لسنا بصدد توصيف تعميمي للنظام السياسي المغربي، يرمي إلى بناء نموذج نظري لطبيعة هذا النظام. وإنما سنقصر النظر هنا على ناحية من نواحي اشتغاله، حيث تتفاعل ديناميتان تبدوان في الظاهر متعارضتين، لكنهما تشتغلان، في واقع الحال، في شكل مفارقة وظيفية: هما الاستبداد والتسلط من جهة، والقبول الطوعي والمذعن لهذا التسلط من قبل الرعايا من جهة ثانية. مما يطرح التساؤل عما يجعل هذه المفارقة وظيفية. وما جعل هذا التساؤل ملحا الآن، هو انبثاق حركة شباب عشرين فبراير التي استطاعت، إلى هذا الحد أو ذاك، أن تعيد النظر في بداهة الطابع الوظيفي لمفارقة التسلط السافر والقبول المذعن، من خلال جرأة وجماهيرية احتجاجاتها ومن خلال جذرية شعاراتها. فما الذي يجعل تلك الوحدة التناقضية للاستبداد المشروع تعيد إنتاج نفسها باستمرار؟ وإلى أي حد ستستطيع الدينامية الاحتجاجية التي أطلقتها حركة 20 فبراير أن تحدث شرخا في تلك الوحدة؟ إذا ترجلنا عن مطية الدراسة الموضوعانية[1]، ومشينا في دروب المعيش اليومي لأغلب المغاربة، من موقع التجربة والمعاناة الذاتيتين، فإننا نلج مشهدا يزكم فيه هواء التسلط الخانق كل المسام. نرمق التسلط في نظرة "المقدم" المتهمة على الدوام لساكنة الحي والمرتابة في حركاتهم وسكناتهم، ونسمعه في نبرة صيحات الموظفين الناهرة والمهينة لمرتادي المرافق الإدارية العمومية، بل حتى مرافق الخدمات الخاصة. وترهب له قلوبنا في طقوس القداسة وتقبيل اليد، ونذعن لقدريته، التي تبدو مطلقة، في قرارات الفرد الواحد. هواء الاستبداد خانق رغم أنه مختلط بروائح البخور في ليالي الذكر، وبالروائح الجذابة للسلع المستوردة في الواجهات التجارية الكبرى، أو حتى بروائح آباط الراقصين في حظائر مهرجان موازين. قلنا أن هواء الاستبداد خانق، بيد أنه مقيم، تتنفسه صدور الناس بشكل "طبيعي"، وكأنهم كائنات طورت ميزات جينية جعلتها قادرة على التكيف والعيش في بيئة تفتقر لأكسجين الحرية. يمكننا القول، بعبارة أخرى، أن غالبية المغاربة التي يمارس عليها الاستبداد، بمختلف أشكاله ومستوياته، تقبله وتباركه بل تدافع عنه. فما الذي يجعل الإنسان، إذن، يقبل السوط الذي يجلد ظهره، بل ويلمعه ويحرص على صيانته؟ إذا خرجنا، آسفين، من ضباب الاستعارة الجميل، نستطيع أن نفترض، أن النسق الاجتماعي- السياسي المغربي يعيد إنتاج نفسه، بما هو نسق تسلطي تحكمه الإرادة المطلقة للفرد الواحد ومن بعده الطغمة المحيطة بفلكه، من خلال مجموعة من الإواليات الوظيفية، التي تشتغل على مستوى العلاقات الاجتماعية، وعلى مستوى نمط الإنتاج الاقتصادي، كما على مستوى القيم الثقافية الجمعية، ولكن أيضا على مستوى السيكولوجيا الفردية. ويمثل الخوف، في نظرنا، إحدى الإواليات المركبة التي تساهم في إعادة إنتاج ذلك النسق، على الرغم من جميع الاختلالات الصارخة بل الأزمات العميقة التي يعيشها، إذ أن الخوف يشكل عائقا أمام انبثاق أي دينامية جماهيرية حقيقية تنحو صوب التغيير الجذري لواقع التسلط. وليس المقصود