26 مارس, 2018 - 10:33:00 يتميز السياق الوطني العام في المغرب حالياً بارتفاع منسوب النقد والعتاب، فرواد شبكات التواصل الاجتماعي الذين تحولوا إلى سلطة رقابية أصبح محرّكهم اليومي وانشغالهم الأساسي إفراغ غضبهم وسخطهم على مؤسسات الدولة والأحزاب، لأنهم يعتبرون استفحال الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وتأزمها، وانتشار موجة جديدة من الاحتجاجات غير المؤطرة حزبيا ونقابيا، مؤشرات بينة على فشل الدولة والأحزاب، في إيجاد حلول ناجعة لتلك المشكلات التي باتت مصدر قلق متزايد لفئات اجتماعية عديدة في مجموعة من المناطق. كما أن كتاب الرأي في الصحافة الإلكترونية والصحف الورقية، على اختلاف مرجعياتهم، وتباين أهدافهم ومصالحهم، وقربهم من مراكز صناعة القرار أو بعدهم منها، ينحون باللائمة على الاختيارات المتبعة حتى الآن على المستويين، الاقتصادي والاجتماعي. ولا يترددون في تقديم توصيف قاتم للأوضاع، والتنبيه إلى خطورة الاستمرار في انتهاج الاختيارات والسياسات نفسها وتطبيقها، لأن من شأن ذلك أن يُحدث مزيدا من المتاعب والاختلالات، خصوصا بعدما انتقد الملك محمد السادس نفسُه النموذج التنموي المتبع حتى الآن في الرسالة التي وجهها إلى المشاركين في أشغال المنتدى البرلماني الدولي الثالث للعدالة الاجتماعية الذي نظمه مجلس المستشارين المغربي يوم 19 فبراير الماضي، حيث قال "إننا نتوخى من الدعوة لمراجعة هذا النموذج، أكثر من مجرد إصلاحات قطاعية معزولة، إعادة ترتيب بعض الورش الاقتصادية والبرامج الاجتماعية، وإنما نتطلع لبلورة رؤية مندمجة للنموذج السياسي والاقتصادي والاجتماعي ببلادنا، ولمنظومة الحكامة المركزية والترابية، في كل أبعادها". ولعبت الحركات الاحتجاجية في عدد من المناطق، خصوصا في إقليمالحسيمة في الريف شهورا، ومدينة جرادة في المنطقة الشرقية التي كانت تضم أكبر منجم للفحم الحجري في المغرب، قبل قرار السلطات بإغلاقه، عاملا أساسيا أنتج هذا النوع من الأحكام والمواقف والتقييمات، وأفسح في المجال أمام تجاذبات وصراعات بين جملة من المقاربات والتصورات، وفجرت سجالا حادا بشأن مبدأ احترام القانون وعدم عرقلة اشتغال المؤسسات وحق السكان في الاحتجاج والتظاهر لتحقيق مطالبهم، وثنائية الحرية والمسؤولية ومدى فاعلية المعالجة الأمنية ونجاعتها في تدبير مثل هذه الملفات المعقدة والمتداخلة، وذات الحساسية الكبيرة لرأي عام أصبح معولما ومنفتحا بحكم الثورة التكنولوجية، ومنصات التواصل الاجتماعي التي أتاحت له إمكانات هائلة لتسويق مواقف ورسائل وخطابات وتمريرها في شتى الاتجاهات. اللافت أن تقارير المؤسسات المالية الدولية والإقليمية ومراكز أبحاث يعتدّ بمصداقيتها تصنف المغرب ضمن قائمة الدول الصاعدة التي تتمتع بعافية اقتصادية، وبمؤشرات إيجابية، تنم عن تطور ملحوظ في كل القطاعات. وهذا ما ذهب إليه التقرير الذي صدر أخيرا عن صندوق النقد الدولي في شأن الأوضاع الاقتصادية في المغرب، وتحديدا حول الوضع الماكرو – اقتصادي، حيث سجل أهمية اختيارات اقتصادية عديدة سلكتها الحكومة. وتوقف تقرير أصدره البنك الأفريقي للتنمية عند التحسن الكبير في مؤشرات اقتصادية عديدة سنة 2017 في المغرب، وصنفها أحسن المؤشرات الاقتصادية المسجلة خلال السنة الماضية في دول شمال أفريقيا. وأوضح، في هذا السياق، أن الاستقرار السياسي والموقع الجغرافي الاستراتيجي للمغرب، وتطور البنية التحتية، ساعد ذلك كله كثيرا على تحقيق هذه النتائج الاقتصادية الوازنة. غير أن تقرير صندوق النقد الدولي