نزلت إلى المكتبات المغربية خلال شهر ماي المنصرم، طبعة جديدة من كتاب نايف حواتمة «اليسار العربي، رؤيا النهوض الكبير، نقد وتوقعات»، من منشورات البيان بالدار البيضاء. وكانت سبع طبعات قد صدرت من هذا الكتاب في دمشق سنة 2009 ثم تتالت الطبعات بغزة ثم عمان ورام الله وتونس... وهذه الطبعات المتلاحقة في ظرف وجيز جدّا، تعكس أهمية الكتاب وموقع الكاتب نايف حواتمة لا باعتباره رمزا للنضال الفلسطيني فحسب إنما أيضا لأسلوبه ومنهجه السياسي والفكري ووضوح رؤيته. وبمناسبة اقتراب إصدار الطبعة الجزائرية، نورد قراءة عاشقة للباحث الجزائري الدكتور فوزي أبو دقة، وهو أستاذ محاضر ومدير بحوث بجامعة هواري بومدين للعلوم والتكنولوجيا بالجزائر. مقدمة لا بد منها تزدان قريباً المكتبات في الجزائر بمؤلف يحمل عنواناً مثيراً ومحفزاً للقراءة بما يحتوي عليه من قضايا هامة جديدة، شغلت ولا تزال الرأي العام، مفكرين وقوى وأحزاب: «اليسار العربي رؤيا النهوض الكبير.. نقد وتوقعات» لنايف حواتمة الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، أحد القادة التاريخيين للثورة الفلسطينية، زعيم إحدى المكونات الثلاث الرئيسية، في منظمة التحرير الفلسطينية (OLP) على حد وصف رجال السياسة والإعلام. (الكتاب صدر في المغرب أواخر شهر ماي الماضي من مطبوعات البيان) أتذكر ويتذكر معي الكثيرين من الأصدقاء، من المثقفين والكتّاب والأدباء والسياسيين والصحافيين هنا في الجزائر، أنه عندما كانت تعقد دورات المجالس الوطنية الفلسطينية في نادي الصنوبر بمدينة الجزائر، تتوقف بعض الأحيان أعمال المجلس الوطني «لحلحلة» قضية ما، مثار جدل واختلاف في وجهات النظر الفلسطينية، ويخيّم القلق بين أعضاء المجلس، تطلعاً لإجماع فلسطيني، كان يتداول آنئذٍ في أروقة السياسة والصحافة الجزائرية، ووكالات الأنباء وقنوات التلفزة الدولية التي تغطي الحدث: يتم التوصل إلى الإجماع الفلسطيني، عندما تتوافق المكونات الثلاث الرئيسية لمنظمة التحرير الفلسطينية، هنا فقط تتمكن القافلة الفلسطينية من السير إلى أمام، وكان يقصد بذلك توافق التنظيمات الثلاث: فتح والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين والجبهة الشعبية، ويتردد تلقائياً ذكر أسماء الزعماء: ياسر عرفات ونايف حواتمة وجورج حبش في أوساط القيادة الجزائرية، التي كانت تعمل لتهيئة أجواء الوفاق الفلسطيني وبخاصة بين القادة الثلاث، وتوفر المكان في الزمان العربي الصعب، وبرز ذلك جلياً في الدورة 16 ليطلق عليها «دورة المجلس الوطني الفلسطيني التوحيدي» أبريل 1987، لتضع بقراراتها حداً للانقسام الحاد بين 1983-1987، ولتؤسس وتمهد للانتفاضة الفلسطينية الأولى. وقعت مثل هذه الرواية في معظم الدورات المتعاقبة للمجالس الوطنية الفلسطينية، التي عقدت بالجزائر، حيث يقال دائماً عند كل منعطف حاد ومصيري، لا يمكن إيجاد الحلول للقضايا المطروحة على جدول أعمال النضال الفلسطيني، إذا لم يتم التوصل إلى نقاط التقاء، ومساحات مشتركة بين القيادات التاريخية للفصائل الرئيسية الثلاث. عودة إلى حواتمة المؤلف، يفتخر المرء ويبتهج، عندما يرى قائد وطني من أبرز القادة التاريخيين للثورة الفلسطينية المعاصرة، وزعيم حزب وتنظيم رئيسي في الثورة ومنظمة التحرير الفلسطينية، بما