحمد المرواني، و20 سنة في حق السيدين عبد الحفيظ السريتي والعبادلة ماء العينين، وسنتان في حق السيد حميد نجيبي. وقد استأنف الرجال الستة هذا الحكم، وخاضوا، همْ من داخل السجن، وعائلاتهم ومناصروهم ومحاموهم خارجه، أشكالا متعددة من النضالات والاحتجاجات، لإثارة الرأي العام إلى مظلوميتهم. وقد استطاعوا، بالفعل، أن يكسبوا إلى جانبهم شرائح واسعة من المناضلين والمفكرين والسياسيين وغيرهم من المهتمين بحقوق الإنسان. وقد راج أن هناك وعودا- طبعا على عادة الوعود في دولة المخزن- بإعادة النظر في هذه الأحكام من طريق محاكمة عادلة لا تشوبها ما شابت أختَها الابتدائية من خروقات وتجاوزات وتعسفات مكشوفة. وقد تفاجأ الجميع، في هذا الشهر، بالأحكام الصادرة عن محكمة الاستئناف، وخاصة في حق الرجال الخمسة، بعد أن أنهى السادس حميد نجيببي محكوميته، حيث ثم تخفيض الأحكام الابتدائية إلى عشر سنوات في حق المتهمين الخمسة. وقد كان هناك إجماع واسع على أن هذه الأحكام كانت سياسية لا علاقة لها بالقانون ولا بالعدالة، وأن المغرب قد فشل في امتحان الانتقال من مغرب الظلم والقمع والاستبداد والتعليمات إلى مغرب العدل والحريات والديمقراطية والمؤسسات المسؤولة. (3) في شهر غشت من سنة2008، تكلم السيد محمد بن عبد الرحمن المغراوي، رئيسُ جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة بمراكش، فيما يشبه الفتوى، بكلام كرّر فيه رأيا فقهيا معروفا ومشهورا في مدونات الفقه والسيرة، يُجوّز العَقدَ على بنت تسع سنين. وما هو إلا أن نُشر هذا الكلام، حتى قامت قيامة اللاإسلاميين الاستئصاليين، تُظاهرهم آلةُ المخزن الجبارة، فتم إصدارُ البيانات الشاجبة المُدينة، وفتحُ التحقيقات القضائية، وبدءُ إجراءات المنع والمحاصرة والتضييق، حتى وصل الأمرُ-وهذا هو بيت القصيد- إلى إغلاق العديد مما يُعرف في المغرب بدور القرآن، لا لشيء إلا لأن منها دورا يُشتبه في تبعيّتها للسيد المغراروي. لكن، ما علاقة ما أفتى به الرجل، إن جاز أن نَعد ما نشره في شأن جواز زواجِ بنت تسع سنين فتوى، بإغلاق جمعيات عملُها مقصور على تحفيظ القرآن وتعليم تجويده ونشر علومه؟ ما علاقة "سقوطِ الصومعة"، وهي هنا فتوى السيد المغراوي، ب"شنق الحجام"، وهو هنا "جمعيات تحفيظ القرآن" ونشر علومه وآدابه؟ وللتذكير، فإن السلطات المخزنية اعترفت بأنها أغلقت أربعة وخمسين(54) دارا للقرآن ما بين ماي2003 وشتنبر2008 بدعوى أنها مخالفة للقانون، لكن معظمَها تم غلقُه بعد نشر فتوى المغرواي وما تلا هذا النشرَ من تصريحات وبيانات وتحقيقات وتجريحات وتشهيرات وتحريضات. ويرى بعض المتتبعين المهتمين أن عدد الدور التي أغلقتها وزارة الداخلية، بعد فتوى السيد المغراوي، تجاوز الستين. وللتذكير أيضا، فإن غالبية الدور المغلقة تابعة لجمعيات مُؤسّسَة تأسيسا قانونيا، كانت تمارس أنشطتها على مرأى ومسمع من السلطات المخزنية، التي كانت تعرف عنها الشاذة والفاذة. بل إن هذه الجمعيات كانت تحظى بالقبول، لأنها كانت دائما مُؤيدَة لشرعية النظام المخزني، ومعبرَة في جميع المناسبات عن ولائها وطاعتها لولي الأمر. وقد صرح السيد المغراوي نفسُه بأن كثيرا من هذه الجمعيات التي شملها المنع المخزني لا علاقة لها به ولا بجمعيته المراكشية الأم، لا إداريا ولا ماليا. ماذا وقع؟ ولماذا كل هذه القيامة والجلبة وقعقعة السيوف والدُّعاء بالويل والثبور؟ رجلٌ حكى رأيا معروفا في الكتب، عند الأولين والآخرين، لأنه من الآراء الفقهية التي انبنت على أخبارٍ من السيرة النبوية صحيحة، فقامت الحربُ عليه، من مستويات متعددة، منها مستوى وزارة الداخلية، ومستوى وزارة العدل، ومستوى علماء المخزن يمثلهم المجلس العلمي الأعلى، فرموه بكل التهم، وجرّحوه وشنعوا عليه، ثم اهتبلوا الفرصةَ للانقضاض على جمعيات القرآن، هدفِهم الحقيقي، وكأن القوم كانوا ينتظرون "انهيار الصومعة، ليسارعوا إلى شنق الحجام"، كما في المثل المشهور. وما يهمني هنا ليس متعلقا بما قاله السيد المغراوي، لأن الرجل معروف أولا بأنه من خدّام المخزن الذين يحرصون حرصا شديدا على عدم تجاوز الحدود المرسومة لهم، وثانيا بأنه، في أقواله وآرائه وكتاباته، مقلد ومكرر وحاكٍ وناقل، بينه وبين الاجتهاد بمفهومه الاصطلاحي العلمي الشرعي ما بين السماء والأرض. ما يهمني هو ما ترتب على قول الرجل من منع لجمعيات كان كلُّ همّها منصبا على خدمة القرآن الكريم دستور المسلمين. لقد وجد اللادينيون، تُعاضدهم الدولةُ المخزنية بكل أجهزتها- وأجهزة وزارة الداخلية في المقدمة- الفرصةَ مواتية للانقضاض على جمعيات تحفيظ القرآن في مختلف مناطق المغرب، بدعوى أن لها علاقة بالمغراوي، وأنها تعمل خارج القانون، وخاصة القانون المنظم للتعليم العتيق. وما علاقة هذه الجمعيات بما قاله المغرواي؟ لا علاقة بينهما إلا عند المتربصين بكل مظاهر الإسلام، الذين ما يزالون يسعون، وفي كل المناسبات، لأسباب معقولة و غير معقولة، ولدواع مفضوحة وأخرى خفية لكنها مفهومة، لتجفيف منابع التربية الإسلامية التي تُربي النشء على قراءة القرآن، وسماع القرآن، وآداب القرآن، وأحكام القرآن، وسَمت القرآن، وأخلاق القرآن. ألم تنشأ هذه الجمعيات بتزكية من المخزن ورضاه؟ ألم تكن تنشط تحت عينيه لا يخفى منها شيء؟ فكيف أصبحت هذه الجمعيات المرضيُّ عنها أمْسِ تعمل اليومَ خارج القانون؟ وقد قام بعض الغيورين ممن وقع عليهم هذا الظلم، من القائمين على بعض هذه الجمعيات، التي تأسست تأسيسا قانونيا لا غبار عليه، والتي لم يكن يشوب أنشطتها أية شائبة مما ادعته وزارة الداخلية، فالتجأوا إلى القضاء لعلهم يجدون عنده عدلا وإنصافا، لكن بغير جدوى، إذ ما يزال الحكم النهائي معلقا، والجمعيات ممنوعة، ومقراتهُا مغلقة بقرارات إدارية غير قانونية، وأصبحت هذه القضية اليوم وكأنها لم تكن، بل وكأن جهة ما تعمل من أجل أن يسود السكوت في شأنها. (4) لم يكن لجماعة العدل والإحسان، منذ ظهر أمرُها لأول مرة بنشر رسالة "الإسلام أو الطوفان" سنة 1974، التي كتبها مرشد الجماعة الأستاذ عبد السلام ياسين