كثر القيل والقال في الآونة الأخيرة حول مأسسة الحوار الاجتماعي من دون أن نرى توافقا حول دلالات وماهية هذه المأسسة.... ربما تكون الحكومة تعني بهذه المأسسة أن يجري، بشكل دوري، حوار "اجتماعي" بينها وبين الأطراف النقابية "الأكثر تمثيلية"... أما هذه الأطراف النقابية الأكثر تمثيلية، فلم تكلف نفسها عناء البحث في ماهية هذه المأسسة ولا طرح الأسس/الأرضية التي سينهض عليها هذا الحوار الاجتماعي المتمأسس، أو قل للدقة هذا التمأسس للحوار الاجتماعي، حتى لا يضل رهنا للمناسبتية والاحتفالية الإعلامية، شأنه في ذلك شأن جلسات الاستماع العمومي.... فالحوار الاجتماعي، في شكله وآلياته وأسسه الراهنة، إنما يجري في أجواء من البهرجة والاحتفالية الإعلامية التي تتهجها الحكومة لخلق انطباع لدى الرأي العام مفاده أنها منكبة على حل المشاكل الاجتماعية لمختلف للفئات الشعبية، وتحديدا الأكثر تضررا وتهميشا، بينما هي – أي الحكومة- ماضية في تمرير برامج ومدونات وشبكات لا تخدم البتة مصالح هذه الفئات. فالحكومة، وهي "الحريصة على الحوار الاجتماعي"، لا تلبث أن تخرج علينا بقرارات انفرادية متجاوزة، تارة الأطراف النقابية "الأكثر تمثيلية"، خاصة في مسألة الرفع من الأجور، وتارة أخرى تخرج علينا بالقول أن مدونة/شبكة، من المدونات/الشبكات (مدونة السير، شبكة تقييم أداء موظفي التعليم ....)، إنما تم الاتفاق، حول مضامينها، مع "الأطراف النقابية الأكثر تمثيلية"!. 1- إضرابات مهنيي النقل وديماغوجية مقولتي "المأسسة" و"الأكثر تمثيلية" لقد تكشفت، من خلال الإضرابات الأخيرة لمهنيي النقل، حقيقة جوهرية مفادها أن أغلبية المهنيين ليسوا ممثلين من طرف تلك النقابات "الأكثر تمثيلية"، والتي وافقت على مدونة السير، في حوارها مع الوزارة الوصية. ما يعني أن الحكومة، في حوارها الاجتماعي، إنما تنتقي أقلية حليفة مرتبطة بها ذيليا ومصلحيا حتى تتمكن من تمرير مدونات وشبكات طبقية، ضدا عن مصالح الفئات الشعبية. وهي بذلك لا تخدم إلا حاجات ضيقة لصالح الطبقة المهيمنة سياسيا واجتماعيا وثقافيا بالبلاد؛ الشيء الذي يضرب في العمق مقولتي النقابات "الأكثر تمثيلية" وكذا "مأسسة الحوار الاجتماعي". لقد بعثت الإضرابات الأخيرة لمهنيي النقل بإشارات سياسية جاءت تكشف عن بداية تشكل واقع اجتماعي احتجاجي جديد منفلت تنظيميا عن التنظيمات النقابية "الأكثر تمثيلية"، ومعاكس، أو قل للدقة معارض، للتوجهات السياسية التي تصدر عن مؤسسات الدولة، من برلمان ومجلس حكومي ومجلس وزاري، مما ينذر بفراغ قاتل يتهدد المجتمع والدولة معا، حتى لا نقول الحكومة التي تضل الغائبة الحاضرة في ما جرى ويجري منذ بداية ولايتها القيصرية. ذلك أن المدونة، التي يقال أنها كانت موضوع توافق في المجلسين الحكومي والوزاري، ثم موضوع موافقة البرلمان عليها، علاوة على أنها ثمرة من ثمرات "مأسسة الحوار الاجتماعي"، إنما قوبلت برفض مطلق من المهنيين المعنيين مباشرة بها. ... ونفس الشيء إنما ينسحب على تداعيات تنزيل شبكة تقييم أداء موظفي قطاع التعليم، حيث أوردت وزارة التربية الوطنية أن "دليلها" في التقييم، قد حظي بقبول النقابات الأكثر تمثيلية التي فوجئت، حينها، بحجم وقوة الرفض لهذه المدونة في أوساط الشغيلة التعليمية. ما كان إذن من خيار أمام هذه النقابات، وهي ترى ردود فعل الشغيلة التعليمية ضد هذه الشبكة، إلا أن تسارع الى تسجيل رفض "إعلامي" وليس مبدئي لهذه الشبكة، بحكم أنها وافقت على مضامين تلك الشبكة، كما هو مؤكد من خلال تصفح مقدمة دليل شبكة التقييم. أين نحن هنا من التمثيلية ومن المأسسة؟... لقد صار كل ما يصدر عن الحكومة وبتزكية من المركزيات الحليفة لها، طبعا باسم المأسسة وباسم الأكثر تمثيلية، مرفوضا جماهيريا... ليس عيبا في أن تشكل "النقابات الأكثر تمثيلية" جزءا من أطراف معادلة التمأسس هذه، لكن ليس من المنطق السياسي أن تكون الطرف الوحيد الممثل للشغيلة المغربية، خاصة بعد الإضرابات الأخيرة. هناك أطراف اجتماعية أخرى ليست