يترتب عن ذلك من المتابعة الميدانية الشاقة، للمهام النضالية بكافة أشكالها داخل الوطن وخارجه، ومجموع العلاقات الوطنية والعربية والدولية، التي نسجها الرجل طيلة العشريات الخمس الماضية من عمره ولا يزال، ويجد ما يكفي من الوقت ليكرّسه لأعمال التأليف، ولإنتاج وتطوير الأفكار والقضايا النظرية المستندة إلى التجربة والممارسة، بالجمع بين «سلاح الفكر وفكر السلاح»، «سلاح النقد ونقد السلاح» و»سلاح الإيديولوجيا وإيديولوجيا السلاح»، والجمع بين البرنامج الثوري الوطني المرحلي: «تقرير المصير والدولة والقدس عاصمة وحق العودة»، وبين البرنامج الاستراتيجي الطويل الأمد «فلسطين التاريخية دولة موحدة لكل مواطنيها» من منظور التحرر الوطني، على حد تعبير المؤلف (ص36). هذا الجهد الذي كرسّه حواتمة لإنتاج وتطوير الأفكار، يمكن تلمسه أثناء تصفح الكتاب ليتضح بأنه الكتاب السابع للمؤلف. لعل في ذلك ما يعزّي المفكر والكاتب التونسي المعروف العفيف الأخضر، الذي ناضل في صفوف الثورة الفلسطينية أواخر الستينيات، والسنوات الثلاث الأولى من السبعينيات، صديق الجبهة عند نشأتها وصديق قيادات فلسطينية عديدة، عندما لاحظ آنذاك، أنّ القحط الفكري في صفوف الثورة الفلسطينية، ضارب أطنابه في مستويات بنيوية مختلفة، مستثنياً الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وزعيمها نايف حواتمة. العنوان والمحتوى لأشد ما يلفت انتباه القارئ ذلك العنوان المثير، اليسار العربي رؤيا النهوض الكبير (نقد وتوقعات) الذي يطرح جديداً، ويناقش قضايا فكرية حاسمة بهذا الحجم، كانت ولا تزال محط اهتمام الأحزاب والقوى اليسارية والراديكالية، منذ سقوط جدار برلين وانهيار التجربة السوفييتية وتجارب المنظومة الاشتراكية، نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات. ويخوض نقاشاً ضارياً من منظور الناقد ولكن الناقد المتفائل، واضعاً محددات رؤيوية عامة لليسار العربي والفلسطيني المنشود، نحو عالم العصر والعلم والمعرفة، نحو تحقيق الأهداف الوطنية والقومية في تحرير الأوطان، وفي التخلص من التبعية بكل صنوفها، بعد جولة نقاش واسعة ورصد التحولات الكبرى اليسارية الديمقراطية، الجارية في أمريكا الجنوبية والكاريبي والهند، والنهوض التنموي الكبير في الصين وفيتنام وجنوب شرق آسيا، وجنوب أفريقيا والتقدم العلمي العسكري في كوريا الشمالية، وتجارب الديمقراطية الاشتراكية في أوروبا. يأتي الكتاب في 415 صفحة من القطع المتوسط، يحتوي على مقدمة سريعة، جاءت في صورة إشارات وتنويه وخمسة فصول، الفصل الأول بعنوان اليسار العربي، رؤيا النهوض الكبير (نقد وتوقعات) والفصل الثاني في الرؤيا والممارسة، أما الفصل الثالث فجاء بعنوان جدلية اليسار العربي الجديد، واليسار الفلسطيني (نموذج الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين) والفصل الرابع يحتوي على وثائق في مسار النضال (وقائع ملموسة) الفصل الخامس والأخير ويحتوي على صور وأحداث توثق لمواقف. الأسلوب والأدوات تميز المؤلف في إنجاز الكتاب بأسلوب علمي تجديدي يواكب العصر، يتماهى مع أحدث مناهج الكتابة والنشر في العالم المتقدم، أسلوب يقوم على التشخيص، التحليل والنقد، يحترم المقاييس المتعارف عليها في التبويب، وبناء الكتاب وتقسيماته والإحالات