هنا الخوف الطبيعي والبسيط من موضوع واقعي مخيف، كما لا نعني الخوف المرضي من موضوع مستهام. وإنما هو خوف أكثر تعقيدا من هذا ومن ذاك. سوف نحاول تتبع بعض أشكاله وتجلياته، على مستوى تمثلات الرعايا ومعيشهم، علنا نستطيع، في موضع آخر، تسميته ومفهمته: 1. "جوع كلبك يتبعك"، "اللهم العمش ولا العمى"...: نفترض أن الإضفاء المتزايد لطابع الهشاشة على ظروف عيش غالبية الساكنة، من البائع المتجول إلى عضو "الطبقة الوسطى"، لا تحكمه فقط محددات التوازنات الاقتصادية، وإنما تثوي وراءه خلفية تعميق إحساس الرعايا بالعجز عن التحكم في المصير، وبفقدان الثقة في إمكانيات الذات وقدرتها على صنع مستقبلها، وبالتالي تشبثها بأي "مكسب" حاضر ولو كان هزيلا، وخوفها، بل رعبها المستمر مما يخبؤه المستقبل، ومن الكارثة المحدقة بها في أي وقت (يتجلى هذا الخوف في معتقدات التطيرsuperstition المسيطرة على التمثل واللغة اليوميين"إلا تهرس الكاس دا الباس ما عرفناه آشنو لقى علينا من مصيبة")، واعترافها بأفضال ولي النعمة الذي يسخر لها الاستمرار في العيش، ويدفع عنها وقوع الكارثة، أكان هذا الولي لدنيا (الله، الأضرحة...) أو دنيويا- لكنه متلفع برداء اللدنية هو الآخر- (الحاكم ووسطاؤه). فالبائع المتجول الذي يكسب قوت يومه من تجارته الصغيرة غير المنظمة يخاف أن يفقد مصدر عيشه إن تبدل الوضع الحاضر، والعامل المشتغل بعقد محدد الأجل يخاف أن يفقد عمله، وعضو الطبقة الوسطى يخاف أن تصادر ممتلكاته الصغيرة من طرف البنوك الدائنة، كما يخاف أن تضيع جهوده في تدريس أبنائه من أجل الترقي الاجتماعي. 2. " لي عطاه العاطي ما يحرث ما يواطي"، "سيدنا راضي علينا"، " فلان سخط عليه سيدنا"...: تصف الكثير من الأدبيات النظرية والسياسية النظام الاقتصادي المغربي ب"اقتصاد الريع"[2]، بيد أن هذا التوصيف، في واقع الحال، لا ينطبق على المجال الاقتصادي فحسب، وإنما يتعلق الأمر بنمط من العلاقة متغلغل في جميع متسويات الحياة الاجتماعية والسياسية. إذ أن هذه الحياة مبنينة في شكل نسيج هرمي من العلاقات، قوامه الولاء والإذعان وانتظار النعم والهبات المادية والاعتبارية، كلما اتجهنا صوب الأسفل، والولاية والتسلط والعطاء كلما اتجهنا نحو الأعلى. إلا أن كل الفاعلين مشدودين في آخر المطاف إلى رأس الهرم، بما هو مركز توزيع النعم والنفوذ[3]. من في الأعلى يوزع البركة والعطايا والمناصب ومن في الأسفل يبقى أسيرا بشكل دائم لأمل أن يشمله رضا الولي، رغم الاحباطات المتكررة والخذلان الدائم بالنسبة لغالبية الرعايا[4]، فالكل مشروط بالخوف من أن يقصى من الشبكة أو أن يبتعد مسافة عن مركز العطاء. 