مدعوة حتى اليوم لإبداء رأيها في ما سيكون عليه هذا التمأسس في المستقبل القريب والبعيد. كما أن مطالب اجتماعية أخرى وازنة ضلت منفلتة عن النقابي، بحكم أنها صارت من اختصاص حركات اجتماعية ناهضة، من المفروض أن يأخذ رأيها في أية إجراءات وترتيبات تستهدف مأسسة فعلية للحوار الاجتماعي. لم يبق من مسوغ أمام الأطراف النقابية الأكثر تمثيلية" أن تضل مكتوفة الأيدي أمام هذا العبث، لا هي أقدمت على تبيان وجهة نظرها من المأسسة التي يجري الحديث عنها، ولا هي أفصحت عن موقف مسؤول حيال ما آلت إليه "مأسسة الحوار الاجتماعي".... على هذه النقابات أن تكشف عن مواقفها، ليس فقط في تحديد مستلزمات مأسسة الحوار الاجتماعي واقتراح أسس صلبة له، بل أيضا – وهذا هو الأهم والمستعجل - أن تحسم في كيفية تعاطيها مع انفراد الحكومة بقرارات أحادية الجانب، بعد سلسسلة من الحوارات المشتركة، وأن تشرح خلفيات العودة الى حوارات أضحت فيها – أي هذه النقابات – متجاوزة. في غمرة هذا التهليل وهذا التسويق الإعلامي للمأسسة، لا ندري إن كانت هذه الحوارات الاجتماعية، التي فيها تنفرد الحكومة بقرارات أحادية الجانب، تجرى في إطار من هذه المأسسة أم في سياق ما قبل التمأسس... السؤال الإشكالي الذي من المفروض أن تجيب عنه هذه الأطراف النقابية الأكثر تمثيلية، هو توضيح هذا السياق الذي فيه انفردت الحكومة بقراراتها، وأيضا السياق الذي فيه يستأنف الحوار الاجتماعي؛ بمعنى آخر توضيح إن كان هذا السياق هو نفسه سياق مأسسة الحوار الاجتماعي أم شيئا آخر!.... اظافة الى ذلك، فان واقع النقابات اليوم يعرف انكماشا في عدد منخرطيها، لأسباب لا مجال للخوض فيها في هذا المقام؛ وهذا ما يطرح بحدة إشكالية التمثيلية ككل، وليس فقط إشكالية الأكثر تمثيلية.... فعن أية تمثيلية تتحدث الحكومة في وقت لا تحظى فيه – هي- بتمثيلية أغلبية الشعب المغربي، وفي وقت كذلك لا تتعدى فيه نسبة تمثيلية كل النقابات في أحسن الأحوال 10 في المائة من مجموع الطبقة العاملة بمختلف فئاتها. فالحكومة، التي هي بصدد مأسسة الحوار الاجتماعي والتي تفاوض النقابات "الأكثر تمثيلية"، إنما انبثقت عن أقلية شعبية، وليس عن أغلبية مكونات الشعب المغربي الذي قاطع اقتراعات 7 شتنبر 2007. هذا المعطى إنما يحيل الى مأزق سياسي وطني وليس فقط الى أزمة اجتماعية طارئة. 2- في الحاجة الى حوار اجتماعي-سياسي وطني شامل إذا كان للحوار الاجتماعي أن يتمأسس، فينبغي أن يعاد النظر في آلياته وأسسه وأطرافه الاجتماعية–السياسية المكونة له. ذلك أن كل حوار اجتماعي إنما هو في العمق حوار سياسي بين أطراف سياسية ذات مصالح طبقية متناقضة، بالرغم من تمظهره – أي الحوار- في مظهر اجتماعي صرف، على اعتبار أن النقابي ليس سوى ذاك الجزء الأكثر بروزا وتنظيما من الحقل الاجتماعي الذي يضم أيضا عناصر أخرى فاعلة أفرزها – ويفرزها- تطور الواقع الاجتماعي السياسي الوطني. كما أن مكونات الحكومة – برغم تناقضاتها الثانوية التي بدأت تتكشف بحدة - التي هي الطرف الأخر في الحوار الاجتماعي، ليست سوى ذاك الجزء السياسي الأكثر هيمنة وسيطرة من الحقل السياسي الوطني، والذي يزخر بدوره بحساسيات ومكونات مختلفة لا بد وأن تحضر في ترتيبات إطلاق حوار وطني شامل للخروج بالبلاد من هذا الوضع المتردي، والذي قد يتفاقم بحكم تأثيرات الأزمة المالية العالمية. فالحقل الاجتماعي، كما الحقل السياسي، يضم عناصر أخرى ليست مؤطرة في أشكال تقليدية محددة (النقابة أو الحزب)، وإنما توجد في أشكال تنظيمية مدنية وجماهيرية بفعل طبيعتها ووظائفها، وكذا مجال اشتغالها في الحقلين الاجتماعي والسياسي. إننا هنا بصدد حوار "اجتماعي" يجري – في أفق مأسسته كما يقال – بين أقلية سياسية تتمثل في الأغلبية الحكومية، وبين أقلية اجتماعية، أي النقابات "الأكثر تمثيلية". في ظل هذا الوضع الشاذ، تجري محاولات بين الأقليتين، المسيطرتين اجتماعيا وسياسيا، من أجل "مأسسة الحوار الاجتماعي" الذي قد يحسم في أمور دستورية وطنية