إلى الملك الحسن الثاني، رحمه الله وغفر لنا وله، ينصحه ويبشره ويُنذره ويدعوه إلى الاقتداء بنموذج كبير في تاريخ ولاة المسلمين، هو نموذج عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه- قلت لم يكن للجماعة، منذ إعلان رسالة "الإسلام أو الطوفان"، عند الدولة المخزنية، في عهديها القديم والجديد، إلا القمعُ والمنع والحصار والمحاكمات السياسية وسائرُ ما هو معروف من أشكال الظلم والعسف والإرهاب والاعتداء على كرامة الإنسان وحرماته وسلب حقوقه وحرياته. فملفُ الانتهاكات والاعتداءات المخزنية في حق الجماعة ملف ثقيل وأسود، وما تزال الدولة تثقله وتُسَوِّده إلى اليوم. وما تزال الدولة المخزنية تتبع في حق الجماعة، ومنذ سنة2006 على الخصوص، سياسة يطبعها التشدد والمنع والقمع الممنهج، الذي يتخذ القانون ستارا للتمويه وإخفاء وجه الاستبداد البشع. وفي سياق هذه السياسة القمعية الممنهجة، عَمَدَت السلطاتُ المخزنية في مدينة فاس في يونيو2010 إلى اختطاف سبعة من قيادات الجماعة بالمدينة على طريقة أيام "عهد تازمامرت" الزاهر، حيث كان الأسلوبُ المتبع في الاختطاف والإهانة وترويع الأزواج والأبناء والعائلات جامعا لكل صفات الأسلوب البوليسي الذي كان شائعا في سنوات الرصاص. وقد صاحب هذه الاختطافاتِ خروقاتٌ قانونية فاضحة كشفها للرأي العام محامو المختطفين وكثيرٌ من الجمعيات الحقوقية، فضلا عن تورط الإعلام الرسمي، ممثلا في وكالة المغرب العربي للأنباء، وغير الرسمي ممثلا في منابر لا تخُفى عداوتَها المطلقة للإسلاميين بكل مشاربهم وتياراتهم وتوجهاتهم، حيث تم نشرُ الرواية الرسمية على أنها الحق الذي لا يرقى إليه شك. وبعد فروضِ الاستنطاق والترهيب والتعذيب وأخذِ الاعترافات بالإكراه وتلفيق المحاضر، ظهر المختطَفون في محكمة الاستئناف بفاس حينما تم تقديمهم إلى وكيل الدولة بتهمة الاختطاف والتعذيب ومحاولة القتل في حق محام يَدَّعِي أنه كان عضوا في الجماعة، لكنه حينما قدم استقالته لم تُقبل منه، وتم اختطافُه وحجزه وتعذيبه وتهديده والضغط عليه نفسيا من أجل العدول عن الاستقالة. وملامحُ الوَضْع والتلفيق في هذه القصة واضحة لا تخفى على من خبَرَ أساليب الجماعة في الدعوة والتنظيم، وأيضا من خَبَر أساليب المخزن في الإكراه والإرهاب والتلفيق والتزوير. أما الحقيقة، كما نشرتها الجماعةُ، فهي أن هذا المحامي المُشتكِي في الرواية الرسمية، كان جاسوسا يعمل لصالح أجهزة المخابرات، وقد تم طرده من الجماعة بعد افتضاح أمره، لكن الجهاز البوليسي المتنفذ في الدولة المخزنية لم يتحمل هذا الفشل، فقام بتلفيق هذه القصة العجيبة الغريبة، وجعلَ بطلَها المحاميَ المطرود. وقد تزال القضية اليوم في الطور الأول من التحقيقات القضائية، ويظهر أن النيةَ المخزنية مُبيَّتة لشغل الجماعة بجلسات ماراتونية قد تطول، وقد تقصر حسب الخطة المخزنية المرسومة، وذلك أساسا من أجل استنزاف جهود الجماعة وزيادة الضغط عليها لتخضع لإرادة الدولة المستبدة كما خضع الآخرون. وقد بيّنت