وضبط الهوامش، أما مراجعه فهي الحياة الواقعية والعملية الملموسة، التي تمثلها المساهمات الكفاحية والفكرية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وقيادتها وعموم مناضليها، وعلى رأسها أمينها العام نايف حواتمة، كما تمثل في توثيق النص وبصورته الأصلية، كخطوة متقدمة من المصداقية، ومن خلال الصورة التي هي في ناموس البحث العلمي المعاصر، بمثابة وثيقة حية أكثر دلالة أكثر تعبيراً.. هذا من حيث الشكل الذي لا يقل أهمية عن المضمون، وحول هذا الأخير، فلقد قدّم المؤلف وبدقة متناهية وبذكاء شديد أيضاً، «اختزالا» مكثفاً لمعظم ما سيحتويه الكتاب، في الصفحات 13، 14 و15 وكأنه يضع القارئ ويهيئه إلى «خارطة طريق» لما يحمله الكتاب من مواضيع فكرية في فصوله الخمس، مستهلاً بإهدائه إلى قوى التغيير والحداثة نحو عالم عربي جديد عالم الديمقراطية والعدالة، متقدماً بالتقدير إلى الذين قدموا الجهد في النضال في الحوار وتطوير الأفكار، وإلى كل من ساهم بالجهد اللوجستي في إخراج الكتاب. يلمس القارئ الدقة العالية لدى حواتمة، في اختيار المعاني الدالة والكلمات المفتاحية والمفاهيم شديدة التوصيف، كتناول المؤلف لتاريخ مفهوم أو مصطلح «اليسار العربي» في إطار تاريخ المجتمعات العربية تناولاً نقدياً، فاتحاً الباب أمام كل مجتمع، في كل بلد، مشرقاً ومغرباً، لنقل المفهوم من الإطار الفضفاض، وأخذ «اليسار» بالجملة وكتلة واحدة، إلى الإطار الأكثر تحديداً، وبالتجسيد العلمي الملموس وناظمه القانوني، المتمثل في النقد ونقد برامج العمل، وعدم فقدان البوصلة للرؤية السليمة، للحدود بين التكتيك والإستراتيجية. يتجلى أسلوب التحديث ومواكبة العصر لدى نايف حواتمة، بالانتقال من خطاب الجملة الطويلة، إلى خطاب الجملة القصيرة، والانتقال السلس والمنطقي من فكرة إلى أخرى، واستخدام المصطلحات المباشرة والمعاصرة، والتوازن بين ثقل الوزن الفكري والنظري، لاسيما الفصل الأول بصفحاته ال 74، والجانب الرؤيوي والممارسة بالفصل الثاني، وبين تجربة اليسار العربي والفلسطيني، ونموذجه الأساسي الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين بالفصل الثالث، وتخفيف وزن الشحنة الفكرية بالفصلين الرابع والخامس، من خلال الوثائق والصور والأحداث، التي يتشوق إليها أي قارئ، لسببين الأول الشعور بمصداقية مضافة موثّقة، وثانياً لإشباع غريزة حب الاطلاع. انصب اهتمام الفصل الثاني الرؤيا والممارسة، تجربة اليسار الديمقراطي الفلسطيني وآفاق التطور والإحياء التقدمي، باستخدام النقد والنقد الذاتي، من خلال حوارات عميقة وشاملة أجريت مع المؤلف، تناولت التجربة بإنجازاتها وإخفاقاتها، المفاوضات بلا أفق وغير المسقوفة زمنياً، مرحلة التحرر الوطني وقوانين النصر والهزيمة، التحالف والنقد، الاتفاق والاختلاف في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، الدور الوحدوي والتوحيدي تاريخياً للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، أربعون عاماً في الثورة، الأزمة الراهنة ومبادرات الجبهة في درء مخاطر الانقسام الفلسطيني، دروس عملية الرصاص المصبوب الإسرائيلي الصهيوني على قطاع غزة. وكُرّس الفصل الثالث لليسار العربي الجديد واليسار الفلسطيني، الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في