مصيرية، لا يحق لأطراف الحوار الاجتماعي – بشاكلته اليوم – أن يحسم فيها. لذا صار لزاما، اليوم، استشارة كل مكونات الحقل الاجتماعي والسياسي الوطني، خاصة فيما يتعلق بأمور مصيرية، وذلك في أفق بلورة توافق وطني بشأنها، ونقصد هنا تحديدا التوافق على قانون تنظيمي لممارسة الحق الدستوري في الإضراب. لتجاوز مأزق المأسسة وإشكالية التمثيلية، في شاكلتهما المزيفة الراهنة، لا بد أن يصار بهذا الحوار الاجتماعي، في المرحلة الراهنة، الى حوار بين الدولة من جهة – وليس الأغلبية الحكومية- وبين كل الأطراف الاجتماعية-السياسية الوطنية من جهة أخرى، وذلك على قاعدة إشراك كل الفاعلين والممثلين الحقيقيين لكل الفئات الاجتماعية في حوار وطني شامل. فالحوار الاجتماعي، في هذه المرحلة المأزومة سياسيا واجتماعيا، لا بد وأن تحضر فيه الدولة وتتحمل فيه مسؤولياتها كطرف محايد عن كل التجاذبات السياسوية المتمظهرة في شكل حراك اجتماعي/إيديولوجي، يراد له أن يؤثث مشهدا نقابيا تسوده أطراف نقابية "أكثر تمثيلية" في مقابل أطراف أخرى "أقل تمثيلية". ما لم يتم تجاوز تلك المعادلة القائمة على أساس من الحوار بين أقليتين تدعيان امتلاكهما التمثيلية، فان المأسسة ستفقد كل أسسها ومقوماتها، وستجير لا محالة لتمرير قانون تنظيمي للإضراب وفق رغبة الأقليتين التي ليست سوى تكثيفا لرغبات الباطرونا على حساب رغبات الشغيلة...أما استمرار الحوار الاجتماعي، على شكله الحالي، فلن يتمخض عن أية نتائج مقبولة جماهيريا، من شأنها أن تفضي إلى سلم اجتماعي. جاءت الإضرابات الأخيرة، إذن، كتعبير من مهنيي النقل عن ذلك الرفض المطلق للتوجهات الاجتماعية للحكومة... فالرفض هذا ليس يحمل في طياته دلالات اجتماعية وحسب، بل انه يستبطن إشكالية سياسية ودستورية تعكس، في العمق، أزمة الوضع السياسي العام بالبلاد، من حيث هي أزمة ثقة/أزمة تمثيلية – أي أنها أزمة مشروعية سياسية- لا يمكن أن تجد حلا لها إلا في مباشرة إصلاحات سياسية ودستورية جوهرية تحظى بموافقة كل القوى الديمقراطية الحية للشعب المغربي، من خلال حوار وطني شامل، وعبر حكومة انتقالية ممثلة لكل هذه الحساسيات، هدفها الإشراف على تهيئة الشروط السياسية لإجراء مثل هذه الإصلاحات الضرورية لمستقبل بلدنا ووحدته الوطنية. ليس في طرحنا تشكيل حكومة انتقالية أية مزايدات سياسوية، وليس في هذا الطرح أيضا ما ينم عن أحلام فوضوية شعبوية.... فواقع الحال يدل على أننا مقبلون على استحقاقات ليس فيها أية محفزات حتى يتزايد الإقبال الجماهيري على صناديق الاقتراع... وأية محاولة للهروب الى الأمام وتجاهل هذه الحقائق السياسية، سيؤدي بالبلاد الى الدخول من جديد في الدوران في حلقة مفرغة، خاصة وأن المرحلة تتطلب من القوى الديمقراطية رفع تحديات اجتماعية ووطنية حفاظا على التماسك الاجتماعي وتعزيزا للوحدة الوطنية. 3- قوى اليسار وتحديات المرحلة الراهنة في هذه النقطة بالذات –أي الحكومة الانتقالية- تنطرح على كل القوى اليسارية الديمقراطية، بمختلف توجهاتها، مسؤولية التفكير بكل واقعية، والاجتهاد من أجل توفير الشروط الضرورية لانجاز هذه المرحلة الانتقالية، والحضور فيها بمساهمات سياسية وثقافية ذات مضمون ديمقراطي اجتماعي – حتى لا نقول مرحليا ذات مضمون اشتراكي، لأن في مثل هذا القول تغليب للحلم/الإيديولوجيا على الواقع/السياسة- وذلك من أجل الانتقال بالبلاد الى وضع تتحقق فيه الديمقراطية الفعلية والسيادة الشعبية، باعتبارهما احدى المقدمات الأساسية لبناء نمط جديد من الاشتراكية في هذه المرحلة التاريخية التي يمر منها النظام الرأسمالي العالمي الذي يعيق تشكل الدولة الديمقراطية الوطنية. هذا هو السبيل الذي نراه اليوم ناجعا لتجاوز إشكالية التمثيلية/الثقة التي أضحت سمة ملازمة للمؤسسات الدستورية الوطنية، بحيث أن استمرار هذه المؤسسات على هذا الحال، سيفقدها شرعيتها ليس فقط فيما يرتبط بالتمثيلية، وإنما في كونها التعبير الوطني عن مجموع تلك الآمال والطموحات المشتركة لمختلف فئات