في مقالة "ماذا يريد المخزن من جماعة العدل والإحسان؟" من هم هؤلاء الآخرون. ظلمٌ واضح وصريح، في واضحة النهار، بلا قناع ولا لف ولا دوران، وهذا ما يعني أنْ ليس هناك في دولة المخزن من يعتبر بالماضي، ولا من له رغبة أو إرادة أو نية، أصلا، لتجاوز فظاعات عهد تازمامرت الرهيب، وإعطاءِ المواطنين حقوقَهم المشروعة، ورفعِ الوصاية عن حرياتهم المُصادرة، وتركِهم يختارون بإرادة حرة ويُعبّرون من غير منع ولا قمع ولا استبداد. (5) في شهر يونيو 2010، انفجر النائبُ مصطفى الرميد، رئيسُ فريق حزب العدالة والتنمية في مجلس النواب، حينما أعلن عن نيته في الاستقالة نهائيا من البرلمان، وذكر من الأسباب التي دعته إلى اتخاذ هذا الموقفِ ما يعانيه النوابُ من حصار وتضييق في أداء واجبهم، وأيضا ما يعانيه البرلمان نفسُه من تهميش ومسّ بصلاحياته على الرغم من محدودية هذه الصلاحيات أصلا، وذلك ما يجعل البرلمانيَّ بمثابة ديكور في مسرحية مُتحكَّم في كل خيوطها. وقد رفض الأستاذ الرميد أن يلعب دور "الكومبارس" في هذه المهزلة. لم يأت انفجار الرميد من فراغ، وإنما ولّده الضغطُ المخزني المتواصل، الذي اكتوى بناره الأستاذ الرميد وغيرُه من البرلمانيين الذين كانت لدى بعضهم الجرأةُ لفضح اللعبة السياسية المخزنية بصوت مسموع. حزب العدالة والتنمية، مثلُه مثلُ سائر الأحزاب المشاركة في اللعبة السياسية المخزنية، حزبٌ مجتهد في احترام القواعد المفروضة على المشاركين، ولا يزال يغتنم كل مناسبة، صغيرة كانت أم كبيرة، للتعبير عن ولائه للنظام المخزني، وإعلان استعداده المطلق لخدمة دولة "أمير المؤمنين". ومع كل هذا الولاء اللامشروط الذي يعبر عنه الحزب، ومن ورائه حركةُ التوحيد والإصلاح، فإنه ما يزال يتعرض للمضايقات، بل ما يزال تحت المراقبة المخزنية الدقيقة، وذلك من أجل أن يلعبَ الدور المنوط يه في اللعبة كاملا لا تشوبه شائبة يمكن أن تفسد على المخزن خططَه وتعرقل تطبيقَ سياساتِه المرسومةَ في دوائر ودهاليزَ لا علاقة بالانتخابات، ولا بالأحزاب وبرامج الأحزاب، ولا بصراخ البرلمانيين وتهارشهم في البرلمان. وقد ظهر في أكثرَ من مناسبة أن الدولة المخزنية ترفض رفضا قاطعا أن يكون لحزب العدالة والتنمية مصداقية "إسلامية" في أرض الواقع، مع جمهور الناس، وفي أوساط المواطنين المسلمين. كما ترفض أن يكون لأي حزب مصداقية وشعبية وقوة يمكن أن تؤدي إلى تحدي الدولة ومغالبتها والوقوف في وجهها وقوف الند للند. ومما يُؤسَف له أن حزب العدالة والتنمية، وفي مناسبات كثيرة، ظهر منه هو أيضا أنه مطاوع لرغبات المخزن، لا يعترض ولا يحتج ولا يعصي أمرا. فقد طلبت منه الدولة أمورا ما كان لحزب حرّ أن يقبل بها، لكنه قبِل. ووبخته في مناسبات، وببيانات مكتوبة من وزارة الداخلية في بعض الأحيان، فلم ينتفض ويحتج كما يجب، وإن هو فعَل ذلك مرة، فبهدوء ثم يسكت وينسى. وما تزال إهاناتُ الدولة تصيبه من كل الاتجاهات، ومع ذلك، فهو مُصرّ على البقاء مشاركا في اللعبة. من أجل ماذا هذا الإصرار؟ وأيُّ شيء يتبقى من مصداقية الحزب الإسلاميةِ إن هو بقي خاضعا ساكتا على صورة ما نرى ونسمع؟ هذا مع العلم أن هناك أفرادا في قيادة الحزب يعرفون أن الدولة، بعد أن أدركت بهم مبتغاها، تسعى الآن إلى إضعافهم وتهميشهم. ومن الإضعاف سلبُ الحزب ما تبقى من مصداقيته، حتى يرى الناس أنه لا فرق بينه وبين الآخرين الحريصين على مصالحهم الحزبية الضيقة، ليس تهمهم المصلحة العامة إلا بمقدار ما تدرّ عليهم من منافع خاصة. لقد انفجر الأستاذ الرميد احتجاجا على اللعبة وما يتعلق بها من ممارسات مخزنية تسعى ليبقى النائب المنتخبُ خاضعا لإرادتها، منفذا بالحرف ما هو مرسوم له من دور لا يتجاوزه قيد أنملة. والويل ثم الويل لمن يتجرأ على الخروج على ما هو محدَّد له. لم يدُم تهديدُ الأستاذ الرميد بالاستقالة أكثر من أربع وعشرين ساعة، ثم جاء إلى ندوة صحفية ليعلن تراجعه عما هدد به، وذلك، حسب تعليله، لأن إخوانه في الأمانة العامة للحزب، وفي الفريق البرلماني، رفضوا أن يستقيل. لكن الغريب في هذه القضية أن الدولة بكل ثقلها تقريبا تعبأت للطعن على النائب الذي هدد بالاستقالة ولم يفعلْ، والتشنيع عليه وكأنه ارتكب جرما لا يغتفر حينما سولت له نفسه أن ينتقد اللعبة المخزنية، وأن يعلن رغبته في الخروج منها، لأنه لم يرض لنفسه أن يظل ديكورا في واجهة مصنوعة لتغطية ما وراءها من عقلية مستبدة لا تقبل بالآخرين إلا أن يكونوا لها خاضعين، ولأعتابها خادمين. فقد صدر بيانان منفصلان أحدهما لمكتب مجلس النواب، والثاني لمكتب مجلس المستشارين، ينتقدان نقدا لاذعا ما أقدم عليه الأستاذ الرميد من تهديد بالاستقالة من مجلس النواب، ويصفان ما قام به بأنه مسٌّ بالمؤسسات، واستغلالٌ لقدسيتها في معارك سياسية خاصة، ودعوةٌ إلى اليأس والتشكيك في العملية الديقراطية برمتها. وقد اتسم البيانان بلغةٍ كلُّها اتهام وإدانة، تشي بأن المخزن لا يقبل ممن قبِل المشاركة في لعبته أن يغادرها بمحض إرادته. وقد سبق بيانيْ مكتبيْ مجلسيْ النواب والمستشارين بيانٌ ثالثٌ وقعته أربع وزارات، الداخلية أمُّ الوزارات، والتعليم والصحة والاتصال. ولم يكتفوا بهذا، بل وجدنا وزير الداخلية في جلسة برلمانية للأسئلة الشفوية، في أثناء رده على سؤال من حزب العدالة والتنمية، يرفض التشكيك في عمل الأجهزة الأمنية، ويخاطب النواب بنبرة مخزنية، وكأن لسان حاله يقول: إن الدولة المخزنية لا تقبل من خدامها وأعوانها إلا أن يكونوا مُصدِّقين لسياساتها، مُسلِّمين لها القيادَ في كل شيء، وإلا فإن غضبها وسخطها سيحلان بكل من يفكر في التمرد على قواعدها واللعبِ خارج ملعبها. الدولة كلها تقريبا في مواجهة رجل هدّد بشيء ولم يفعلْ. الدولة كلها في مواجهة رجل فضحَ وجها من أوجه الاستبداد، وتكلمَ بكلام واضح عن التضييق والمحاصرة والإهانات التي يلقاها النواب أثناء مزاولة مهامهم بما هم ممثلون للشعب، ورَفَضَ أن يلعب النوابُ دور "الكومبارس"، لا يفعلون ولا يتركون إلا في إطار ما تسمح به الدولة، التي تستغل البرلمان وغيرَه من