في روايته الجديدة «قط أبيض جميل يسير معي»، يواصل يوسف فاضل تركيزه على عوالم المهمشين وذوي الأثلام والعاهات. لكن هذه المرة من خلال استدعاء القصر الملكي والصحراء والجيش، وأيضا شخصية بلوط (مهرج الملك) التي تملك وعيا حادا بشذوذها واختلافها وتميزها عن الآخرين، كما تملك وعيا حادا ب«الحافة» التي تتهددها في كل وقت وحين، ما دامت تستمد هذا التميز من الملك الراحل الحسن الثاني شخصيا. فبلوط هو الذي يسلي الملك وينسيه همومه ومتاعبه، لكن رغم ذلك فهو عرضة للانحدار والكمائن والثأر من طرف المنافسين والحاشية و الحراس الأوغاد والأصهار أيضا. في المقابل هناك شخصية المجند حسن، ابن بلوط المهرج، الشاب اليساري والفنان، الذي يندغم ويتعاكس مع والده وفق لعبة مرآوية تقودهما معا إلى الانحدار (الذي قد يصل إلى الموت الفعلي أؤ الرمزي) رغم اختلاف المواقع والمواقف، مما يثبت أن يوسف فاضل ظل وفيا ل«الكروكي» الأول الذي رسمه لشخصياته في أغلب رواياته. فهي شخصيات- كما قال عنه أحمد بوزفور- شديدة الخصوصية، وجودية بشكل عام، عبثية أحيانا، متمردة أو فوضوية أحيانا أخرى وهي، في كل ذلك فردية مستقلة تكابد بنبل قدرها الإغريقي دون انتظار أي معونة، وأحيانا حتى دون أمل في الخلاص.. لنبدأ من البداية، أي من عنوان الرواية: «قط أبيض جميل يسير معي».. ما قصة هذا العنوان؟ وكيف وقع اختيارك على القط الأبيض الجميل..؟ عنونت الرواية، في البداية، ب«أحد عشر يوما»، لأن الرواية تغطي أحد عشر يوما. ولأنني تعودت أن أول من يقرأ رواياتي هو أحمد بوزفور. فلما قرأها اقترح علي أن أعنونها ب «قط أبيض جميل يسير معي». سألته لماذا، فأجاب بأن القط يستغرق المادة الروائية، كما أن القط في اللغة العربية القديمة- وهذا ما لم أكن أعرفه- هو الحظ، وتلا علي الآية القرآنية التي تثبت ذلك «وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب».. هذه هي قصة العنوان. في روايتك الجديدة استعراض فانطازي لأحداث غاية في الجرأة، كما أن موضوعها غير مطروق من قبل.. هنا القصر الملكي حاضر بكل تناقضاته. هناك الجيش ونزاع الصحراء وحياة الجنود.. هل تعتقد أن الوقت حان لطرق مثل هذه المواضيع؟ لم أطرح على نفسي هذا السؤال. فأنا حين كنت أكتب لم أعرف أين ستقودني الأحداث. كنت أريد أن أكتب عن المهرج، ولم أكن أتوفر على التفاصيل. فموضوع الصحراء، مثلا، لم يكن واردا إطلاقا، لكن شيئا فشيئا، بدأت الرواية تنكتب لوحدها.. قبل الشروع في الكتابة أنت لا تملك أي خطاطة أولية عن الشخصيات، ولا عن بناء الرواية، ولا عن انعطافاتها ومساراتها.. - لا. البناء يأتي شيئا فشيئا، ولهذا أتأخر في كتابة الرواية، وقد يستغرق الأمر عامين أو ثلاث سنوات. وأحيانا، فأنت تقوم بجمع العناصر دون أن تعرف إلى أين ستقودك الرواية، والأساسي بالنسبة لي هو أن لا تضرب قيودا على نفسك وأنت تكتب.. إذن أنت تعتبر الخطاطة قيدا؟ ليس بهذا المعنى، لكن من المهم أن تسير إلى أين تقودك الرواية.. لماذا قررت أن تكتب عن المهرج، وأيضا عن مهرج ملك معروف هو الحسن الثاني؟ لأن الملوك هم الذين يتوفرون على المهرجين. كما أن تلك الفترة يمكن الكتابة عنها انطلاقا من عدة زوايا، وأنا أقصد فترة السبعينات والثمانينات. وقد سبق لي أن كتبت عنها، في رواياتي السابقة، بأشكال مختلفة. وهذا ما فعلته في الرواية الجديدة، فشخصية المهرج تتيح مثل هذا الأمر.. الجديد في روايتك الجديدة هي أنها تتحدث عن القصر من الداخل.. فنحن نرى الملك في لحظات لهوه وغضبه. ويمكن القول أنك ترسم بورتريه مغاير للملك الحسن الثاني من خلال ما ينقله المهرج عنه.. المهرج هو المؤهل الوحيد في القصر للدخول مع الملك إلى فضاءات ممنوعة على غيره. يمكن أن يدخل معه غرفة النوم أو أن يأكل معه، وهو الوحيد الذي يمكن أن يتجرأ عليه دون أن يخاف من العقاب. وهذا ما يمكن أن نلاحظه بكثرة في مسرحيات شكسبير. فالمهرج هو الوجه الآخر للملك أو كما لو كان هو الملك بشكل معكوس. فهو يتميز بنفس الحرية، والملك يعتبره مرآته.. هذا هو واقع المهرجين في القصور في القرون الوسطى.. وماذا عن شخصية الجينرال أبو ريشة صانع الزيوت والمتاجر في السلاح الذي يقف وراء حرب الاستنزاف، والذي ينتقم من الجنود ويرمي بهم إلى الموت، كما أنه لا يظهر ولا يتكلم.. الجينرال لا يفوت أي فرصة. وأنبه أن هذا الأمر غير مفبرك، فربما هذا من المسكوت عنه، لكن أشير إلى كتاب «جنرالات صاحب الجلالة» هو الوحيد الذي أشار إلى هذا التلاعب الذي كان سائدا في الجيش.. لكن أنت تشير في الرواية إلى أن هذا الجينرال عرف نهاية شبيهة بنهاية جنيرال مغربي معروف، هو الجنيرال الدليمي الذي مات في حادثة سير غامضة.. لا أعرف إن كان من الإيجابي أن نقرأ الرواية من خلال أحداث وقعت فعلا. لكن أعتقد أن الأمر لا يحتاج إلى ذلك.. الرواية، كما قلتُ في البداية، استعراض فانطازي لوقائع ليست بالضرورة تاريخية أو تسجيلية أو توثيقية، لكن، مع ذلك، نسجل أن هناك إحالات تدل بقوة على أحداث وقعت فعلا.. + لا أريدها كذلك. لكن في هذه الرواية كما في غيرها من الروايات التي كتبتها لا بد من عدد من الإشارات التي تدل على واقع ما حتى لا يضيع القارئ ويبقى في الفانطازيا.. هناك أيضا الجنود: حسن، ابراهيم، محمد علي ونافع، كلهم مهمشون، وكلهم ينتظرون امرأة في مكان ما.. لا يتعلق الأمر بجنود، بل بمجندين تجنيدا إجباريا. وكل واحد من هؤلاء كأنه مقتلع من مكان ومرمي في مكان غريب.. الغريب أنهم مجندون بدون أسلحة، بل حتى السلاح الذي يتوفر عليه أحدهم هو سلاح عتيق، وليس في مستوى سلاح العدو الرهيب (الكلاشينكوف والمدافع).. هل هي مجرد باروديا أو محاكاة ساخرة للواقع، أم أن الأمر مستمد من حكايات حقيقية رواها مجندون؟ لنطرح هذا السؤال: ماذا بإمكان شاب قادم من الكلية أن يفعل في الحرب؟ إذا طلبنا منه تحرير الأرض، أي أرض سيحرر بدون سلاح؟ وحتى إن كان يتوفر على سلاح، ماذا سيفعل به إذا لم يكن هناك أصلا عدو؟ المجندون كانوا في حرب مع الصحراء، مع الليل والكون والخوف والأصوات الغامضة، وأيضا مع الطلقات التي لا نعرف من يسددها.. ألا يمكن الحديث هنا عن العدو المقيم داخل الثكنة أو وراء جدران ضيعة الجنرال؟ العدو، كما تقدمه الرواية، هو في مكان آخر.. ونحن لا نعرف أين يوجد العدو.. إذا أردنا تحريك المعنى القصدي لدى الكاتب، بعيدا عن استراتيجيات التأويل التي يعتمدها القارئ لمطاردة المعنى، أين يتموقع العدو؟ العدو هو الذي نزع عن المجندين إنسانيتهم وجعلهم يضيعون في الصحراء.. الرواية تشير بشكل جلي إلى دسائس القصور، بين بلوط والأحدب.. وبين الوزارء أنفسهم، إذ تقدم هؤلاء كحاشية منحنية ومتواطئة ومفزوعة وتركض وراء مصالحها الخاصة.. كما تقدم الملك كحاكم مستبد ومطلق السلطة.. يوما بعد يوم، يثبت، في تصوري، أن الفساد كله يأتي من تلك الحاشية أوالنخبة التي لا تنتظر الفرصة لتقبيل اليد فقط، بل تتمنى في كل لحظة الانتماء إلى هذا الركب الفاسد والمنبطح. وأظن أن جزءا كبيرا من المشاكل التي يتخبط فيها المغرب سببه هؤلاء.. لاحظنا في الرواية أن بلوط أحياه الملك وقتله الأحدب، علما بأن الملك كحاكم هو الذي «يحيي ويميت».. أليس في ذلك إشارة إلى أن الأحدب هو صورة عكسية للملك؟ تقصد المهرج الثاني. لكن للنظر إلى الأمر من زاوية أخرى، فهناك مثل يقول: كلما كانت الشجرة عالية كلما كانت السقطة مدوية. فبلوط كان مصمما على الاحتفاظ بمنصبه كمهرج قريب من الملك، ولهذا كانت السقطة مدوية، وكانت يتوقع نهاية مأساوية، وهي نهاية المستبد. فبلوط أيضا كان مستبدا رغم أنه صنيعة، وكان لا بد أن يسقط.. لكن نهايته كانت على يد الأحدب الذي دبر له مقلبا منعه من دخول القصر. بلوط كان يتوقع دائما نهايته، لكنه كان يؤجلها، والحال أن في التأجيل المتواصل عملية تفتت. وكان من الممكن أن تأتي النهاية من الأحدب أو من غيره.. لاحظت بأن نهاية بلوط شبيهة بنهاية العبد مسعود في رواية «مجنون الحكم» لبنسالم حميش، أي تسليط عاهرة مصابة بالزهري (السفلس) على الشخص المطلوب نهايته. ألم تحضرك هذه الرواية وأنت تكتب؟ لا أبدا. أنا تناولت هذا الحدث من خلال ما رواه سجين بمعتقل تازمامارت. وحكى هذا السجين أن رجلا وامرأة كانت تربط بينهما علاقة عاطفية، وفي أحد اللقاءات أخبرها بأنه والدته تريد تزويجه بامرأة أخرى، ولكي تنتقم منه سلطت عليه عاهرة مصابة بالسفلس. لكن لما اعتقل في تازمامارت لم يمت، بل زال عنه المرض.. حسن، ابن المهرج، الفنان.. أليس هو الوجه الآخر لهزيمة المهرج؟ حسن شاب يساري، ليس يساريا بشكل مثالي، بل بطريقته الخاصة. والأزمة التي عاشها هي طريقة في القول: أينما وليت وجهك في الظروف التي نعيشها، فلا مهرب، لأننا كلنا نعيش في مصيدة».. السقوط هو أهم موضوعة تحكم الرواية من أولها إلى آخرها، المجندون والجنرال وحسن وبلوط وزينب والطبيب وزوجته.. لكن سقوط حسن المشبع بقيم اليسار هو بؤرة هذا السقوط، مادام لم يستطع أن يفعل شيئا ضد موته سوى السير في جنازته.. كيف يمكن تفسير هذه المفارقات؟ المجتمع بكامله يؤدي ثمن السياسات التي عشناها، والداء ينخر الجميع، ولم يستطع أي أحد الإفلات.. هناك مصيبة ولا أحد يعرف الطريق إلى الخروج منها. فمثلا نحن نتوجه إلى انتخابات لا معنى لها في رأيي.. فرغم كل شيء قيل ويقال، فنحن نعيد تكريس ما نحاول تجاوزه، والجميع مسؤول عن ذلك.. حينما تشير إلى الجميع، فأنت تشير إلى «لا أحد»، وهذا بدوره يعزز الغموض. لكن حينما نقرأ الرواية هناك تحديد قوي، فهناك الزبونية والمحسوبية والرشاوى التي «تهدى» لحراس أو لأشخاص مجهولين في القصر.. المجتمع يعاني من أشكال متعددة من الأمراض.. ألا تعتقد بأن رواية «قط أبيض جميل يسير معي» هي رواية للاحتجاج والإدانة؟ (ضاحكا) أترك لك الأمر لإصدار الحكم على الرواية.. أنا مصر على توجيه هذا السؤال إليك باعتبارك كاتب الرواية.. لم أفكر في الرواية على هذا النحو. ربما هذه أشياء أحملها داخلي، لكنني حينما كنت أكتب كنت أفكر في المهرج فقط.. ورواياتي كلها مكتوبة بالطريقة نفسها، لأنني لا أجيد طريقة غيرها. هناك فعلا إشراقات شعرية وحديث عن الحب في الرواية.. - نعم، خصوصا في الفصول الأخيرة: لغة شعرية لا يخطئها القلب، وكذلك الحضور القوي والتراجيدي لزينب التي تركت حسن لأثلامه وتزوجت الطبيب وانخرطت في الانتخابات.. - زينب أيضا ضائعة، وهي منذ البداية تبحث عن موطئ قدم. هل وجدت نفسها، أم أوجدوا لها نفسها؟ هذا هو السؤال.. والطبيب الذي لا يستقر على حال. كل يوم بعقيدة سياسية جديدة.. هل هو صورة لنخبتنا السياسية؟ نعم هو نموذج للفئة السياسية الحربائية المنتشرة الآن بشكل واسع، وهي فئة ذكية تمكنت من التحايل على الجميع، لأنها استطاعت أن تدرك قواعد اللعبة.. لماذا كل شخصيات روايتك مشوهة، وخاصة في أعمالك الأخيرة.. ميترو محال.. حديقة الحيوان.. أفكر دائما في الشخصية التي تمكنني من أن أقول ما أود قوله. فلن أجد أفضل من شخصية المهرج لأقول ما أريد أن أقوله حول اللائتمان و«الحكرة» والاستبداد. ليس هناك أفضل من المهرج للتعبير عن هذا الإحساس والنظرة الدونية والوجه الآخر للاستبداد.. ليس فقط لدى الملك، بل لدى المستبدين الصغار.. في لحظة معينة، اختفى الملك من الرواية، ولم تعد هناك سوى الأسوار المنيعة.. شخصيتي الرئيسية ليست هي الملك، بل المهرج بلوط، وهو الذي يصف الملك. وحين خرج بلوط من القصر، اختفى الملك لأنه لم يعد يراه.. لكن رغم ذلك، يتولد لدينا انطباع بأنه موجود، ويراقب من مكان ما. هناك جدران القصر والحراس والرشاوى والتوصيات.. هذا تاريخ المغرب. فمنذ بداية هذا التاريخ، باب القصر مهم.. وربما باب القصر أهم من القصر نفسه.. في آخر الرواية، تولد لدي انطباع بأن إيقاعها أصبح سريعا.. لا أعرف إن كنت قد ألزمت نفسك وأنت تكتب الرواية بأنك ستوقف في «اليوم الحادي عشر»، فأنا وجدت أنها لم تشبع نهمي بالكامل، وكان بالإمكان الاستمرار في كتابتها مادام أنها تغطي زمنا ممتدا في الماضي والحاضر.. لا. بالنسبة ل« أحد عشر يوما» في طريقة لتقسيم الفصول.. كما أن الرواية التي بدأت مع حسن تستغرق أحد عشر يوما.. أما بالنسبة للإيقاع ففي لحظة وأنت تكتب تشعر بأنه من الضروري أن تنتهي.. ألم تشعر بأنك استعجلت في وضع نقطة النهاية؟ أبدا. فالنهاية تكتب نفسها، وأحيانا نرسم النهاية منذ البداية. وفي تصوري أن أحسن كتابة هي حين تخطو نحو النهاية بسهولة، ولا ينبغي الإطناب أو اللف حولها.. وهذا هو الإيقاع العادي للرواية..