«لا يدخل النقد إلا في نطاق التعبير السياسي عن الأفكار»... لويس ألتوسير لعبارة «النقد الذاتي» في سجالنا السياسي الوطني رنة خاصة، حيث تتنافس العديد من الأحزاب السياسية - وخصوصا تلك التي تمارس السلطة التنفيذية اليوم (والإشارة هنا لحزب الاستقلال)- على تبني الفكرة والمفاخرة في حيازتها والتفرد بممارستها، لا لشيء إلا لاتسام هذه الممارسة -ولو شكلا- بنوع من التموقع الموضوعي النقدي حيال المؤسسات وحيال الواقع، بل وحيازتها على نوع من الأخلاق -ولو على سبيل حشد دعم الجماهير، وخصوصا ذوي المستويات التعليمية المرتفعة، فأن يقوم حزب أو مؤسسة سياسية أو مؤسسة للدولة على المجاهرة بممارسة عملية النقد الذاتي يعني، أولا، الاعتراف بوجود خلل وعقبات داخلية، ويعني ثانيا -وبشكل تكتيكي- استباق كل الأشكال الباقية من النقد الآتي من الخارج، ويعني، ثالثا، فتح إمكانيات الاستمرار، وهو ما يجعل القطائع مستحيلة (لأن من ينتقد نفسه، سياسيا وفكريا، فإنما يقوم مقام الجاني والقاضي في نفس الوقت). النقد الذاتي في السياسة ومن المتعارَف عليه سياسيا ذلك التناغم التداولي الواضح ما بين خطاب النقد وخطاب المعارضات السياسية، وإن اختلفت ممارسة المعارضة من بلد إلى بلد، حسب ما تتيحه الفسحات الديمقراطية التعددية من حيز للتواصل والتعبير، فالمعارضة السياسية العربية -وخصوصا المعارضة الاشتراكية والإسلامية- كانت دائما هي الموظف المجتهد لخطاب النقد وتشعباته. ومن هنا، أهمية الحديث عن مأْسسة النقد سياسيا داخل هاتين المنظومتين الإيديولوجيتين. فالخطاب النقدي الاشتراكي كان، دائما، يستمد راهنيته من أكسيومات الجدلية المادية وانتقاد السلطة وسلوكها وتمفصل السلطة اقتصاديا، من خلال مركزة الموارد ونخبوية الولوج إليها، مع تسخير خطابات لخلق وعي طبقي عمودي (حسب بول باسكون) يحدث الإعجاب والتماهي بالنافذين ولا يعطي فرص تشكل وعي سياسي أفقي (لطبقات لها نفس الخصائص الاجتماعية ونفس المطالب السياسية). أما الخطاب النقدي الإسلامي فيقوي انتشاره بنظرية المؤامرة الخارجية (بتقديم حجج اقتصادية وعسكرية) ويذكي حشود المواطنين من خلال تقوية خطاب الضحية والاستهداف، الذي يكون بمثابة الحطب الذي يشعل نار الانخراط الإسلامي الشعبي. ويلقى من الخطابين الاستجابة الجماهيرية، لكنْ في طبقات اجتماعية مختلفة، فإذا كان الخطاب النقدي الاشتراكي يلقى درجات كبيرة من الاستيعاب والتبني داخل الأوساط المتعلمة والتواقة لأخذ مبادرات استثمارية (ولو بسيطة) والمطالبة بفتح فرص الشغل والتشغيل وتحفيز مبادرات التشغيل الذاتي (وهي، عموما، فئات من الطبقات الوسطى أو القريبة منها)، فإن الخطاب النقدي الديني يلقى صداه السيكولوجي والسياسي وسط الجماهير محدودة الإمكانات والمطامح الاقتصادية (إما محدودة ذاتيا، بفعل تدني مستويات التحصيل الجامعي والتقني، أو موضوعيا، بفعل الإقصاء السياسي الممارس عليها). العالم العربي والحقبة النقدية الجديدة إن العالم العربي اليوم -وخصوصا في الأقطار التي كان يشهد لها بلعب دور ريادة إقليمية- يعيش حالة من الفوران السياسي، ويتطلب الأمر في الواقع توفير آليات متعددة الاختصاصات (polyvalentes) لتحليل الوضعية العربية السياسية الراهنة. حيث تتجه الآليات الجيو سياسية إلى تحليل الوضع العربي وفق منطق توازنات القوى الدولية في المنطقة ورغبة هذه القوى في تأصيل الهيمنة، موازاة مع سعيها إلى تغيير الأنظمة السياسية القديمة بأنظمة أكثر عصرنة وتجدرا. وتتجه التحليلات القومية إلى تفسير هذا الفوران بنهضة شعبية ثانية لم تعد الأنظمة الحاكمة قادرة على احتوائها لارتهال نظم الحكم وتقادمه وعدم استيعابه نبض الشارع وانتظارات الشباب (الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتواصلية) ومن التحليلات ما يتجه إلى دور الإعلام الرقمي والثورة الصامتة التي يعرفها عالم الاتصال (وهو الأكثر عولمة من المنظومة الاقتصادية نفسها) والإمكانات التواصلية الجمة التي يتيحها على مستوى تبادل الآراء وتبادل المواقف، بل والمرور إلى تبادل أنماط السلوك (النقدي والاحتجاجي والثوري). ناهيكم عن التحليلات الماكرو اقتصادية، ذات البعد التنموي، التي تطرح مسألة الحاجة إلى مرور العالم العربي إلى الحقبة الثانية من التنمية (بعد الثورة الطاقية الأولى) وخصوصا التنمية ذات البعد البشري وما يرتبط بها من ضرورة تحسين مؤشرات التعليم والصحة والشغل والأمن الغذائي والاقتصادي. في الحقيقة، كان لا بد لي من الإشارة إلى الوضع العربي السياسي الراهن، لأنه وضع «نقدي بامتياز»، فالكل يشجب، ينتقد، يحتج، يحاكم، يثور ويضرب بكفيه، وتتسابق المنابر الإعلامية العربية والدولية على تسجيل خروج الإنسان العربي إلى الشارع للتعبير عن الرفض... لكنْ، أمام هذا الركام الهائل من الأحداث المتواترة والمواقف المتنافرة، كيف يمكننا التأصيل الثقافي لهذا الوعي العربي الشعبي السياسي المنتقد والثائر؟ لأن المرور إلى الثورة ليس حدثا من عدم وليس حدثا عرضيا (كما يريد أن يفسره البعض) بل له بوادره، حيث إن الانتفاضات الشعبية والجماهيرية كانت فقط مخرجات لعوامل باطنية (اقتصادية وسياسية وثقافية واجتماعية). فما الذي يمكن أن تلعبه الثقافة في تطوير سلوك الاحتجاج والرفض؟ وكيف يتم التعبير عن الاحتجاج ثقافيا؟ وهل تتميز ثقافة النقد المطالِبة بالتغيير السياسي وبتعديل المسار التاريخي للتطور بطباع فكرية وتواصلية وسياسية خاصة؟ وفي الأخير، كيف تتم حماية استقلالية سلطة النقد الثقافي من بطش الاحتواء السياسي، بالنظر إلى المخاطر المحدقة بالتعددية الثقافية والسلطة المتجبرة للشارع العربي، اليوم، على كل التحليلات الثقافية الأخرى، المنتقدة للشارع الثائر نفسه؟... النقد الاقتصادي المنبوذ في السياسة «المجتمعات ممسوكة بالممنوعات». (سيجموند فرويد) و«الطابوهات والخطوط الحمراء هي الإحداثيات الحقيقية للأنظمة السياسية في كل بقاع العالم». (بيرتراند بادي). أما الأنظمة التي لا تتأسس على ممارسات ديمقراطية حقيقية، فإنها تسطر بالأحمر الغليظ على كل نطاقات سلطاتها وعلى المجالات الداعمة لهذه السلطات (الاقتصاد -الدين- العقل) وهي، تباعا، المحددات الثلاث للمعيش والمعتقد والفكر. وقد كان عبد الرحمن الكواكبي محقا، بل ومناضلا فذا، عندما صرّح، في عز توافقات الإصلاحيين المصريين مع النظام، بأن أي استبداد يضغط على العقل فيفسده، وبالتالي، يكون الفكر في المساحات السياسية الضيقة والمتسلطة يعيش مخاض تبرير الذات، أكثر مما يعيش مخاض المطالبة بالتغييرات الجذرية. كيف يضغط الاقتصاد، إذن، على وظيفة النقد الاقتصادي والسياسي الحر؟ إنها براغماتية التوازنات الماكرو اقتصادية التي تحرس الأوضاع الاقتصادية الثابتة وتلعب دور شرطي مرور أمام التيارات الاقتصادية المنتقدة لسياسات الدول. ولم يحظ الاقتصاد السياسي بذات المكانة الإعلامية التي يحتلها النقد القومي أو الديني للأوضاع المعيشية للناس، لأنه نقد ينبني، أولا، على مؤشرات غير مفهومة ومجردة، وتكون اللغة الاقتصادية، ثانيا، لغة غير محلية (في غالب الأحيان فرنسية وإنجليزية)، وحتى الفكر الاقتصادي الصارم، رياضيا ومحاسباتيا، لا يلقى آذانا تسمعه داخل أوساط الرأي العام (لتفشي الأمية وقلة الوعي الاقتصادي). ودائما، يتم فصل النشرات الاقتصادية عن النشرات السياسية، وخصوصا خلال الأوضاع التي تعرف قلاقل سياسية. قليلون من يتحدثون (في وسائل الإعلام العربية، بالخصوص) عن