مؤسسات الواجهة لتكريس واقع الجبر والتعليمات. (6) الخيطُ الجامع بين هذه الأمثلة التي سردتها في الفقرات السابقة هو اليد المخزنية الظالمة، التي لا تفرق بين خاضع لإرادتها مشاركٍ في لعبتها، وبين معارضٍ لها رافض للعبتها من ألفها إلى يائها. ثم هناك المرجعية الإسلامية التي تجمع بين الجهات التي وقع عليها الظلم المخزني، رغم ما بين هذه الجهات من اختلافات في التصور والتوجه والاجتهاد، لأن منها جهاتٍ اختارت العمل تحت عباءة المخزن، ومنها من لا يعترف أصلا بشرعية الدولة المخزنية. فمفهومٌ أن يقع ظلمُ الدولة المخزنية على الجهات العاصية الرافضة. لكن كيف نفهم أن الظلم المخزني يشمل أيضا من هم خاضعون لها، لاعبون في ملعبه ووفق قواعده؟ أولا، الظلم في جنسه هو واحد، لكنه، من حيث نوعُه ودرجته وحجمه وقوته، أنواع وأشكال، ولذلك فطبيعي أن يكون الظلم الواقع، مثلا، على سلفيّة السيد المغراوي الخاضعةِ المسالمةِ المُسلِّمَة هو غيرُ الظلم الواقع على سَلفيّة السيد محمد الفيزازي و السيد محمد الحدوشي المتشددةِ الجامحةِ. وكذلك، لا يمكن أن نُسوي بين درجة الظلم المخزني الواقع على جماعة العدل والإحسان المعارضة، وبين درجة الظلم الواقع على حزب العدالة والتنمية الغارقِ في اللعبة المخزنية حتى أذنيه. إذن، الظلم واحد في أصله، لكنه، في الممارسة، درجات ومستويات. ثانيا: الهدفُ الرئيس من وراء الظلم المخزني، سواء أكان هذا الظلمُ في صورة قمع ومنع وحصار، أم كان في صورة محاكمات سياسية وأحكام سجنية قاسية، أم كان في صورة تضييقات وإهانات وتأديبات وتوبيخات، هو "المرجعية الإسلامية"؛ فليس ما يعانيه حزبُ العدالة والتنمية اليومَ من تضييقات وحملات إعلامية في منابر معروفة بتوجهاتها الاستئصالية إلا بسبب تشبثه بالمرجعية الإسلامية ولو في مستوى الكلام، لأن الحزب لا يستطيع أن يفعل شيئا البتة في الواقع، لأن السلطة ليست بيد المنتخبين، وإنما هي بيد المخزن الذي لا يُنتخَب ولا يُراقَب ولا يحاسَب. فليس للحزب من مرجعيته الإسلامية، في مواجهة خصومه ومنتقديه، إلا الخطابُ، وإلا الاحتجاجُ بالكلام على بعض المظاهر الماسّة بالإسلام وآدابه وأخلاقه، ومع ذلك فهو مُتابَع ومراقَب ومغضوب عليه حتى يتركَ هذا الخطابَ ويذوبَ في "جماعة" المخزن، بلا لون ولا طعم ولا تميّز. وقد قطع المخزنُ شوطا لا بأس به في إخضاع الحزب، وإبعادِه كثيرا عن خطابه الأول الذي دشّن به دخوله إلى اللعبة السياسية. ولن يرضى المخزنُ عن الحزب حتى يترك نهائيا الربطَ بين السياسة والدين، وهذا هو الأساس الذي يجعل الدولة المخزنية لا تعترف بوجود حزب إسلامي في المغرب. الصحوةُ الإسلامية، بجميع صورها، وبكل تياراتها واجتهاداتها، وبمختلف أشكالها التنظيمية، الرفيقةِ والعنيفة، المواليةِ والمعارضة، المعسِّرة والميسِّرة، هي المقصودةُ بسياسات المخزن القمعية الظالمة. المقصودُ بالمنع والقمع والحصار والسياسات الجائرة هو التيار الإسلامي العام، الداعي إلى الرجوع إلى القرآن والسنة الشريفة، وصبغِ المجتمع