(1) "لا إكراهَ في الدين"(من سورة البقرة). تقريرٌ قرآني مُحكم لا سبيل مع وضوحه وقطعيّة دلالته إلى تأويله على غير ظاهره، أو التذبْذب في شأن مُؤَدّى لفظه. تعبير بيّنٌ وقوِيّ يؤكد حقّا ساميا من حقوق الإنسان، وهو حريةُ المعتقد، (قد تبيّنَ الرشدُ من الغَيّ)(من سورة البقرة)، (فمَنْ شاء فليؤْمِنْ، ومَنْ شاء فليَكْفُر)(من سورة الكهف). فالتركيبُ الإعرابيّ في الآية واضحٌ في نفْي الإكراه بمختلف أنواعه وأشكاله، ولهذا يُسمّي النحويّون "لا"، في هذا التعبير القرآني، بأنها "لا" النافية للجنس، أي تنفي كلَّ ما يندرج تحت جنس الإكراه من أساليبَ وأدواتٍ وطرق وحِيل وإغراءات وغيرها من صور القهر والإرغام، المادية والمعنوية. نفيٌ مطلقٌ للإكراه، أيِّ إكراه، وكيفَما كان هذا الإكراه. فإذا كان هذا هو بيان الوحي المقدّس المعظمِ في شأن حرية الاعتقاد، حيث يحْرُم كلُّ شيء يمكن اللجوءُ إليه لإكراه الناس على أن يكونوا، مثلا، مسلمين، أو نصارى، أو ملحدين، فما بالك بما يتعلق بالاجتهادات الفكرية والاختيارات السياسية، التي هي من مصدر بشري، يجري عليها من الضعف والخطأ والوهم والسهو والانحراف ما يجري على سائر الأفعال البشرية، التي لا يمكن تقديسُ أصحابها، وتنزيهُ أفعالهم وسلوكاتهم واختياراتِهم أن يمسها نقصٌ أو انحراف أو خروجٌ عن القصد والاعتدال. فإكراه إنسان ما على اعتناق الإسلام، مثلا، فعلٌ ينفيه ويرفضه الإسلامُ نفسُه، فكيف بمن يُكره الناس على مذهب وضعي، أو اجتهاد سياسي، أو تأويل ظنّي، أو غيرها من الأفعال البشرية، التي تظل دائما تسعى إلى الكمال بسبب النقص الذي يلازم طبيعتَها وأصلَها البشريَّ؟ اللهُ ،تعالى، الخالقُ القُدّوسُ المهيمنُ الجَبّارُ المتعالي، ينهى عن إكراه خَلْقِه على دينِه، والإنسانُ المخلوقُ الضعيفُ الناقصُ المحتاجُ المفتقرُ الكادحُ يسعى لإكراه إنسانٍ مثلِه على اتباع مذهبه، أو اعتناقِ فكرته، أو الانخراطِ في حزبه، أو الإيمان بنظامِه والتسليمِ بسلطانه!! "إن الدين عند الله الإسلام"، ومع هذا، فإنه،تعالى، استبعدَ الإكراهَ أن يكون طريقا إلى الإيمان والقبول والتصديق. إن الله، سبحانه، الذي رضيَ لنا الإسلامَ دينا، يُعلّمنا أن إكراهَ الناس على هذا الدين المَرْضِيِّ هو فعلٌ محرّم مردود، لأن الأمر، في جوهره، قائمٌ على الرضا والحرية في الاختيار، إيجابا أم سلبا. إنها مسؤوليةُ الإنسان لا يتحملُها عنه غيرُه. سبحان الله، وصدق الله العظيم؛ إن الإنسان "كان ظلوما جهولا". (2) ولننْظُرِ الآن في النظام السياسيّ المغربي، الذي تسعى الدولةُ المخزنية دائما أن تفرضَه، إلى جانب الإسلام، أصلا مقدسا ينبغي الإيمانُ به، ويَحْرُم على الناس انتقادُه أو مراجعتُه أو تعديلُه وتبديلُه. الله، سبحانه وتعالى، الجبّارُ القهّارُ مالكُ المُلْك، يجعل الطريقَ إلى دينه الذي ارتضاه لعباده مَبْنيا على الرضا والاقتناع والحرية في الاختيار. أما الإنسانُ "الظلوم" "الجهول"، فإنه ما يزال يتوسل