عيون «الجزائر الجمهورية»، اليسار الجديد المغربي واليسار الفلسطيني، وشهادات العديد من المناضلين ورجال الفكر والسياسة والصحافة العرب من الجزائر والمغرب وتونس وفلسطين ومصر ولبنان وسورية واليمن، مثمّنة دور الجبهة الديمقراطية وإسهاماتها فلسطينياً وعربيا،ً وأهمية تحالفاتها الدولية في القارات الخمس. وتضمن الفصل الرابع وثائق في مسار النضال لإنهاء الانقسام (وثائق ملموسة) واشتمل على عشرين وثيقة هامة، رصدت المبادرات والحوارات الفلسطينية، من إعلان القاهرة عام 2005 إلى البيان الصادر عن المؤتمر الرابع للحوار الوطني الفلسطيني الأخير بالقاهرة في 26/02/2009، وتضمن الفصل الخامس صور وأحداث هامة. المصطلحات والمحدّدات يتميز نايف حواتمة القائد السياسي، بخطابه الواضح والمباشر باستخدامه مفردات ومصطلحات، ومفاهيم كثيراً ما أعيد استعمالها في عالم السياسة الفلسطيني والعربي. يشخص يحلل الواقع بالتجربة العملية المستندة، إلى النظرية والعلم، لا يحرق المراحل، فما هو مرحلي له محدداته النضالية المباشرة، خطوات عملية ممكنة التحقيق، تراكم للمهام الكبرى الاستراتيجية. أما حواتمة المؤلف فلقد استخدم في كتابه، عديد من المصطلحات والمفاهيم النظرية المثيرة للجدل، المستندة إلى التجربة النضالية الشخصية، وإلى رفاقه في قيادة الجبهة وعموم مناضليها، التجربة الكفاحية الغنية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، التي أضافت للثورة الفلسطينية المعاصرة، في العقود الخمس الماضية عمقاً فكرياً ناضجاً، في خدمة التجربة النضالية العملية. كما أضافت لحركة التحرر العربية ويسارها تحديداً، نموذجاً يساريا فلسطينياً جديداً وضع النظرية على محك التجربة والتجريب، بعيداً عن القوالب النظرية الجاهزة والأفكار الجامدة. حمل الفصل الأول أفكاراً ومفاهيم وخلاصات تجارب عميقة، شملت ورصدت حراك العالم من حولنا في معظم أنحاء المعمور، بما في ذلك تشخيص حالة اليسار العربي وتجربته الفلسطينية، واضعاً أسس النهوض الكبير والمحددات العامة، لمفهوم اليسار الديمقراطي المرتبط بمفهومي العدالة الاجتماعية والتقدم، وارتباط رؤيته بالأهداف العامة المترابطة عضوياً وهيكلياً: - تحقيق السيادة الوطنية والقومية والتحرر من التبعية. - التنمية الإنسانية المستدامة بكل أبعادها وفي المقدمة تحرير العقل، الإصلاح والانفتاح. - الحلول الديمقراطية للمشكلات «الإثنية، الطائفية والمذهبية» المزمنة تاريخياً في معظم الأقطار العربية. - التطور الصناعي والتكنولوجي. - المساواة في المواطنة دون تمييز في الجنس والعرق والدين والمذهب. - فتح نوافذ الحريات الفكرية والثقافية والسياسية، الحزبية والنقابية، بدون قيود سلطوية. المفاهيم الفكرية ومن أهم المفاهيم الجديدة التي استخدمها المؤلف في أماكن مختلفة، الزمن العربي الدائري عند وصف الحالة العربية، فمنذ القدم إلى هيمنة الإمبراطورية العثمانية الإقطاعية، وحالة التخلف الطويل المزمن، وصولاً إلى بداية القرن العشرين، تساكن الاستعمار القديم والجديد، واعتماد الموروث التاريخي حليفاً وقاعدة اجتماعية وفكرية وسياسية في شكل أنظمة استبداد، ومحاربة كل عناصر المشروع النهضوي الحديث، وطغيان النقل على العقل في خدمة الهيمنة الإمبريالية (أعلى مراحل الرأسمالية) ومشاريع