ترجمة: سهيل علواش 06 مارس, 2018 - 10:15:00 في مستهل "طائر أزرق نادر يحلق معي" التي تعد الثانية في ثلاثية يوسف فاضل والتي تصور لنا مغرب الثمانينات، تستقل البطلة زينة الحافلة ليلا بحثا عن زوجها عزيز الذي غاب عنها لسبع عشرة سنة. تحكي البطلة جو تلك اللحظات قائلة: " كان الجو مظلما في الخارج وداخل الحافلة، أرى ظلالا تتحرك في الممر بين صفوف المقاعد ومن وقت لآخر أسمع غمغمة أحد الركاب وهو يحلم. المسافرون نائمون، واثقون بأن رحلتهم هاته ليست بالمهمة لتكون الأولى أو الأخيرة، مطمئنون لوعيهم بأنهم قادمون من مكان معين ومتجهون نحو آخر." المشهد قبس نموذجي يعكس شخصية فاضل، المفعمة بالشوق والعتمة، والتي تقودها شخصية تجول من خلال عالم غامض مستعص عن الفهم. بالكاد تعرفت البطلة زينة إلى عزيز قبل الزواج، واعتقل ليلة زفافهما، ليبقى محتتجزا في سجن سري. عزيز هو طيار تم اتهامه بالضلوع في تدبير انقلاب ضد ملك المغرب حينها، الحسن الثاني. وفي قصبة نخرتها السنين وتم تحويلها الى سجن شديد الرطوبة، بدأ عزيز ينهار ويتهاوى. هذا المكان يستدعي في الأذهان قصبة حقيقة في جبال الأطلس حيث كان يتم احتجاز المعارضيين السياسيين في فترة السبعينات والثمانينات. رواية فاضل تعمل على تذكيرنا كيف أن شر القمع الممارس من طرف الدولة والحياة الرتيبة للمسافرين على متن حافلة، هما في الحقيقة مترابطين، بل يعتمدان على بعضهما البعض من أجل الوجود. من خلال أعماله فان فاضل يبدو أنه لا يذعن رغم تجربته مع القضاء، فقد ظلت كتاباته تنتقد النظام بشكل واضح في الصيف المنصرم التقيت بفاضل وزوجته صوفيا، التي تعمل مدرسة. كنا في محطة الدارالبيضاء – الميناء وكان يرتدي قبعة بيضاء وتعتريه ابتسامة عريضة. الناس هنا يروحون ذهابا وإيابا خلال هذا المبنى المشيد من الخراسنة والزجاج الامع. لقد تغير الكثير، على الأقل بالنسبة لمراقب أجنبي، منذ حكم الحسن الثاني الذي دام من الستينيات إلى أواخر التسعينيات والذي تميز خلال فترة من فتراته بالاختفاء القسري وتعذيب المعارضين. اتجهنا نحو ردهة الفندق بالقرب من المحطة حيث أخبرني فاضل عن قصة التحاقه بمجموعة من اليسار خلال شبابه وكيف بدأ يكتب المسرحيات في الستينات. كنا في طريقنا نتحدث بالفرنسية وكانت صوفيا، بفضل تمكنها من الإنجليزية تساعدني كل مرة حين أتعثر بخصوص كلمة، كان يقول "كانت الثقافة آنذاك ماركسية، وليس هنا فقط، بل حتى في أوروبا. حقبة الستينات كانت عصر الماركسية في كل انحاء العالم، كانت هي الثقافة. حين يريد المرء أن يجعل شيئا ثقافيا، حين يقرأ، يقرأ كتابة ملتزمة، رواية ملتزمة، مسرحا ملتزما." في عام 1974 لفتت مسرحية لفاضل بعنوان "حرب" انتباه الحكومة لأنها هجت بسخرية ردة فعل المجتمع المغربي تجاه الحرب العربية الاسرائلية عام 1973. تم حظر المسرحية واعتقال فاضل وسجنه لأكثر من ثمانية أشهر. يقول