المجتمع المغربي، باعتبار هذه الطموحات هي هي المصلحة الوطنية العليا، ولا شيء سواها. كثيرون هم من يحاول اليوم التمترس وراء هذه المصلحة الوطنية العليا، وذلك لقضاء حاجاتهم والحفاظ على مواقعهم الاجتماعية، من حيث هي مواقع سيطرة/هيمنة طبقية. لذا بات من الضروري على كل مثقف تقدمي – وهو حتما يساري ديمقراطي حداثي - أن يتولى وظيفته الإيديولوجية/الثقافية، في تفكيك بعض من هذه الشعارات "الوطنية" الكبرى التي تتمترس وراءها كل القوى المحافظة الرجعية. فالإيديولوجية الوطنية – كما أكدنا على ذلك في مقالاتنا السابقة – لا يجب أن تبقى حكرا على القوى المحافظة، بل أضحى ضروريا أن يصار بها الى حيث تكون هي بالضبط إيديولوجية الطبقة العاملة، وكذا ثقافة الفئات الشعبية المحرومة. في هذه المسألة بالذات، تكمن الوظيفة الإيديولوجية الشاقة التي يمكن أن تنهض بها قوى اليسار، خاصة تلك التي تطرح على عاتقها مهام الدفاع عن المصالح الآنية والبعيدة للطبقة العاملة.... أما الركون الى مواقف "راديكالية"، في العديد من القضايا السياسية، والاكتفاء بترديد شعارات شعبوية منها، والاكتفاء بمحاولة تبرير هكذا شعارات بكونها تتماهى مع موقف الشعب الذي عبر عن رأيه في مقاطعة الانتخابات، فذلك لن يؤدي سوى الى إخلاء الساحة السياسية الوطنية أمام القوى المحافظة حتى تتمكن من إعادة تجديد إيديولوجيتها "الوطنية" المتآكلة في المرحلة الراهنة، في محاولة منها لتكريس مواقعها الاجتماعية وتأبيد مصالحها السياسية الطبقية... في اعتقادنا أن الظاهرة الشباطية، نسبة الى شباط، لهي تعبير صريح عن محاولات بعض القوى، الأكثر رجعية ومحافظة من الصف الوطني، تجديد إيديولوجيتها الوطنية المأزومة... ويمكن لنا أن ندرج في هذا السياق ذلك الهجوم الذي شنه شباط على الشهيد المهدي بنبركة، باعتبار ذلك الهجوم يشكل ذروة محاولات ذلك التجديد الإيديولوجي للإيديولوجية "الوطنية".... لقد أخذت تلك المحاولات تتكشف في عدة أشكال منها، على سبيل المثال لا الحصر، إعادة تأسيس مفهوم جديد للنقابة "الوطنية" الحريصة على "المصالح العليا للوطن"، أي تلك التي تدعو فقط الى الحوار ولا شيء سوى الحوار، وتقطع مع ممارسة الإضراب كحق دستوري، الى غير ذلك من الممارسات التي لا فائدة من ذكرها في هذا المقام. وحتى نكون واضحين أكثر، فنحن نقصد هنا المواقف التي بات الاتحاد العام للشغالين يتبناها منذ أن تولى شباط مسؤولية أمانته العامة. لم يقف شباط في حدود هذه المواقف "الوطنية"، بل تجاوز ذلك الى القذف في حق الشهيد المهدي بنبركة، باعتباره رمزا وطنيا وزعيما اشتراكيا وتحرريا. وبالمناسبة، لا يسعنا هنا إلا إدانة مثل هذه الخرجات الإعلامية في حق شهداء الشعب المغربي، وفي مقدمتهم الشهيد المهدي بن بركة، مع تأكيدنا على أن الزج بالشهداء في مثل هذه المعارك السياسوية ذات النزعة الوطنوية الضيقة يعد تحقيرا واستصغارا، ليس فقط لأرواح الشهداء، وإنما لكافة الشعب المغربي وقواه المناضلة الحية.... سنعود مستقبلا الى مناقشة هذه الإشكاليات الإيديولوجية، في تمفصلها مع ما ينطرح من مهام على قوى اليسار ومثقفيه بالتحديد، وذلك في سياق تعميق النقاش الفكري في ما طرحه الرفيق الأستاذ لحبيب الطالب، في جريدة الاتحاد الاشتراكي، من أسئلة جوهرية في ما هو المثقف العضوي في المرحلة الراهنة؟ ما هي الكتلة التاريخية الناشئة؟، الى غير ذلك من أسئلة جوهرية ذات راهنية كبيرة..... في هذا الصدد لا يسعنا الى أن نثمن دعوته الى تشكيل جبهة للمثقفين التقدميين للنهوض بمهام الإجابة عن الأسئلة المصيرية التي تنطرح في المرحلة التاريخية الراهنة على بلادنا. 