اللافت في مقالة هيفاء أحمد الجندي (»السفير« 2/10/2010) ذلك الهاجس المستقبلي، تطرحه الكاتبة أمام قوى اليسار العربي، خاصة، رغم كل الإحباطات الراهنة. في مقالتها التي نشرت تحت عنوان »دور المثقف النقدي في التغيير والنهوض« تطرح الكاتبة عدة أفكار وقضايا ضمن هذا السياق النقدي والتغييري. أحب هنا أن أشارك الكاتبة البحث والتفكير في اقتراحين اثنين ترى الكاتبة أن العمل على تحققهما يرتقي إلى مستوى الضرورة النضالية والمعرفية معاً. ويكتسب هذان الاقتراحان راهنيتهما من كونهما نتاج أزمة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والتطلع إلى آفاق للتغيير في مسار هذا الواقع المأزوم، عبر التحرك النضالي العملي، وتفعيل السجال الفكري في اتجاه معرفة أعمق وأشمل للواقع العيني الذي تعيشه مجتمعاتنا. هل جاء دور »المثقف النقدي«؟ أما الاقتراح الأول فيتناول ما تدعوه الكاتبة »المثقف النقدي«، وهو اليساري المنطلق أساساً من الأفكار الماركسية ولكن المتحرر من التقاليد الحزبية التي جمّدتها ممارسات قيادات حزبية هنا وهناك، ويتوجه بانتقاداته إلى حيث يرى ضرورة لهذا الانتقاد. ولن نكشف جديداً إذا اعترفنا بأن كثيرين من المثقفين النقديين، ذوي المخزون المعرفي و/أو العقل التجديدي قد تعرضوا، عبر تاريخ الأحزاب الشيوعية العربية، إلى الإبعاد أو التجميد أو الطرد، لمجرّد محاولاتهم قراءة واقعنا الاجتماعي العيني وتحليله في ضوء النظرية الماركسية العامة، بعيداً عن تلك »التعاليم« المتعارف، أو المتوافق، عليها. تمارس قيادات في الأحزاب هذه التدابير القمعية بوهم وبحجة: أن محاولات تجديدية كهذه ولو معرفياً تشكل انزياحاً أو انحرافاً عن »القوانين العامة« الرسمية المعتمدة في الدوائر الفكرية لوطن الاشتراكية الأول!! ولنتذكر هنا مثلاً حكايات إبعاد وطرد مجموعة إلياس مرقص من عضوية الحزب الشيوعي في سوريا، ومجموعة رئيف خوري عن الحزب في لبنان، وتلك الحملات »الفكرية« السياسية العنيفة ضد مختلف المبعدين أو المطرودين!. ولأن الكثير من المثقفين النقديين راهناً، الذين ينطلقون أساساً من الفكر الماركسي، صاروا يرون عملياً أن الأحزاب الشيوعية العربية لم تعد هي المنبر الحقيقي لهم... (وهم كثر ويتوزعون على العديد من منابر الصحف العربية) فإن الكاتبة ترى، مع الكثيرين من هؤلاء النقديين: »ضرورة إنشاء تكتل ثقافي فكري نقدي، على هامش هذه الأحزاب، ينطلق من الأفكار الماركسية« أساساً. على أن هذا المسار الذي تحدثنا عنه الكاتبة بصدد تكاثر اليساريين غير المنتمين لأحزاب اليسار، بما فيه بالأخص الاقتراح (بإنشاء تكتل ثقافي فكري...) يطرح بدوره أسئلة ومشكلات: مدى توافق هؤلاء، أو العديد منهم، وفي هذا البلد العربي وذاك، على إقامة هذا »التكتل« ولو كان »ثقافيا فكريا...«، وتالياً، مدى الجهد العملي والأخلاقي لتجنيب »التكتل« أمراض الخلافات والصراعات والمطامح »القيادية« التي لم تصب الأحزاب فقط، بل أصابت العديد من هذه التكتلات نفسها بهذا القدر أو ذاك بممارسة القسوة والتباعد والتشرذم!. خطر التوهم بتحويل التكتل إلى حزب أو قيادة لحزب جديد! أو خطر الممارسة الانتقادية التهجمية من قبل البعض من هؤلاء في مواجهة الحزب الأساس، من موقع العداء لهذه المؤسسة نفسها، وليس من الموقع النقدي الرحب للفكر الماركسي نفسه، بما