بالإكراه وما في معنى الإكراه من أدوات القهر ووسائل الإغراء والترغيب والترهيب، ليفرضَ على الناس "الأحرار" رأيَه وفكرتَه ونظامَه واختيارَه وأهواءَه، ويجعلَهم عبيدا لسلطانه وجبروته وطغيانه. فإذا كان الإكراهُ في الدين أسلوبا مرفوضا ومُحرَّما ومُدانا، فرفضُ الإكراه في الفكر والسياسة وتحريمُه وإدانتُه من باب أولى. إن النظامَ المخزني القائمَ على حكم ملكي وراثي شبهِ مُطلق، هو، في النهاية، اختيارٌ سياسي تبلور وتطور في شروط تاريخية قوامُها الفعلُ البشريّ، والاجتهادُ البشريّ، والطموحُ البشريّ، والهوى البشريّ، ومن ثَمَّ فهو اختيار لا علاقة له بالدين وأصوله، ولا بالوحْي وقدْسيَّته، ولا بالشّرع وأحكامه القطعيّة. فجميع الأنظمة السياسية، استبداديةً كانت أم ديمقراطية، عادلةً كانت أم ظالمة، إنما مرجعُها الأساسُ إلى اجتهاد الناس واختيارهم وترجيحهم في ظروف وأحوال معينة، وشروط واعتبارات مُخصَّصَة، وهو اجتهادٌ واختيارٌ وترجيحٌ قائمٌ على حجج وتبريرات ومُوجبات ظنيّة، سواء استندت إلى مرجعية دينية أم استندت إلى مرجعية فكرية وضعية. المُهمّ أنها قائمة على الظن وليس على القطع، أي أنها قابلة دائما للأخذ والرد، والنقد والنقض، والتعديل والتبديل. لنأخذْ، مثلا، الدستورَ الممنوحَ في نسخته الجديدة لسنة 2011- أذكّر القارئ الكريمَ أن وصف هذا الدستور بأنه ممنوح ليس وصفا قدْحِيا مجانيا مُختَلَقاً، وإنما هو وصفٌ لحقيقة واقعية موجودة نراها ونلمسها، وهذه الحقيقة هي أن المَلِك، مع كامل الاحترام الواجب لشخص الملك، هو الذي يُقرّر في شأن هذا الدستور، في طريقةِ وضعِه، وفي فلسفته وهندسة مضمونه، وفي أسلوبِ وموعِدِ عرضِه وإقرارِه. أما الشعبُ، وهو صاحبُ السيادة في الأصل، فليس له إلا أن يستجيبَ لأمر المَلِك، طوعا أو كرها، بقول "نعم"، على الطريقة الجبْرية القهْرية المتخلفة، التي تفَرّج عليها العالَمُ، قبل الحملة الاستفتائية وأثناءها، بالصوت والصورة الكاشِفَيْن الفَاضِحَيْن. قلت لنأْخُذْ هذا الدستورَ الممنوحَ، أليس هو من وضعِ البشر؟ بَلَى. أليس هو صناعةً بشرية، في شكله ومضمونه وفرضه وإقراره؟ بلى. أليس هو تصويرا لإرادة بشرية، وتعبيرا بشريا عن واقع موازين قوة بشرية؟ بلى. أليس هذا الدستورُ تَجَلِّيًا لمرحلة من مراحل التصارع والتدافع السياسي البشري؟ بلى. في كلمة واحدة، أليس هذا الدستورُ منحةً من الملك لرعيّته؟ بلى. أليست المنحةُ تعبيرا عن رغبة المانح وهواه ومستوى أريحيَّته؟ بلى. إذن، فما علاقةُ هذا الدستور البشريّ، بكلّ ما يعْتَوِر البشرَ من قوة وضعف، وما يلازم طبيعةَ هذا البشرِ من النقص والسهو والخطأ، بسمو الدين وقداسة أصوله الإيمانية وأحكامه القطعية؟ إن من أنكر المُنكرات عندي، ومن أبشع أنواع الإكراه والظلم والاستبداد، أن يُخاطبني الإمامُ في خطبة الجمعة قارِنا التصويتَ ب"نعم" على الدستور الممنوح بطاعة الله ورسوله. بأيِّ حقٍّ، وبأيِّ دِين، وبأيِّ نصّ، وبأيِّ ميزان عَدْل، يَفرض عليّ هذا الإمامُ الموظّفُ لدى الدولة أن أقبلَ رأيا بشريا، بغض النظر عن صلاح هذا الرأي أو فساده، على أنه رأي مقدسٌ يترتّب على قبوله نيلُ رضا الله، وعلى رفضه التعرُّضُ لسَخَط الله؟ في اعتقادي، إنه المنكرُ الأنكرُ والظلمُ الأظلمُ أن يصبحُ قلبُ المُواطِن ورصيدُه الإيماني وخصُوصيّتُه الدينيّةُ رهينةً بيد نظامٍ جبري، أي قهري، يتلاعب بها ويبتذلُها ويستغلها استغلالا مسفا، وينتهك طهارتها بدَنَسِه البشري، ويسخرها، كما يحلو له، لأغراضه وخدمة سلطانه، وكأنه بات يملك مكنونات القلوب ومَطْويَّات الصدور، ويملك أن يُدخلَ إلى الجنة أو إلى النار، كما يملك المالَ والسلطان، ويملك أن يأمرَ بالعطاء أو المنع. كنا، منذ عقود، نعاني من استبداد واحد هو الاستبداد السياسي، واليوم أصبحنا نعاني من استبدادين بعد أن انضاف الاستبدادُ الديني. فأنت مَشكوكٌ في وطنيتك، ومحروم من حقوقك، ومقموعٌ ومحاصَرٌ ومُتابَعٌ في كل مكان وزمان، إن أنت لم تؤمن بإمارة المؤمنين، كما تفهَمها الدولةُ المخزنية، وكما تفرضها، وكما تستغلها لقطع الرؤوس ومنع الأرزاق. تصوّرُوا مواطنا مغربيا لا دين له، فهو، طبعا، خارجٌ من دائرة المؤمنين. ومع ذلك، فهو مُلزَم بالإيمان بإمارة المؤمنين، وإلا فهو مسلوك في الخارجين على الجماعة المغضوب عليهم. لماذا؟ لأن مفهوم "المؤمنين"، في الاجتهاد الكارثيّ المخزني الحديث، كما بيّن ذلك وزيرُ الأوقاف السابق السيد عبد الكبير المدغري، لا يقتصر على المسلمين وحدهم، وإنما هو شاملٌ غيرَهم من أصحاب الملل الأخرى، وعلى هذا فهو شامل، لزوما، مَنْ لا دينَ له. قد يفهمُ الناس أن يكون المَلِكُ، بصفته رئيسا للدولة، ملكا لجميع المواطنين، مهما تعدّدَتْ معتقداتُهم وتباينتْ أصولُهم وأعراقُهم. أما أن يكون قيِّماً دينيا حتى على من لا يَدين بأيّ دين، ففيه كثير من التحكم والظلم وتجاوز حدود المعقول. "إمارة المؤمنين" عبارةٌ لغوية مُستحْدَثَةٌ، في أصلها، للتفاهم والتواصل، لا نجد لها سندا "دينيا"-أقول "سندا دينيا"- لا في قرآن ولا في سنة ولا في إجماع. وها هي ذي اليوم تتحول إلى وَصْفٍ يُضْفي العصمَة والقداسة والرفعةَ والسُّموَّ على الموصوف، بعد أن شُحِنَت بمفاهيم جبْريةٍ استبدادية ما أنزل الله بها من سلطان، تُعطي للحاكم مُطلَق السلطات للتصرف في شؤون الدين، والنظرِ في قضايا المؤمنين، واحتكارِ الفتوى فيما يخص دنياهم وآخرتهم. وأكثرُ من هذا وأغرقُ في التسلط والتحكم والاستبداد أن هذه العبارةَ القَامعةَ باتت، في اجتهاد مخزني فريد وغريب، تعطي لأمير المؤمنين وحده، ولا أحدَ معه، الحقَّ في أن يجمع بين أمور الدين والسياسة، متكلما ومقررا وناظرا ومفتيا، أما سائرُ المواطنين، فيلزمُهم بهذا الفهم الاستبدادي أن يختاروا إمّا الدين وإما السياسة. فمن اختار الدّين، فهو بالضرورة عاملٌ تحت عباءة أمير المؤمنين، لأنه هو أمير العلماء ورئيسُهم ووليُّ أمرهم. ومن اختار السياسة، فهو واقع، بالضرورة أيضا، تحت