4- أزمة علاقة النقابي والسياسي، وإفلاس إيديولوجيا "الأكثر تمثيلية" لا مناص إذن من تحليل وتفكيك هذا المشهد النقابي الوطني، ليس في صورته/تمظهره في ذلك التقسيم الرسمي بين الأكثر والأقل تمثيلية، بل باعتباره فضاء من بين فضاءات أخرى داخل الكل الاجتماعي بشكل عام. فأية محاولة لتشريح هذا المشهد، وفقا لذلك التقسيم الرسمي، لن تفي بغرض الوقوف على عمق ما يجري في الساحة الوطنية، اجتماعيا وسياسيا، وليس فقط نقابيا. يتبدى لنا أن تلك الأطراف المسماة "الأكثر تمثيلية" إنما تتسم بالسمات التالية: تبعثرها بين أطراف تدعي "استقلالية" النقابي عن الحزبي، باعتبار ذلك، في نظرها، شكلا "ديمقراطيا حداثيا" في تدبير العمل النقابي، وبين أطراف نقابية مرتبطة ارتباطا واضحا ببعض الأحزاب الفاعلة على الساحة السياسية. فبين تبني أطروحة الفصل بين النقابي والسياسي لدى الأطراف الأولى، وبين واقع ممارساتها النقابية اللاديمقراطية، يتكشف مأزق تناقضها مع ادعاءاتها وشعاراتها في الديمقراطية والاستقلالية والحداثة.... ذلك أن هذه النقابات ضلت، لردح من الزمن، لا تعقد مؤتمراتها ولا تغير قاداتها "التاريخيين الكاريزميين"، كما هو حال كل من الاتحاد المغربي للشغل والكونفدرالية الديمقراطية للشغل، اللتين تشكلان ملاذا آمنا لهؤلاء "الزعماء التاريخيين".... إن ديمومة هذه العناصر في مواقع القيادة ليست سوى الشجرة التي تخفي غابة كثيفة من البيروقراطية والانتهازية و الرغبة في المحافظة على المصالح والمواقع. في مقابل ذلك، تحضر بقوة لدى أطراف أخرى من دائرة "الأكثر تمثيلية" علاقة النقابي بالحزبي، ليس كعلاقة عضوية جدلية مبررة وضرورية، بل كعلاقة تبعية النقابي للحزبي ليس بالمعنى التنظيمي المباشر، وإنما بالمعنى الذي يحيل الى نوع من التوجيه السياسي للفعل النقابي، بحسب الضرورات الحزبية لكل مرحلة سياسية، وبحسب مواقف كل طرف سياسي وموقعه من، وفي، الحكومة. فالنقابات المرتبطة بالأحزاب المكونة للحكومة لا تتحرك، اجتماعيا، إلا وفق ما تقتضيه الضرورة السياسية، أو قل السياسوية، لتلك الأحزاب في تكريس تموقعاتها في الحكومة، وأيضا بحسب حاجاتها في تحسين نتائجها في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، مع ما يستتبع ذلك من تناقضات وصراعات وتلاسنات، كما هو الحال اليوم، حيث الاختلاف على أشده بين الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال من كل القضايا الاجتماعية المطروحة (ملف التعاضدية، مسألة الاقتطاع من أجور المضربين، مسألة توقيف النقاش الدستوري بخصوص مدونة السير في مجلس المستشارين،...). فالحاجة السياسية لهذه الأحزاب، اظافة إلى طبيعة تموقعها الحكومي، تدفع بهذه النقابات إما إلى الانخراط في الفعل الاجتماعي ضدا على مكون من مكونات الحكومة، أو ممارسة نوع من الانتظارية، كتعبير على دعمها المبطن لمكون آخر من هذه الحكومة. بهذا المعنى، أمكننا أن نفهم كيف أن الاتحاد العام للشغالين انخرطت في تبني الخطاب الحكومي بوجه عام والخطاب "التعادلي" بوجه خاص، منذ تولي عباس الفاسي منصب الوزير الأول!... وبمعنى مماثل، نستطيع كذلك أن نفهم كيف أمكن للفيدرالية الديمقراطية للشغل أن تمارس نوعا من الازدواجية في فعلها الاجتماعي المرحلي الذي ليس سوى انعكاسا صريحا لما سمى "المساندة النقدية" للحكومة التي يمارسها الاتحاد الاشتراكي منذ انتخابات 7 شتنبر 2007. إن الحوار الاجتماعي، في انقطاعه أحيانا وفي استئنافه أحيانا أخرى، بين الحكومة وبين الأطراف النقابية "الأكثر تمثيلية"، ليس يستند إلى ما يفرزه الحراك الاجتماعي في شيء، وإنما هو نتاج صراع وتهادن سياسيين يجريان، بداخل الأغلبية الحكومية، وأساسا بين حزبي الاتحاد الاشتراكي والاستقلال. يفصح هذا التناحر بين المكونات الحكومية عن نفسه اليوم من خلال ما يجرى من تلاسن بين الحزبين الأساسيين في الأغلبية الحكومية، أي بين الاتحاد الاشتراكي والاستقلال. لقد تجاوزت ذلك التلاسن كل حدود اللياقة لما خرج المدعو شباط يقذف في حق الشهيد المهدي بنبركة. ثم إن هذا الصراع الدائر في الحقل الاجتماعي، بخلفيات سياسية، ازداد تعقيدا وضبابية بدخول مكونات أخرى على الخط، رغم عدم استنادها الى قوة نقابية واضحة المعالم، خاصة الوافد الجديد حزب "الأصالة والمعاصرة"، الذي أضحى جزءا من حكومة تشكلت هي قبل تأسيسه هو، أي أن استوزار بعض من رموزه