العولمة الأمريكية والتوسعية الإسرائيلية الصهيونية، وتفكيك مشاريع التطور والتنمية، حتى يبقى الزمن العربي الدائري ميزة تسم الحالة العربية على حد تعبير المؤلف. مبرزاً تحالفات أنظمة وأحزاب اليمين العربية مع السياسة الأمريكية تحت سقف الحرب الباردة والسياسة النيوليبرالية، وبرامج الخصخصة على يد البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية منذ سبعينيات القرن العشرين، والأزمات الاقتصادية والمالية الطاحنة الراهنة وحلولها، ليس على حساب شعوب وفقراء العالم الثالث فحسب بل العالم الثاني، والطبقات الوسطى والمهمشين الفقراء في بلدان المركز الرأسمالي ذاته. وفي هذا الصدد تشعر بدقة المفهوم والمصطلح، الذي استخدمه المؤلف حول تناقضات الرأسمالية وأزماتها الدورية، عندما يقول أزمة كبرى في الرأسمالية وليس أزمة الرأسمالية الطاحنة، مفرداً لهذه القضية الجوهرية حقها، بالتشخيص وبالتحليل للمعطيات الكمية التي دعّمت النص، وبالنقاش وبالرؤيا نحو حلول ممكنة التحقيق، كالعولمة الإنسانية في خدمة الشعوب، ومواجهة العولمة الإمبريالية المتوحشة، في غياب أو عدم جهوزية البديل الديمقراطي التقدمي، بالرغم من النهوضات بأشكالها المتعددة التي تحققت في الميدان، والتي رصدها المؤلف بدقة هنا وهناك في القارات الخمس، والإضرابات العمالية والمظاهرات المليونية، لمناهضة العولمة الرأسمالية المتوحشة، في أوربا وأمريكا وبلدان المركز الرأسمالي الأخرى. «تسييس الدين» و»تديين السياسة» و»مجتمعات الهشيم» مصطلحات ومفاهيم أخرى استعملها المؤلف، عندما تطرق إلى منطق الاستخدام الإمبريالي للأديان، في مواجهة حركات التحرير الوطني، والثورات الوطنية الديمقراطية والتحولات بآفاق الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، كزج الفاتيكان ضد لاهوت التحرير في الكنيسة الكاثوليكية، واستخدام الإسلام السياسي اليميني في العالمين العربي والمسلم، وتسييس الدين وأدلجتة واستخدام جماعاته في العنف ضد قوي التحرر والتقدم واليسار الديمقراطي في عدة بلدان، ونشر وتعميم بؤس الثقافة واستحضار المتخلف من موروث التاريخ، وتسميم عقول أجيال متلاحقة من الشباب وبسطاء الناس، في بيئة الفقر الخصبة في مجتمعات الهشيم، لتعمل هذه الثقافة القدرية، كالنار في الهشيم على حد توصيف المؤلف (ص 27). النظرة الرؤيوية في إطار رؤيا خاصة، يسلط نايف حواتمة الضوء، على ثلاث محاور لدور ولنهوض اليسار الديمقراطي العربي المنشود: المحور الأول الهوية (ص46)، والثاني الاستعراض والدراسة المنهجية لمجال العلاقات الدولية الراهن (ص48)، والثالث ميراث الاستعمار وآثاره المدمرة، دون إغفال فشل النخب الحاكمة، في إيجاد الحلول للأزمات المزمنة الإثنية، الطائفية، المذهبية، وأزمات الاستبداد الشرقي على مساحة قرون طويلة (ص51). أبرع المؤلف براعة الباحث الجاد، في الفقرة الأخيرة من الفصل الأول، التي أفرد لها 20 صفحة عند تناوله دروس الأمس ومحددات رؤى يسارية عربية وفلسطينية، مستعيناً بالمعطيات الكمية وبالأحداث والشواهد، التي تظهر بما لا يدع مجالاً للشك، عمق الأزمة في النظام الرأسمالي، وبخاصة الانهيارات الراهنة للنظام المالي الرأسمالي العالمي، والمرشحة أن تطول -كما يتوقع المؤلف- في نظام العولمة الرأسمالية