راويا " تم تقيدنا والقي بنا على الارض خلال الايام القليلة الأولى، لكن الأمر انتهى بعد ذلك . " بدأ فاضل الاشتغال بالكتابة الروائية منذ التسعينات، والآن لديه سبع روايات، اثنتان منها تمت ترجمتهما الى الإنجليزية ونشرتا من طرف (Hoopoe) وهي دار نشر تابعة للجامعة الأمريكية بالقاهرة مهتمة بنشر الأعمال الادبية في الشرق الأوسط. ورواية ثالثة بعنوان "سمكة حمراء متلألئة تسبح معي" تتم ترجمتها حاليا من طرف ألكسندر إليسن؛ وتبقى رواية "مثل ملاك في الظلام" أحدث رواية لفاضل. تربط الرواية بين الغوص في مظاهر الرق والعنصرية بالمغرب وقصة حب. وقد خرجت الترجمة العربية لها في أوائل الشهر المنصرم. من خلال أعماله فان فاضل يبدو أنه لا يذعن رغم تجربته مع القضاء، فقد ظلت كتاباته تنتقد النظام بشكل واضح. أخبرني بأنه بنى روايته "طائر أزرق نادر يحلق معي" والتي تم ترشيحها لنيل الجائزة الدولية للرواية العربية (جائزة البوكر العربي) والأكثر شهرة خارج المغرب، بناها على مرويات الناجين من السجون السرية. وصف فاضل لتلك الظروف ولأثر الإختفاء القسري وصفا قويا ومؤثرا. يقول بأن تجارب أولئك الذين نجوا من السجون السرية لم تكن مثل ما مر به، "إن الأمر لا يمكن تبريره، تلك المعاملة غير مقبولة في حق أي انسان كائنا من كان." بعد اعتلائه للعرش في عام 1999، صادق الملك محمد السادس، على اجراء تحقيقات في التعذيب والاحتجازات التي تمت تحت حكم والده، ودشن مجموعة من الاصلاحات ساهمت في ازدهار البلاد وجعلها وجهة لقضاء العطلة للسياح القادمين من اوروبا والولايات المتحدة. ومع هذا فإن المغرب لا يزال يشهد مظاهر عنف الدولة وانتهاكاتها ، ففي الشمال، بجبال الريف، حيث خرج المحتجون الى الشوارع منذ أكتوبر 2016 مطالبين بحقوق سياسية وبوضع حد للفساد، تم قمع النشطاء ولازالت الحملة جارية ضدهم. وفي الجنوب، ينهج المغرب حصارا إعلاميا على الصحراء ويسجن النشطاء. بعض السجون بالبلاد لا زالت تشتغل وقد استخدمت لسحق المعارضين للملك.. لا يزال المغرب يعاني من الفساد المستشري إذ أن الثروة والسلطة في البلد لا تزالان تحت سيطرة نخبة صغيرة تضم الملك ومستشاريه، هاته النخبة معروفة باسم "المخزن". أخبرني فاضل بأن "الجميع يعرف ذلك، وإذا رغبت في العمل عليك أن تدفع أولا. إنها ثقافة قديمة جدا وفي المغرب بأكلمه؛ حتى أنا عندما أواجه مشكلا أول شيء أفكر فيه هو هل تراني أعرف شخصا يمكنني أن أعطيه؟ في كل مكان – في المستشفى، في مركز الشرطة، في المحاكم، في المدارس – عليك أن تبحث عن أحدهم تعطيه المال." بالرغم من هاته الظروف، فإن فاضل يري أن المغرب لا يزال فيه من يقاومون ضغوط العالم من حولهم بواسطة قوة حبهم لبعضهم البعض. يصور فاضل هاته الشخصيات في رواياته كرومانسيين وحالمين يعملون كرقائق لامعة داخل العوالم المتعفنة والفاسدة التي يسكنونها. في أول كتاب من ثلاثة فاضل "قط أبيض جميل يسير معي" الذي يدور حول حرب المغرب في الصحراء، يحكي فاضل توقان مجند شاب يدعى حسن، وسط سآمة الحرب، لمحبوبته زينب فيقول: "هناك أيام في الربيع يصبح فيها القلب هادئا وقلقا، يتوق، لو كان بامكانه، أن يفر من قفصه ويحلق في الفضاء مرتفعا أو يتدحرج في التراب كطفل في صباح يوم عطلة، أو يهز جناحيه كطائر قد هبط أخيرا بالقرب من بركة ماء. القلب على استعداد للهمسة الأولى، للذاكرة الأكثر بعدا، لاستنشاق أول نسمة؛ وكأن الإله أمسك به بين كفيه بكبير لطف خوفا من حدوث انكساره أو ذوبانه لهشاشته المفرطة وارتجافه، ارتجاف رجل استهلكه الحرمان، والظمأ، والصحراء، و التوق إلى زينب." عندما تحدثت إلى فاضل، كان يقارن هكذا حب بالأشكال القبلية والهرمية للحب الذي يمكن أن يحقق تماسك أسرة أو دولة. "إنك لا تختار حب القبيلة، فهو موجود هناك كالقدر، وأنت تتحمله؛ الحب الحقيقي، تبنيه أنت، تدمره أنت، وتفوز به أنت." مليئة هي كتبه بالتفاعلات الإنسانية المفعمة بالأمل ومن خلالها يستطيع القارئ أن يلمح عالم أفضل. إن ما لا تميل إلي التعبير عنه شخصيات فاضل الروائية، على الأقل بشكل مباشر، هو الغضب. فأغلبها تواجه العالم بفكاهة قاتمة وبنوع من الذكاء، ولا تشجب الظلم المحيط بها. حينما سألت فاضل عن هذا، أجاب بطريقة هزلية، أن الأمر سيكون خداعا إذا ما جعل شخصياته قنوات للتعبير عن استيائه من الحكومة، "أسمح للشخصيات بالتعبير عن نفسها، من دواخلها. أنا فقط أقوم بوصفهم قليلا، لكن الأمر كما لو أني أضعها على الخشبة ثم أتركها لتعبر عن مشاكلها للقارئ." بالوت، والد حسن في "قط أبيض جميل يسير معي" ، واحد من شخصيات فاضل الأكثر فكاهة والبارزة جدا. بالوت يعمل كمهرج ببلاط الملك. بسرعة كبيرة بات يحضى بمحاباة ومعروف الملك، لكنه وبسرعة مماثلة تم نسيانه. بعد هذا قام بزيارة قطعة أرضية كان قد استخدم أحدهم ليحفر له فيها بئرا، حينها أخد يسائل وجوده: "أنا لا أخرج الماء من الأرض، ولا أزيل عظام الزيتون؛ أنا مجرد مهرج، وما قيمة مهرح من غير سيده؟" يخبرنا فاضل بأن هذا النوع من اليأس هو نتاج مجتمع يخضع فيه كل تفاعل في النهاية لمطالب الملك ومستشاريه. حيث تصبح السلطة هاجسا فيسعى الناس جاهدين للحصول عليها والتمسك بها مهما كلفهم ذلك، "سواء كانوا صغارا أو كبارا فهم يبحثون عن السلطة، لأنها الشيء الوحيد الذي ينفع هنا، أن تجد شخصا من اجل أن ترتمي في احضان السلطة، غير هذا فأنت لا تسطيع العيش." لا يزال المغرب يعاني من الفساد المستشري إذ أن الثروة والسلطة في البلد لا تزالان تحت سيطرة نخبة صغيرة تضم الملك ومستشاريه، هاته النخبة معروفة باسم "المخزن" في "قط أبيض جميل يسير معي" يحكي قصة سمعها عن أحد مستشاري الحسن الثاني وهي أن: مسئولا رفيع المستوى كان يملأ مسبحه بمياه معدنية بغرض التباهي. يرى فاضل بأن هذا أيضا نوع من السلوك الذي هو من أعراض الفساد، "فالأمر ليس مجرد حب للسلطة، وإنما عليك إستعراضها. عليك أن تظهر ذلك، فكلما أظهرت سلطتك بهاته الطريقة فتكون محترما. حين تسبح في حوض من المياه المعدنية، لن يقول الناس بأن الأمر سخيف، بل على العكس يقولون 'واو، يا له من رجل مهم!'