سلطة رئيس الدولة وهو أمير المؤمنين نفسُه. قبضة استبدادية حديدية تشُد بخناقك كيفما فعلْت وحيثما اتجهت وأينما التفتّ؛ لا تخرجُ من مفهوم استبدادي إلا لتواجه مفهوما ثانيا وثالثا، إلى آخر الاجتهادات المخزنية الخانقة. إن هذا التطاولَ على المُقدَّس الإيمانيِّ الإسلامي بات يفرض فرضا أن تُطرح للنقاش العلمي الجاد مسألةُ الشرعية الدينية التي يدّعيها لنفسه نظامٌ سياسيٌّ بشري، مهما كان هذا النظام. فبعد ما رأيناه في الحملة الاستفتائية الأخيرة من استغلال للمساجد وفقراء الزوايا والطرق، ومن تعسف وإسفاف في قراءة النصوص القرآنية وتحميلها ما لا تحتمل، وما نراه دائما من مظاهر استغلال الدين في الإعلام المخزني الرسمي، وتسلطٍ على ما يُسمَّى "الحقل الديني" بما يُناسب النظام من سياسات وقرارات وتعديلات، فإن الظاهرَ أن نظامنا المخزني لا يسمع، ولا هو مستعدٌ لأن يسمع مطالبَ من يريد إبعادَ الدين عن مجال التدافع السياسي، ويرفضُ استغلالَه، من أيّ كان، لفرض الرأي وإخضاع الناس وسوْقهم إلى حيث لا يرغبون. ما معنى أن يكون الملك أميرا للمؤمنين بالمعنى المفروض علينا في المكتوب والعرفي واليومي المعيش؟ هل النظامُ الملكي الوراثي الاستبدادي نظامٌ فرضه الله في القرآن؟ لا، قطعا. هل هو نظامٌ فرضته السنّةُ المعصومةُ المطهرة؟ لا، قطعا. هل هو نظامٌ أوصى به الرسول، صلى الله عليه وسلم، من بعده؟ لا، قطعا. هل هو نظام أحدثَه أحدٌ من الخلفاء الراشدين الهادين المهدِيّين؟ لا، قطعا. هل هو نظام وَرَّثَه الخلفاءُ الراشدون لمنْ خَلَفَهم؟ لا، قطعا. إن النظام الملكي الوراثي الجبري الاستبدادي، تاريخيا، إنما هو نظام فرضته ظروفٌ وأحوالٌ وموازينُ قوى كانت لصالح الغالبين بالسيف، في ملابسات وتفصيلات وحوادث مبسوطة بالتفصيل في كتب التاريخ. فبأي دين، أو أصلٍ مِنْ الدين، أو نَصّ من الدين، أو سُنّة من الدين، يُفرضُ عليَّ أنا المغربي المسلم العادي، أن أؤمنَ بأن نظامنا المخزنيَّ يستمد شرعيتَه من الدين؟ هذا كذِبٌ وبهتانٌ وباطل في باطل، يُسأَل عنه السؤالَ العسير، اليومَ وغدا، من يتولاّه ويُروّج له ويبرّره ويُسوّغه ويُدافع عنه. الإسلامُ الذي أؤمن به، والذي أقرأ أصولَه في القرآن الكريم والسنة الشريفة المطهرة، بريء من الاستبداد والمستبدين، بريءٌ من الطغيان والطاغين، بريءٌ من التزوير والمزورين، بريء من الفساد والمفسدين. الذين يدافعون عن نظام العبودية والطغيان والسَّفَه والقمع والمنع والتزوير والإكراه إنما يدافعون عن نظام نشأ في ظروف وأحوال تاريخية معلومة، لا علاقة لها بالدين، أصولا قطعيةً وسنةً صحيحة، ولا علاقةَ لها بالتجارب السياسية النموذجية في تاريخنا، كتجربة العهد الراشدي المثالي الشامخ. "وبَشِّر الصَابرينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ"(من سورة البقرة) وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين. مراكش: 3 يوليوز2011 majdoub-abdelali.maktoobblog.com