3. "ثلاثة ما ثيقش فيهم: العافية والبحروالمخزن"، "لهلا يخطينا مخزن"، "لي خاف نجا"...: إن قوة العنف المادي السافر، وغير المبرر في كثير من الأحيان، الذي يمارسه النظام من خلال أجهزته البوليسية والقضائية والإدارية، دون ضمانات حقيقية لحماية الضحايا، هذه القوة تشل قدرة الرعية على التفكير في إمكانية رفضه أو مقاومته[5]. وحين تعجز الذات عن مقاومة العدوانية المطلقة للمتسلط بعدوانية أخرى مادية أو أدبية، ترتد هذه الأخيرة إلى الذات فتعمل في شكل عقدة ذنب تبخس الذات وترد إليها كل العيوب والأوزار التي أثارت عنف المتسلط. لكن هذه الذات لا تستطيع أن تتحمل كل هذا الثقل، فتنتقل إلى التوسل بإواليات دفاعية تحاول عبرها تأمين حد أدنى من التوازن الوجودي. أهمها إواليتي التماهي مع المتسلط والاسقاط على الآخر الشبيه. إذ يتحمل الرعية عنف المتسلط من خلال التماهي بأحكامه وقيمه وفي المقابل يسقط جميع العيوب على أشباهه من الرعايا[6]. وربما هذا ما يفسر ظاهرة البلطجية الكاسرين لمظاهرات حركة 20 فبراير أكثر مما يفسرها حصول هؤلاء على أجرة من السلطة.فبالنسبة للبلطجي يمثل أعضاء 20 فبراير الأشباه الغير جديرين بالثقة، والقمينة أعمالهم بأن تثير غضب المتسلط فتعم النقمة واللعنة على الجميع. 4. "غاديين نعودو لا حنا بمشية الغراب ولا احنا بمشية الحمامة"...: عندما ننقذف إلى الوجود نجد أمامنا نظاما قائما من الأشياء، يمارس علينا نوعا من العنف الرمزي(بالمعنى الذي بلوره بيير بورديو) ويجعلنا نعتقد أن هذا هو الترتيب الطبيعي للأشياء. نظام الأشياء هذا يشكل منظومة مرجعية تتقوم بمعلم ذو أبعاد محددة ومركز، ويشكل هذا المعلم وخاصة مركزه مرجعا للإسناد فيما يخص القيم التي تؤطر أفعالنا والمعنى الذي نعطيه لوجودنا. إن المغرب، لأسباب تاريخية وأيديولوجية، ونفسية...، قد تماهى مع الملكية المطلقة، إذ غدت تشكل مركز المنظومة المرجعية الوجودية للرعايا المغاربة. فإذا ما افترضنا حصول فعل التمرد لسبب أو لآخر(حركة 20 فبراير...) فهل يستطيع هذا الفعل تجاوز أو حتى بلوغ تخوم هذه المنظومة المرجعية؟[7] إن الأمر يتعلق بخطر فقدان المعالم التي تؤطر الوجود، والانقذاف في وضعية "الكاوس" حيث يغدو الإنسان حاملا لثقل واجب اتخاذ القرار الوجودي الاعتباطي نظرا لغياب منظومة مرجعية بديل، على الأقل في وعي الرعايا. 5. 5. " دير راسك بين الريوس وعيط آقطاع الروس"، "الناس مع الناس والقرع وحده"...: إن الانتماء إلى الجماعة[8]، واللوذ بدفء "النحن"، والفخر بالهوية الجماعية واستمداد العزاء منها، يجعل من الصعب ركوب خطر الانفراد عنها والمغامرة بتبن قيم ومثل جماعة أخرى[9]، مازالت معالمها ملتبسة، ولا شيء يضمن أنها ستكافئ أو تضاهي الجماعة الأصلية. 6. "كون ما كان سيدنا كون راه حنا كلينا بعضنا"....: إن دور الحامي والموحد والحكم والضامن لاستقرار الأمة ليس فقط صيغة مدونة في البنود الجوهرية في وثيقة الدستور، وليس فقط إرادة سياسية تسعى إلى إدامة الاستبداد، وإنما يتعلق الأمر بتمثل محفور في ذهنية الرعية. إنه الخوف المضخم من اندلاع الصراعات الطائفية والعرقية، هذا الخوف الذي يتغذى، بالإضافة إلى التضليل الأيديولوجي، من واقع التعدد الإثني في المجتمع المغربي من جهة، وواقع الاستقرار النسبي المبني على الاستبداد من جهة ثانية. لقد استطاعت حركة 20 فبراير، بمكوناتها الشبيبية الحالية، أن تكسر حاجز الخوف من هراوة القمع، في سياق الربيع العربي، ولكن هل ستستطيع أن تتجاوز عائق الخوف المحايث لأغوار الكيان الوجداني والذهني للرعية ، بأشكاله التي قاربناها أعلاه، لكي تتحول إلى حركة شعبية حاملة لمشعل التغيير الجذري للمجتمع المغربي، أو على الأقل لكي تحفز دينامية تبلور هكذا حركة؟ وإلى أي حد سيتحرر المغاربة من تشبتهم ب"مكاسب" زائفة أو هزيلة في أحسن الأحوال، مادام انخراطهم في سيرورة تغيير جذري رهين بإدراكهم لحقيقة أن ليس لديهم ما يخسرون غير أغلالهم؟ هل شعارات حركة عشرين 20 فبراير قادرة على رسم معالم منظومة بديلة تمنح معنا جديدا لوجود المغاربة؟ وإلى أي حد ستحفز هذه الشعارات ثورة ذهنية لدى الرعايا، ليصبحوا قادرين على استبطان مفهوم المواطنة؟ [1] Objectivisme الدراسة التي تغفل تمثلات الفاعلين واتجاهاتهم الوجدانية وتجربتهم الوجودية. [2] نظام اقتصادي لا يعتمد بشكل أساسي على الاستثمار المنتج والمنافسة الليبرالية، بقدر اعتماده على الاستفادة من النفوذ الإداري والسياسي من أجل مراكمة الرأسمال الذي يعاد توظيفه بشكل أساسي في قطاعات محتكرة ومحمية ومضمونة وسريعة الربح مثل المضاربات بشتى أنواعها. [3] الكثير من الدراسات ترجع تسمية المخزن إلى كون بيت المال وبالتالي السلطان، بما هو مالك البلاد والعباد، هو الممركز لثروات "الأمة" من خلال الجبايات والضرائب والمصادرات، وبالتالي هو الذي يعيد توزيعها وفق إرادته ومزاجه ووفق درجات الولاء. [4] نحيل على الدراسة الأصيلة لعبد الله حمودي التي ضمنها كتابه "الشيخ والمريد: النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة". [5] يجدر الانتباه مع ذلك إلى أن أشكال التمرد الرمزية أو المقنعة أو حتى اللاواعية غير منعدمة تماما، وهما ما يتجلى في النكتة التي تتناول المقدسات ( الله أو الملك أو الأعيان الكبار أو حتى النكتة التي تتاخم طابو مسألة الصحراء من خلال السخرية من أحد رموزها وهو الجماني. [6] طورت آنا فرويد في "الأنا والإواليات الدفاعية" أطروحة حول إوالية التماهي بالمعتدي من خلال اشتغالها على الباثولوجيا الطفولية. كما طور فرانز فانون في " جلد أسود وأقنعة بيضاء" أطروحة حول محاولة الزنوج التماهي بمضطهدهم الأبيض، بالإضافة إلى الدراسة القيمة التي قام بها مصطفى حجازي لسيكولوجية الإنسان المقهور. [7] لا نقصد بلوغها فقط على مستوى الشعارات، كما لا نقصد بلوغها فقط من قبل نخبة تمتلك الوعي الشقي، كما يتجلى في العديد من ناشطي 20 فبراير الحاملين لخطاب متماسك ورؤية واضحة، بالإضافة إلى الناشطين المبدعين فنيا والذين عبرت إبداعاتهم على درجة كبيرة من التحرر واتساع الأفق. [8] وهي هنا جماعة الرعايا الذين يشكل الملك مركز الصورة التي لديهم عن هويتهم. [9] وهي هنا أشكال التلاحم والتضامن النضالية الجماعية التي أسستها مجموعة من الحركات الاجتماعية الجماهيرية وأهمها حركة المعطلين وحركة 20 فبراير عضو مجموعة أصدقاء الشعب يريد