." في الدارالبيضاء، سألت فاضل عن الأمل الذي عنده بخصوص مستقبل الأدب بالمغرب. فأعماله الحديثة، في نهاية المطاف نشرت في لبنان، والمجلات المغربية القليلة التي تنشر القصص القصيرة عصف بتداولها منذ منتصف القرن الماضي، ودعم الثقافة المعاصرة من طرف الدولة لا يحضى باهتمام كبير لكونها ليست طريقا للغنى، أجاب فاضل "لابد من القول أنه بالنسبة للدولة تأتي الثقافة أخيرا؛ إنها غير مهمة". وقال بأن التعليم هو أيضا لا زال يعاني، "لتكون هناك ثقافة، وطلب على الثقافة، التعليم والتدريس يجب أن يكونا في وضع جيد. أنظر إلى حال التعليم هنا، لو عرفت القليل عن قصة التعليم في المغرب فهي جديرة بالرثاء حقيقة. المدارس تغلق، والناس لم تعد مهتمة، وبالتالي عندما يكون الوضع كهذا، فلن يوجد قرّاء، ولا حماسة للمسرح."ووفقا للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (U.S.A.I.D) فإن أقل من 15٪ من طلاب الصف الأول في المغرب يتخرجون من المدرسة الثانوية". وأشار فاضل بأنه من الصعب اليوم أن تدخل الى المغرب طبعات رخيصة الثمن لأعمال ادبية عظيمة. الرواية الروسية كانت ذات مرة متاحة وبثمن معقول، توزيعها كان ربعاية الاتحاد السوفياتي؛ الآن هناك نصوص وهابية وسلفية توزع بفضل التمويل السعودي ودول الخليج الأخرى. تقول صافية: "لم يكن للماركسية أي شأن بالسعودية خلال السبعينات، الفرق هو أن بالنسبة للاسلامين الامر سهل، السعوديون يدفعون، وكل شيء مجاني." يرى فاضل بأن هاته النصوص تشجع على التعصب والنخبوية، وليس على الأدب، "أبي كان متدينا، لكن ليس مثل هؤلاء الناس." أصبح الدين شيئا يُتباهى به، لإظهار التميز والاختلاف، أن تظهر للآخرين بأنك مختلف لأنك تعمل كذا وكذا. إن الأمر هو استعراض، حين يمر احدهم أمامك بلحية وكل شيء، ويرمقك ولسان حاله يقول: 'أنا أفضل منك' ." فاضل يسمي هذا "الثقافة المعاكسة" لأنها لا تشجع القراءة أو الدرس العميق، وإنما مجرد تصفح متشدد لبعض النصوص الدينية القصيرة." يؤكد فاضل في الأخير بأنه "لكي تكون كاتبا عليك أن تكون ضد الدولة، ضد كل شيء؛ الكاتب مُدمِّر، عليه أن يدمر كل المحرمات، كل التماثيل والأصنام. وبالطبع لا يمكنه أن يبحث عن مساعدة أحد. الدولة سوف لن ولا تستطيع أن تقدم يد العون بخصوص هاته الرؤية وعلى الكاتب أن يمضي قدما لوحده. الكتاب المغاربة هم الذين صنعوا الثقافة المغربية، وليست الدولة. الدولة لم تفعل أي شيء، ولن تفعل أي شيء. وسيستمر الأمر هكذا، ونحن لا نهتم." - بقلم: نيكولاس نياركوس - المصدر: عن مجلة "ذي نيويوركر"