الذين كانوا متمترسين في "حركة لكل الديمقراطيين"، والتي لا أثر لها اليوم، إنما كان سابقا عن تشكيل حكومة عباس الفاسي.... وجد الحزب بعدئذ نفسه في كنف الحكومة، لا هو تقدم الى الانتخابات، السابقة عليه، ببرنامج سياسي، ولا هو انتظر الى حين إجراء استحقاقات مقبلة حتى ينضم الى الحكومة، على الأقل بطريقة تمنحه شيئا من "الشرعية الديمقراطية". فحتى نتمكن من فهم هذه النازلة، واستيعاب تداعياتها، لا بد لنا من التسلح بنوع من الخيال العلمي الذي يستند الى مغامرات فوق زمنية؛ بحيث لا يمكن واقعيا لحزب أن يصير مكونا وازنا في حكومة إنما هي سابقة عليه، إلا إذا تخيلنا الزمن يسير في منحى معاكس لما هو عليه في الواقع. بكل تبسيط فالحزب تولد – وترعرع - في كنف الحكومة، موازاة مع تجميع أغلبية برلمانية لم تتقدم الى الانتخابات السابقة ككتلة موحدة –لأنها كانت شتاتا آنذاك- ببرنامج انتخابي موحد. إننا هنا أمام ظاهرة جديدة قائمة على أسبقية الانتماء الى الحكومة على تأسيس الحزب الذي من المفترض أن يتقدم الى انتخابات ببرنامج واضح على أساسه يمكن له حجز موقع في الحكومة. أضحى الشعار هو الاستوزار أولا ثم تشكيل الحزب وطرح "البرنامج" ثانيا؛ وطبعا فهذا الوضع مريح جدا، لأنك ستخدم الحزب و"البرنامج" من مواقع ليست متاحة لكل الفاعلين. إنها ما بعد الديمقراطية!.. إنها ما بعد الحداثة!... أو قل إنها التفكيكية بامتياز!...لا بد لنا أن نطرح هذا السؤال للرأي العام: هل ستتاح لنا الفرصة نحن، طبقا لنفس قواعد ما بعد الديمقراطية المعمول بها، أن نستوزر حتى نتمكن من انجاز نفس المهمة في تأسيس حزب يعبر عن آرائنا! على أي، فالأصالة والمعاصرة، لم يكتف بموقعه في الحكومة التي انوجد فيها، على حين غرة، بل انه اليوم يحاول الدخول على خط الاجتماعي/النقابي/الاحتجاجي، من خلال حواراته مع الدكاترة المعطلين، ومن خلال مفاوضاته مع مهنيي النقل أثناء الإضرابات الأخيرة... لا شيء يدعو الى الغرابة في هذه الممارسات، فهي "مشروعة ومقبولة" بعد أن صار الحزب ممثلا في حكومة سابقة عليه، لعله يملك عصى سحرية لحل كل هذه المشاكل الاجتماعية!. كما أنه من حق أي طرف سياسي إيجاد موطئ قدم له في الحقل النقابي، بعد أن يستتب له الوضع في الحقل السياسي؛ غير أن ما هو مدعاة للسخرية في هذه المحاولات، أن يكون ذلك في مشهد نقابي يتسم بتشرذم مكوناته وبفقدانها الثقة في الفاعل السياسي أصلا. إن حوارا اجتماعيا، كهذا الذي ينقطع ويسترسل تبعا لممارسات سياسوية بين أحزاب الأغلبية الحكومية، لن يفضيا الى نتائج محمودة ومقبولة من طرف الشغيلة المغربية. فالحوار الاجتماعي، بدلا من أن يؤدي وظيفته في إرساء السلم الاجتماعي، نراه ينزلق في خضم الصراع الدائر بين مكونات الأغلبية الحكومية، الى متاهات وشعارات سياسوية بخلفيات انتخابوية. 5- في الدلالات السياسية لتبعثر الحقل الاجتماعي في ضل هذه الشروط السياسية الآخذة، منذ مدة، في التبلور، والتي سرعان ما انكشفت معالمها اثر التحركات التلقائية الأخيرة لفئات واسعة من الطبقة العاملة المغربية، تتبدى إشكالية التمثيلية ومأزق المأسسة المزعومة. ذلك أن الحقل الاجتماعي، بما هو انعكاس وعكس للمستوى للسياسي العام، إنما يتسم، في المرحلة الراهنة، بنوع من البعثرة القصوى، لا يملك فيها أي طرف، كيف ما كان وزنه الاجتماعي، حق احتكار التمثيلية. تستبطن إذن هذه المستجدات الأخيرة مؤشرات سلبية عما آل ويؤول إليه الوضع السياسي العام بالبلاد. كان يجب على الدولة – وليس الحكومة- التقاط هكذا مؤشرات والعمل، بكل حيادية، على توفير الشروط السياسية الملائمة لتجاوز هذا الوضع المختل الذي ينذر، لا محالة، بانفلاتات واسعة وخطيرة، ليس فقط على السلم الاجتماعي، بل على السلم الأهلي بمفهومه السياسي العام. من زاوية نظر سياسية، ما ذا يعني أن ترفض مدونة، أو شبكة، من طرف الفئات الشعبية، من بعد موافقة البرلمان والنقابات والحكومة عليها؟ ....