يوصل ربما إلى ما يشبه حزباً صغيراً بالمواصفات والممارسات نفسها التي أدت إلى إبعاد أو ابتعاد الكثيرين من هؤلاء أنفسهم عن الحزب الأساسي!. ولعل الضمان الفعال لتجنيب هذا التكتل، أو التجمع، الثقافي الفكري، تلك الأمراض التقليدية، هو: ذلك المضمون الثقافي الفكري المتوجه أساساً للإنتاج الفكري الثقافي النظري وتجذيره محلياً وقومياً، وبما يتطلبه هذا المسار، بالضرورة وبالأخص، من »انسجام قيمي أخلاقي« في ما بين هؤلاء النقدين، فبدونه لا يغتني فكر هذا التكتل، وفعاليته، ولا تتطور أفكار اليسار العربي عموماً، ولا يتاح لهذا اليسار الماركسي العربي أن يقدّم إسهامه العربي الجديد في العالم الرحب لماركسية خلاقة رائية متجددة، ومعاصرة. هذه العناصر من المثقفين اليساريين النقديين، الموجودة على هامش الأحزاب الشيوعية، والتي شكلت ظاهرة ما بعد الانهيار خصوصاً، لا بد أن تتكاثر في بلادنا، على هامش هذه الأحزاب، إذا ظلّت وسائل أحزابنا الماركسية، الرسمية، هي نفسها الوسائل التقليدية الجامدة والمجمّدة لمسار التطور الفكري النضالي لأي عنصر جديد آت إلى الحزب يحمل أشواقه للتغيير، ورغباته للتثقف، وطهارته النضالية. الانطلاق الواعي لهذه العناصر، في هذا المسار، ضروري، وكذلك أعمال الفكر والإنتاج الفكري أكثر من ضروري... إضافة إلى الضرورات القصوى للتعاون والتفاعل الرحب مع الحزب الأساس... فالنقد من مواقع الخصومة أو العداء ليس له أي فعل سوى الفعل التدميري. وإذا كان الاختلاف هو الطبيعي، فإن السجال الحر والديموقراطي هو المطلوب. ولكن، ما دام هذا المثقف النقدي مثقفاً أساساً ونقدياً، بمعنى انه متحرر من أي التزامات تقيّد حريته الفكرية، وانه ينطلق، بهذه الدرجة أو تلك، من الماركسية المعاصرة... فلا بد أن تنطوي هذه التجمعات من المثقفين النقديين على إمكانية التركيز على العمل الفكري، بما يؤدي إلى تقديم شكل من أشكال إسهامنا العربي في حركة تكوين ماركسية جديدة ومعاصرة، تبحث في راهن هذا الفكر، ما بعد الانهيار، وفي الأسباب والجذور العميقة لهذا الانهيار، متحررة من ذلك التقيّد القديم بسقف »أفكار وطروحات وصياغات« الايديولوجيين »الماركسيين« الرسميين للدولة السوفياتية. ومتحررة أيضاً وخاصة من السقوف السياسية لقيادات الأحزاب الشيوعية العربية المختلفة والمتخالفة، سواء في أشكال الممارسة أو في برامجها وعلاقاتها ضمن بلدانها... هذا التحرر من شتى السقوف والتقيدات هو الخميرة الفعالة للإبداع وجديد الرؤية على صعيد الفكر والنظرية. لتفعيل القاعدة النظرية لليسار: هل تتكوّن »الورشات الفكرية«؟ وهنا نصل إلى الاقتراح الثاني الذي يشكل ضرورة للسير في تحقيق الأمنيات والتطلعات والتوقعات، أعلاه، على صعيد الفكر والنظرية خاصة. ... »فهذه التوجهات والتطلعات تقول كاتبة المقالة ليست برومنسية ثورية، ولكننا ننطلق من فكرة أن أكثر مرحلة تتطلب شحذ الهمم هي مراحل الانكسار والهزيمة، باتجاه أن نعيد وصل ما انقطع من السياق الناهض، سياق مهدي عامل وإلياس مرقص وسمير أمين وأمثالهم... وهذا يستدعي إقامة (ورشات فكرية نقدية) تبحث، تفكر، تحلّل«، وتعمل على إنتاج المعرفة، أي حسب قول مهدي »توسيع قاعدة المعرفة النظرية في الحزب« والقوى الجديدة لليسار العربي. فإذا رأيت في هذا الاقتراح توجهاً مستقبلياً أكيداً ومطلوباً، فهو في