تفسير انسحاب ثم عودة الاستثمارات الأجنبية إلى مصر في أقل من أسبوع (وعلاقة هذه التحركات الاستثمارية بما يجري في الميدان العام من احتجاجات سياسية) والقلة القليلة هي التي تتحدث، اليوم، عن مدى صحة أو عافية أو حتى مرض الاقتصاد التونسي، بعد «ثورة الياسمين». وأكثر من ذلك، لا أحد يحلل الأوضاع السياسية داخل مصر وتونس وفق الاختيارات الاقتصادية المفروضة، جيو- سياسيا، على المنطقة بأسرها (التوازنات الطاقية، أساسا). الخلاصة هي أن النقد الاقتصادي في الدول العربية (ونقد الاختيارات الاقتصادية العامة) لا ينال حظه الوافر من الانتشار والتداول والتطور ولا يتم استثمار مخرجاته لتفسير الوضع العربي السياسي، اليوم. وفي المغرب، ما عدا نشرات الظرفية الاقتصادية الصادرة عن مؤسسات الدولة (المندوبية السامية للتخطيط ومديرية التوقعات الاقتصادية في وزارة المالية...) لا يُفسَح المجال كثيرا لنقد النهج الاقتصادي للدولة ولا يتم التفصيل في السياسات والاختيارات الاقتصادية داخل السجالات السياسية العمومية (وحتى المؤسسات التشريعية تبقى دون مستوى الرفع من النقاش السياسي حول الثغرات الاقتصادية العامة). هذا عن عقبات النقد الاقتصادي، فماذا عن أدوار الدين في الضغط على النقد، بالرغم من الاعتقاد السائد أن الدين محور نشيط في العالم العربي لممارسة وظيفة النقد؟ أولا، النقد سيرورة فكرية مستمرة الحدوث ولا تنجو منها الإطارات الثابتة ولا تعترف بالمسلمات ولا تعيش بسلام مع المقدَّس. أما الدين فلا يأخذ من النقد سوى تلك الأهداف السياسية التي تصل به إلى تجدر أكثر وتموقع أقوى سياسيا، وبالتالي، فالهدف من النقد الديني (كما النقد الاشتراكي) هو تحصيل مراتب سياسية متقدمة للوصول إلى ممارسة السلطة (رغم أن الآليات المعتمدة تبدو فكرية وإبستمولوجية لكنها مسخرة لغايات سياسية صرفة). كيف يعيق الفكر عملية النقد؟ إنه سؤال يبدو غريبا، بالنظر إلى العلاقة الأخوية والتعاقدية الدائمة ما بين الفكر والنقد، باعتبار الثاني «الدينامو» الذي يشتغل به الأول. لكن الفكر في علاقته بالصراع مع السلطة (السلطة الرمزية والسياسية) يوظف آلية النقد كمعول لتحقيق أهدافه الإبستمولوجية. وعندما يصطدم الفكر ببطش السلطة، يتحول النقد إلى هدف، بينما هو في الأصل وسيلة. وكثيرة هي الأعمال الإبستمولوجية التي تناولت هذه العلاقة جد المركبة ما بين النقد كوظيفة والنقد كغاية وأثر هذا التحول على مكانة الفكر ووظائفه. من له حق ممارسة النقد في الإعلام العربي؟ لا نعرف ما هي المساطر والعلاقات الشخصية والمؤسساتية التي تتم بموجبها دعوة شخصيات معينة (غالبا ما تكون ناشطة سياسيا وحقوقيا) للمرور إلى الميكروفون أو الكاميرا في المنابر الإعلامية العربية ذائعة الصيت والمشاهدة («الجزيرة» -»العربية»...). لكن ما هو معروف هو أن القنوات تختار من الآراء ما «يتماشى» مع سياستها التحريرية، وبالتالي، فالنقد السياسي التلفزي يتميز، دوما، بالانتقائية. وإذا حللنا الخطابات النقدية المنتشرة اليوم عبر القنوات التلفزية، فإننا نجدها تدور في فلك شخصنة النقد (personnification)، حيث تبقى أهدافه مشخصة وليست ممأسسة، وجعله يبدو مأساويا كارثيا، دون الضلوع في شرح وتوفير الحلول الهادئة والآليات المناسبة لإعادة التوازنات أو إنتاج توازنات بديلة. فلا احد من منتقدي النظام المصري اليوم -في «الجزيرة» أو في «العربية»- يركز للإجابة عن السؤال المتعلق بدور مصر الجيو سياسي في المنطقة (وهو الدور الذي فسر إطالة أمد حكم حسني مبارك) وهو الدور الذي لا يمكن للثورة أن تنجح فيه إذا لم تجد بديلا مناسبا للحفاظ عليه. هذه آراء لا تعجب الشارع العربي ويبقى حظها من الانتشار محدودا.