ألا يعني هذا بداية فك الارتباط بين البنيات الفوقية المؤسساتية/القانونية، وبين البنية التحتية باعتبارها بنية تضم ذلك الحس المشترك (بتعبير غرامشي في تحليله للكتلة الإيديولوجية) لمجموع الجماهير الشعبية التي هي، في مثل هذه المراحل التاريخية، توجد في حالة انفصام بين ذلك الحس المشترك، وبين وعيها المبعثر (الفلكلور بتعبير غرامشي دائما في الكتلة الإيديولوجية) الذي يعيق كل إمكانية في اصطفافها تنظيمها في تنظيم اجتماعي سياسي وازن وعريض، أي بكل بساطة مركزي. إن ذلك الوعي المبعثر ينجم عن ضعف أو غياب ذاك التنظيم المركزي الاجتماعي السياسي الوطني الحامل لطموحات طبقية مشتركة، ونقصد بهذا تحديدا تفكك، أو قل على وجه الدقة اضمحلال إن صح تعبيرنا، تلك الكتلة التاريخية، ليس فقط في بعدها السياسي بما يعنيه ذلك من تحالفات بين قوى اجتماعية تاريخية، وإنما في بعدها الإيديولوجي العام، وهذا هو الأهم... يوازي هذه العملية التاريخية المعقدة، بداية تشكل/صعود جدلي لكتلة تاريخية جديدة. ونظرا للأهمية النظرية والسياسية اللتين يتيحهما رصد هذا المخاض التاريخي، بتداعياته الجذرية على الكل الاجتماعي، مع ما يطرحه ذلك من تعقيدات وصعوبات في الرصد والتحليل، فإننا نعود ونؤكد على محورية وأهمية ذاك السؤال الذي طرحه الرفيق لحبيب الطالب في ماهية الكتلة التاريخية الناشئة في المرحلة الراهنة، وهذا السؤال إنما يستبطن إشارات الى نوع من التحولات العميقة – التفكك - في الكتلة التاريخية الراهنة. 6- في التهافت السياسوي على الإضراب: الأصالة والمعاصرة نموذجا ما زاد الطين بلة اليوم، هو الاشتباك الحاصل بين كل الأطراف الحكومية وعدم قدرتها على بناء تحالفات واضحة المعالم. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على تفكك الحقل السياسي، خاصة بعد انتخابات 7 شتنبر 2007، وما أفرزته من تقاطبات وتحالفات وانشطارات جديدة. يتبدى ذلك التقاطب ليس فقط في المستوى السياسي، وإنما أيضا في الحقل الاجتماعي وتحديدا النقابي، بحيث أننا اليوم أمام محاولات حثيثة يقوم بها حزب الأصالة والمعاصرة لاقتحام مسرح الأحداث النقابية، وهو الذي حاول الظهور بمظهر القادر على تنقية الأجواء وإقناع مهنيي النقل بوقف إضراباتهم، خاصة بعد فشل محاولة الوزير الأول عباس الفاسي في إقناع ذلك الجمهور الغفير من ممثلي مهنيي النقل. ألا يتعارض استقبال الوزير الأول عباس الفاسي لوفد غفير من ممثلي مهنيي النقل مع الخطاب الحكومي بخصوص "الأكثر تمثيلية"؟...أم أن أطراف ذلك الوفد الغفير، الذي فاوض الوزير الأول، كانت تتمتع بالتمثيلية الكافية في أوساط مهنيي النقل!؟...إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لم تفاوض الحكومة، منذ اليوم الأول للإضراب، من هم أصحاب التمثيلية الحقيقية تفاديا للتطورات والتداعيات اللاحقة!؟... هناك احتمالان - منطقيان - لا ثالث لهما لشرح ما جرى: إما أن الحكومة لم تكن تعلم من هم أصحاب التمثيلية الحقيقية في أوساط مهنيي النقل بخاصة وفي صفوف الشغيلة المغربية بعامة، وإما أنها كانت تعلم ذلك وفضلت أن تفاوض النقابات المرتبطة بها والحليفة لها لتسهيل تمرير المدونة/الشبكة. يضل هذان الاحتمالان – المنطقيان- غير كافيين لكشف الحقيقة كاملة، ذلك أن الحكومة كانت على علم بخريطة القوى النقابية، ليس فقط في أوساط مهنيي النقل، بل في كافة القطاعات؛ ومع ذلك، فهي ضلت تغني أنشودة "الأكثر تمثيلية"، لا لشيء إلا لأن هذه النقابات كانت أكثر تفهما لشروط الحكومة في تمرير مدوناتها وشبكاتها..... ولما دقت الساعة، وجاء الإضراب، على حين غرة، ارتبكت الحكومة في أدائها السياسي، ومعها النقابات "الأكثر تمثيلية".... ما كان أمام الوزير الأول - بعد عناد كبير- إلا أن يستقبل كل ذلك الوفد الغفير من ممثلي المهنيين، من دون أن يشترط في أحدهم التمثيلية، وهي سابقة قل نظيرها إنما تنم عن ضعف سياسي وقصور في الرؤية واستحضار للمصلحة الحزبية الضيقة، ولو من موقع حكومي. في غمرة الارتباك هذا، تناسى الوزير الأول أن يحدد أي فريق فيهم هو أكثر أو