في كلّ مظاهره ومناشطه بروح الإسلام وآدابه وأحكامه وأخلاقه. وأريد في ختام هذه المقالة أن أثير الانتباه إلى أمرين اثنين: الأول يتعلق بقانون الإرهاب الذي صادق عليه البرلمان مباشرة بعد انفجارات الدارالبيضاء الإجرامية، وبسرعة عجيبة غريبة تفرض على المُتتبِّع أن يطرح بشأنها أكثرَ من سؤال. بل حتى حزب العدالة والتنمية الذي كان معارضا للقانون قبل أحداث16 ماي2003، أصبح من الراضين عنه والمصوتين عليه بعد الأحداث خوفا أن يُسلَك في المغضوب عليهم، وتحل به لعنةُ الدولة المخزنية. والذين حوكموا بهذا القانون إلى اليوم هم، في معظمهم، إن لم نقل كلهم، ممن ينتسبون إلى المرجعية الإسلامية، بغض النظر عن حقيقة هذا الانتساب ومستواه ومصداقيته الإيمانية والعملية. الأمر الثاني الذي أريد أن أثير إليه الانتباه في خاتمة هذا المقال يتعلق بما عُرف في الخطاب الرسمي بسياسة تأهيل الحقل الديني في البلاد، التي وَجَدَت في أحداث 16 ماي2003 التربة الخصبة المناسبة لتفرض نفسها فرضا، وتُطبّقَ من غير أن تلاقيَ أيَّ اعتراض، بل وجدنا "الإسلاميين"(بين قوسين) المشاركين في اللعبة المخزنية هم أول من زكّى هذه السياسة وهتف لها، وما يزالون يهتفون ويمدحون. ويمكن تتبع أبرز خيوط هذه السياسة في خطابات الملك في 30 أبريل 2004، و8 يوليوز2005، و27 شتنبر 2008. وأنا أعتقد أن سياسة تأهيل الحقل الديني هاته، إن كانت تمتاز بشيء، فإنها تمتاز بأنها كرّست الاستبداد الديني إلى جانب أخيه الاستبداد السياسي. ويتجلى هذا الاستبدادُ الديني في مسألتين اثنتين على الأقل، وأنا هنا أتكلم كلاما عاما يروم الإجمال ويتفادى الدخول في التفصيلات والتحليلات والتعليلات: المسألة الأولى هي أن الملك، بموجب هذه السياسة الدينية الاستبدادية، أصبح هو وحده الذي يجمع بين السياسة والدين. وليس لأحد غيره أن يربط الدين بالسياسة، أو السياسة بالدين؛ فالمجالان، الدينيُّ والسياسيّ، منفصلان إلا لدى الملك، أميرِ المؤمنين، فهما متلاقيان مجتمعان. أي أن الملك هو وحده الذي يجوز له أن يتحدث في الدين والسياسة معا، أما خارج المؤسسة الملكية، فالناس إما سياسيون، طبعا على طريقة المخزن في فهم السياسة وممارستها، وإما "دينيّون"، أي مشتغلون بأمور الدين، وهم العلماء الرسميون التابعون للدولة، أو المستقلون المأمورون، بطريقة أو بأخرى، باتباع السياسة الرسمية في المجال الديني، وهي السياسة التي يرسمها "أميرُ المؤمنين". على الجميع أن يلتزم بسياسة الدولة الدينية: لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة، والملك، "أمير المؤمنين"، هو وحده الذي يجوز له أن يجمع بين الاثنين!!! وهذا من أغرب ما وصل إليه الاجتهاد المخزني في العهد الجديد. وهل يستطيع أحدٌ من العلماء التابعين للدولة أن ينتقد أو يعترض أو يناقش أو يشكك؟ وهل تكلم "الإسلاميون" المؤيدون المشاركون المُبايعون، ولو بكلمة، في الموضوع؟ أمْ أن الأمر أكبرُ منهم، ومن ثم فهو لا يعنيهم؟ المسألة الثانية تتجلّى في إبعاد العلماء عن الشأن العام، وعن السياسة بصفة خاصة، وهذه سياسةٌ قديمة من وضع الحسن الثاني، رحمه الله وغفر لنا وله. لكن وجهَ التجديد في هذه السياسة أن أصحاب القرار اليومَ أضافوا إليها احتكارَ الفتوى وحصرَها في هيئة تابعةٍ للدولة تأتمر بأمرها، ولا تتحرك إلا بإشارتها. فأمورُ رعايا "أمير المؤمنين" لا يُفتي فيها إلا هيئة الإفتاء التابعة للدولة، ومن ثم، فإن كل من تجرأ على الفتوى خارج هذا الإطار، فإنه سيصيبه ما أصاب العالمَ الجليل الدكتور يوسف القرضاوي حينما أفتى الناس في موضوع القروض البنكية من أجل السكن. فقد أصدرت الدولةُ ممثلة في المجلس العلمي الأعلى بيانا انتقدت فيه، وبلغة لا علاقة لها بالعلم والعلماء، عملَ الشيخ القرضاوي، ووصفته بالتطاول على خصوصية المغاربة في مجال العلم والفتوى، وبأنه تطفّلٌ مرفوض في بلاد على رأسها "أمير المؤمنين". وكأن هذا البيان أراد أن يقول لجميع العلماء الذين لا يخضعون لإرادة الدولة أنه لا حرية لهم، ولا رأي، ولا فتوى، ولا قبول، حتى يكونوا تابعين لسياسة الدولة الدينية، ليس عندهم بإزاء ما يرسمه "أمير المؤمنين" إلا السمع والطاعة!!! وهل بعد هذا الاستبداد من استبداد؟ وها هنا خبرٌ ما يزال "طريّا"، يؤكد ما نحن بصدده بخصوص سياسة الاستبداد الديني للدولة المخزنية. فحوى هذا الخبر هو إعفاءُ الأستاذ رضوان بنشقرون، رئيسُ المجلس العلمي المحلي لعين الشق بالدارالبيضاء، والسببُ الحقيقي لهذا الإعفاء هو البيان الذي وقّعه السيد بنشقرون ينتقد فيه حضورَ المغني الشاذ إلتون جون في مهرجان موازين، في ماي الماضي بالرباط، وما يمثله هذا الحضور من قدوة سيئة للشباب المغربي المسلم، فضلا عن تبذير المال العام في مثل هذه الاستضافات التي لا يُرجى من ورائها نفع. ويمكن أن يضاف إلى هذا السبب مشاركةُ السيد بنشقرون في المؤتمر الثالث للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي يترأسه الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، والذي انعقد بمدينة إستنبول بتركيا في نهاية يونيو وبداية يوليوز2010. فهل بقي لعلماء الدولة من حرية بعد هذا الإعفاء؟ فهل للعلماء قدر وكرامة وعزة ومكانة لدى الدولة المخزنية؟ ماذا فعل السيد بنشقرون حتى يُبعدَ بهذه الطريق المهينة للعلم والعلماء؟ ومن اتخذ قرار إبعاده؟ وسيكون من السذاجة والهروبٍ من مواجهة الحقيقة أن نتوقف، في الجواب، عند وزير الأوقاف، أو عند رئيس المجلس العلمي الأعلى، أو غيرهما من خدام الدولة المخزنية في الإدارة العليا. أسئلة كثيرة ستظل مطروحة على أولئك الذين ما يزالون يثقون بسياسات المخزن في المجال الديني، والذين لا يفتأون يشيدون بهذه السياسات بمناسبة وبغير مناسبة. وبعد، فإن الرسول، صلى الله عليه وسلم، يقول: "اتقوا دعوة المظلوم، فإنها تحمل على الغمام؛ يقول الله جل جلاله: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين". آمنت بالله وصدّقت رسول الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين. [email protected]