الوقت نفسه له جذوره في الماضي القريب، فيعود بذاكرتي إلى فترة بدايات التكوين الأولي، العفوي ربما، لمثل هذه »الورشة الفكرية«، وكانت هاجساً عزيزاً من هواجس مهدي عامل وأمنياته المعرفية، وقد بذل جهداً دؤوباً في سبيل تحقيق صورة أولية، خصبة، لها. كان هذا مع بداية السبعينيات، أيام وجود مهدي عامل العاصف في حياتنا الفكرية، وفي هيئة تحرير مجلة »الطريق«، فكانت اللقاءات الثقافية الفكرية والإنسانية في مكتب »الطريق« بمثابة أشكال وتجارب وبروفات لورشة فكرية، أوّلية، ولكنها فاعلة، حرّضت على إنجاز نتاجات خصبة في مجالات النظرية والفكر والثقافة عموماً وفنون الأدب والمسرح والسينما... وتترامى إليّ الآن أصداء ووقائع السجالات المتواصلة، سواء تلك المنشورة على صفحات المجلة نفسها، أو شبه الصاخبة والخصبة في مكتب »الطريق«... ولا مبالغة في القول: إن مهدي عامل كان اللاعب الأساس والمحرض الفعال في السجالات التي أسهمت في الاغتناء الفكري للمجلة، والاغتناء الثقافي الفكري على الصعيد الشخصي لكل من كان في فعاليات هذه الورشة، الصاخبة طبعاً والخصبة بالتأكيد. فإذا رجعت إلى كتابات لمهدي تلمس يقينا لديه بأن من شأن تكوين هذه »الورشة الفكرية« أن تمارس تأثيراً فعالاً في تطوير النظرية نفسها وتدقيقها. ففي العام 1986، يعيدنا مهدي إلى بدايات تطلعه وسعيه لإقامة هذه »الورشة...«، إذ يكتب انه: »... منذ أكثر من عشر سنوات، بل منذ أول بحث لي (في التناقض 1972) ميّزت عملي بأنه حرفي، لأنه فردي، وسعيت إلى أن أستثير النقد، لعل (ورشة فكرية) تبدأ، فيكتشف الفكر فيها حدود فكره، إذ يلتقي فيتصادم بفكر الآخرين في عمل بحثي يترابط ويتناقض فيتكامل جماعيا، هو شكله العلمي... فالفكر بالنقد، والنقد المضاد، يتدفق« (في الدولة الطائفية: ص 203/ 1986). فهل نحتاج إلى التذكير بأن تتالي الانهيارات والهزائم، يتطلب منّا تحديداً في الحزب الشيوعي وقوى اليسار والعلمانية تزايداً استثنائياً في تشغيل الفكر!... ولكن المحزن الذي يدفع إلى التشاؤم، هو الحالة النقيض لما هو ضروري: فالفكر يصير إلى التكاسل... فإذا أمعن يصل ليستقر في الكسل!... أما القراءة فتصير غالباً من ذكريات الماضي... كأن يقول لك واحد من الرفاق المرموقين: »قرأت منذ سنوات...«!. ويسرد عليك هذا المتباهي بعض ما »يتذكره« من قراءاته... أيام زمان!! أريد أن أقول: إن الكثيرين من رفاقنا، سواء الذين منهم في القمة، أو الذين منهم في المراتب الوسطى (ومنهم كاتب هذه السطور)، أو الذين منهم في القاعدة الحزبية (الذين أعقد عليهم دائماً الآمال الخضراء)... هؤلاء وهؤلاء، ليس إنهم فقط يحجمون عن الكتابة الفكرية (بعد أن كانوا قديماً يكتبون)، بل إن الأكثرين منهم يحجمون، بهذا القدر أو ذاك، حتى عن القراءة... أو حتى عن قول رأي بما يقرؤون! ومع هذا، ففي هذا »المناخ«، الباعث على التشاؤم، نتجرأ نحن لنطرح مسألة »إقامة ورشات فكرية نقدية تهدف بالأخص إلى توسيع قاعدة المعرفة النظرية« داخل هذه الأحزاب، وعلى صعيد قوى اليسار، على اختلافها، في البلدان العربية. ولكن، إذا قلنا إن المناخ الرمادي باعث على التشاؤم، فلا بد لنا أن نستعين، هنا والآن، بحكمة الماركسي الايطالي انطونيو غرامشي بالقول: إن تشاؤم العقل محكوم بالأمل، ولعله أن يكون محكوماً عند المناضلين بتفاؤل الإرادة.