أقل تمثيلية؛ ذلك أنه في مثل هذه الأوقات الحرجة المتسمة بحالة قصوى من الارتباك السياسي، يصير المشهد ضبابيا، وفيه تفقد التمثيلية عظمتها وقوتها وشرعيتها، ولا يهم آنذاك سوى حفظ ماء الوجه؛ لأجل ذلك كله تنتفي الحاجة إلى التمثيلية باعتبارها شرطا من شروط "الحوار الاجتماعي" في غياب الإضراب. ليس للتمثيلية، إذن، من معنى، إلا عندما تهدأ الأوضاع وتعود الأمور الى نصابها، آنذاك يرتفع الارتباك عن الأداء الحكومي، وآنذاك بالذات تعود سمفونية "التمثيلية"، وما أدرك ما التمثيلية!!... إنها بكل بساطة حق أريد به باطل. في مثل هذه الأوقات العصيبة – أيام الإضراب - التي لا مجال فيها للحديث عن التمثيلية، يتحلق بأهل الإضراب محترفو العمل السياسوي، فيكثر الوسطاء والمتدخلون، ويحاول طرف منهم ادعاء الفضل له في إقناع المضربين في إيقاف الإضراب. أما تحرك هؤلاء فيبرر، منهم، على أساس أنه تدخل لا بد منه من أجل "المصلحة العليا للبلاد" دائما. تصدر البيانات والبيانات المضادة، فلا تترك للرأي العام فرصة لتلمس الحقيقة التي يحاول أولئك السياسويون المتحلقون بأهل الإضراب إخفاءها.... بيد أن الحقيقة تأبى إلا أن تكشف عن نفسها وتكذب هؤلاء السياسويون. ألا يوجد ضمن هؤلاء المتحلقين بأهل الإضراب من ساهم بالتصويت على تمرير مدونة السير في الحكومة وفي البرلمان!!؟... حتى إذا جاء الإضراب، وحمي الوطيس، تسارع هؤلاء بحثا عن أدوار ووساطات سياسوية، لعلها تسندهم في حملاتهم الانتخابية القادمة. انكشفت، إذن، الحقيقة، وسقط القناع عن السياسة، كما هي تمارس اليوم في المغرب؛ أية نتيجة منتظرة لهذه الممارسات سوى المزيد من العزوف السياسي والانتخابي. لقد حاول البعض، بكل السبل، الارتزاق السياسوي، والقفز عن الإضراب الأخير، حتى أن السمة الأساسية للمشهد صارت هي صراع الكل ضد الكل!... لماذا هذا التصارع السياسوي في وقت توجد فيه فئات واسعة من أغلبية الشعب المغربي في وضعية المتفرج؟... ربما كان أهل الإضراب أكثر نضجا ووعيا في تحديد أهدافهم، ما زاغوا عنها في شيء، رغم كثرة وتعدد الوسطاء والمحاورين "أصحاب الحل والعقد"؛ وهذا ما حدا بهم الى إفشال كل تلك المحاولات السياسوية. فإذا نظرنا الى محاولات الأصالة والمعاصرة، في إقناع المضربين في وقف الإضراب، فنحن لا نعرف من أي موقع كان، هذا الحزب، يفاوض المهنيين: أمن موقعه في الحكومة ومن دون التنسيق مع مكوناتها، وفي ذلك تجاوز لصلاحيات الوزارة الوصية ولصلاحيات الوزير الأول.... أم من موقع ذاك التنظيم الاجتماعي "المسيطر" في ذلك التكتل النقابي التنسيقي الذي أشرف على تأطير الإضراب وفي إقناع المهنيين برفع الإضراب!!.. على سبيل الختم ليس هذا الذي يجري حاليا سوى بعض من مؤشرات اجتماعية وسياسية عديدة لما آل إليه الوضع السياسي العام من رداءة ومن تشوه، وهو وضع يحمل معه العديد من المخاطر ما لم يتم إعادة النظر في كيفية تدبير الشأن السياسي العام، وفقا للأهلية والكفاءة والتمثيلية الحقيقية المستمدة من انتخابات حرة ونزيهة، ولكن أيضا بصلاحيات سياسية ودستورية للمنتخبين؛ وهذا لن يتأتى إلا بمباشرة إصلاحات سياسية ودستورية تفصل بين السلط التشريعية والتنفيذية والقضائية. في غياب ذلك سنشهد استمرارا لهيمنة بعض الفئات/الأسر الارستقراطية المحظوظة على كل مفاتح تدبير الشأن العام الوطني الذي يجب أن لا يبقى حكرا لهذه الفئات التي تتقلد المناصب العليا في الدولة، عبر شبكة من الولاءات والروابط الاسرية الخ .... أما ما نعنيه بالارستقراطية هنا فهو أن تلك الفئات، رغم تمظهرها الحداثي، إلا أنها لا تملك بعد مشروعا سياسيا واقتصاديا وثقافيا، على الأقل، ذي مضمون برجوازي ديمقراطي يؤهلها للقطع مع سيادة اقتصاد الريع، وإرساء أسس التنافسية الاقتصادية، ووضع حد لسيطرة بعض من هذه الفئات على المناصب العليا في المؤسسات الوطنية، والتي من المفروض أن تنفتح على كل الكفاءات الوطنية من دون تمييز.... ليس آل الفاسي سوى نموذج من هذه الفئات المحظوظة، وللحديث بقية.