أشار إلى عجز الاختيارات الاقتصادية في المغرب، ومحدوديتها في استيعاب الطلب حول التشغيل، خصوصا بالنسبة لفئة الشباب، حيث يرتفع معدل البطالة إلى 30%. ويُعزى مصدر القلق وسط شرائح واسعة من المجتمع المغربي، خصوصا الشباب، إلى عدم انعكاس المؤشرات الماكرو- اقتصادية على التشغيل، فعلى الرغم من تطور البنية التحتية من موانئ وطرق سيارة ومطارات ومناطق صناعية ذات امتيازات وتحفيزات ضريبية، ووجود شبكة مواصلات متطورة، بما فيها استعداد البلاد للعمل قريبا بالقطار فائق السرعة، وتحسن الإنتاج الزراعي ومؤشرات الاستثمار الخارجي والداخلي العمومي والخاص، يظل سوق الشغل عاجزا عن امتصاص البطالة واستيعاب طلبات الشغل، وهذه إحدى المفارقات التي تقض مضاجع الأسر المغربية التي زادها فشل المدرسة العمومية قلقا، حيث لم تعد تخرج سوى آلاف العاطلين الذين سرعان ما يتحولون إلى عبء أسري واجتماعي، وقوة مرشحة لكل التحولات غير المطمئنة في ظل انسداد الآفاق. وكلما بدا جزء لا يستهان به من المغاربة أقل ثقةً في مؤسساته، واختيارات دولته، ترسخت المراهنة أكثر على المغرب، بلدا مستقرا ونموذجا للتدبير التوافقي والسلس للأزمات والاحتقانات والاختلافات، وهذه مسألة يؤكدها قادة دوليون، ومن ذلك أن الرئيس الفرنسي الأسبق، نيكولا ساركوزي، في حوار مباشر عقب افتتاح منتدى كرانس مونتانا الدولي في مدينة الداخلة في الصحراء المغربية، وبحضور رئيس الحكومة المغربية وشخصيات أفريقية ودولية مرموقة، قال "ما يحدث في المغرب يعتبر استثنائيا، فإذا نظرنا إلى ما حصل خلال ال15 سنة الماضية، نجد أن عددا كبيرا من دول المنطقة عرفت مشكلات وإضرابات لا تحصى. من بين تلك الدول يمكن أن تتباهى بأنها حافظت على الاستقرار والانفتاح والتقدّم والحداثة، على الرغم من كل المشكلات والأزمات والمعاناة والانتكاسات؟ ومن يمكنها أن تضاهي الاستقرار الذي عرفته المملكة خلال ال15 سنة السابقة؟ ومن يمكن أن يقول، غير المغرب، أنه استطاع فعلا القيام ب"ثورة دستورية"، وتحقيق التقدم والديمقراطية والانفتاح، وإدماج كل قواه السياسية بمختلف توجهاتها؟ المغرب دولة قوية ومستقرة، ويتوفر على اقتصاد حداثي، وفي الوقت نفسه، بلد ديمقراطي يتمتع بالاستقرار". مؤكد أن هناك مشكلا حقيقيا وجديا في المغرب، يتمثل في غياب وظيفة الوساطة المفروض أن تقوم بها الأحزاب السياسية والنقابات. لكن يبدو أن خللا كبيرا لحق المشهد الحزبي والنقابي في البلاد في الوقت الراهن، وبات مشروعا التساؤل عن جدوى وجود الأحزاب وضرورتها في حد ذاتها، لاسيما أن هناك أحزابا راكمت ممارسات سياسية سلبية، ولم تجد حرجا في تسويق خطابات وصولية، إذ اختزلت العمل والممارسة في مجرد احتلال مقاعد في البرلمان، والظفر بحقائب وزارية، تحت طائلة أنه لا معنى للنضال الديمقراطي ولا قيمة، إذا لم يفض ويؤدي مباشرة إلى السلطة. وفي هذا السياق، يطرح السؤال الكبير: بماذا يمكن تفسير انسحاب الأحزاب من مجال الفعل والمبادرة، ولجوؤها إلى الصمت، في وقت يعرف فيه المجتمع جملة من الاحتقانات، كالبطالة والفوارق والهشاشة الاجتماعية وانتشار العنف المادي والرمزي؟ الدينامية الاجتماعية والسياسية التي يعيشها المغرب، والانتقالات الديمغرافية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي يعرفها، وكذا التحديات التي يواجهها، والرهانات الإستراتيجية التي يتبناها، تستلزم وجود أحزاب قادرة على المبادرة والحفاظ على تواصل مستمر بالمواطنين، ولديها القابلية للاشتغال، وإحراج السلطات الحاكمة بشكل إيجابي.