المتوحشة، بعيداً عن الرقابة والشفافية وفقاً لقاعدة «الأسواق تضبط نفسها» ثم يرصد حركة التناقضات والتعارضات، وتعالي الأصوات داخل النظام نفسه بضرورة تدخل الدولة، بما هو أبعد من «الوصفة الكينزية» والعودة إلى النزعة الليبرالية الديمقراطية التقدمية وثيقة الصلة بالتوجه الاشتراكي والعدالة الاجتماعية، والحفاظ على حرية واستقلال وتطور الشعوب، وحقوق الإنسان في الأمن والسلم والبيئة النظيفة، فنمط الحركة الاجتماعية الجديدة، إنما يتمثل في ثقل التطلعات التاريخية لليسار، بمثله الإنسانية النبيلة السامية «ديمقراطية الاشتراكية واشتراكية الديمقراطية» (ص65) بديلاًً عن عولمة الرأسمالية المتوحشة وبيروقراطية الدولة الرأسمالية، وعن فشل وانهيار تجارب التحولات نحو الاشتراكية، في الاتحاد السوفييتي السابق وبلدان أوربا الشرقية. الصورة الجمعية، النهوض الجمعي والتفاؤل يرى المؤلف أن الصورة الجمعية كقوة فاعلة وطنياً وقومياً وعالمياً، يستعاد تنظيمها لتقدم أسساً جديدة، لتوليد مظاهر التضامن لليسار الديمقراطي لدى شعوب العالم، فضلاً عن التضامن الاجتماعي داخل الدول لمواجهة تفكيكها، فثمة نقاط كثيرة للتشابك السياسي تهيئ أسباباً للتفاؤل، فأزمة التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي، وأزمات الرأسمالية المتلاحقة بعنوانها الأبرز الإمبريالية الأمريكية، تنبئ بأن البشرية واقعاً وفكراً، على أعتاب تحول جذري جديد، وضعت اليسار على سكة تحول جذري، شبّه المؤلف هذا التحول بمراكز التنبؤ بوقوع الزلازل (ص66). موجهاً دعوته لأهل الرأي لإعلان مواقفهم بلا تردد، من أجل إحياء إحساس بالممكن في سياق التحولات الجارية، مشيراً إلى أنّ الانفصال عن التراث الثوري، كما فعلت بعض القوى والأحزاب، التي استدارات دورة كاملة إثر سقوط التجربة الاشتراكية البيروقراطية السوفييتية، وهنا كان توصيف المؤلف دقيقاً بأنّ هذا الانفصال، إنما هو شكل من أشكال الاستسلام، والتكيف مع أفكار النيوليبرالية الجديدة، «نهاية التاريخ» -التي أقر صاحبها ببطلانها واعتذر- و»صراع الحضارات» التي مات صاحبها دون أن يعتذر و»صراع الأديان» و»الفوضى الخلاقة» ووصفتها في العالمين العربي والمسلم «الفوضى العدمية». تشير الخلاصة التاريخية -على حد تعبير المؤلف (ص67)- أن الاشتراكية تجسد أماني ومعاني نبيلة في وجدان الناس، ولهذا عليهم ابتكارها من جديد، كضرورة للعمران الديمقراطي -وهذا التعبير الجميل للمؤلف- داخل الشعب الواحد، وبين الأمم والدول في الإطار الكوني الواسع، فالعدالة الاجتماعية مستقبل البشرية أمامنا وليست خلفنا. الكتاب مميّز ممتع وجاد، بما يحمله من فكر تجديدي، جدل، نقد علمي وعملي ملموس، يوفِّر فرصة للقوى، للأحزاب وللمناضلين التقدميين في الساحة الفلسطينية وفي الساحات العربية الرحبة، لا يغلق باب الاجتهاد، بل يفتحه على فضاءات للاطلاع، للمناقشة ولتطوير الأفكار، للنقد، للبناء، للمراجعة، سلاح بيد المناضلين من أجل يسار فلسطيني، يسار عربي ديمقراطي، يضطلع بمهامه التاريخية الوطنية والقومية، وينتصر في تحقيق مهام تحرير العقل، والتحرر الوطني، والاشتراكية بمضمونها الديمقراطي والعدالة الاجتماعية، هذه الأفكار وغيرها نجدها في كتاب «اليسار العربي، رؤيا النهوض الكبير.. نقد وتوقعات» لنايف حواتمة.