18 نوفمبر, 2017 - 02:44:00 عندمَا أصدرتُ لأول مرة فرضتي "الأخرميديسية الحديثة" سنة 1997، اعتبر أصدقائي اليساريين أني تقني نخبوي أو أمْلك رؤية ساذجة. لكن لا أحد اليوم يستطيع أن يُنكر القوة التي يمثلها الربط الشبكي عن طريق الانترنيت بالنسبة ل"التنظيم الذاتي". غير أن الغموض مازال ينطوي على مدى قدرة شبكة الأنترنت على تشجيع أنماط جديدة للتنظيم تعتمد "النموذج الأفقي"، بدل التصور الممركز للشبكة النجمية (مركز-محيط centre-périphérie). إن العُقود الأخيرة، عرفتْ ظهُور أشْكال جَديدة "للتنظيم الأفقي" بأمريكا اللاتينية داخل الأحْياء الحضَرية كمَا المناطق الرّيفية، وفي المصَانع كما المزارع، وذلك في إطار شَبكات وطنية أو دولية. هذه المجْموعَات المسْتقلة سياسيًا والمنظمة ذاتيًا من طرف الفلاّحين والشُّعوب الأصْلية، شرعت في الاتصال الشّبكي منذ 1992، تاريخ تمكنها من التّواصل عبْر الإنترنت للاحتفال بالذكرى السّنوية ال 500 لبقائها ومقاومتها للاسْتعمار. بالاضافة إلى ذلك، فإن رمزية الشبكة المنسوجة، القوية لكن والحسّاسة، سَبق واقترحته الناشطات النسْويات كبديل للسّلطة التقليدية من الأسْفل نحو الأعلى وللهيمنة الذكورية. في الوقت الرّاهن يجتمع نشطاء هذه الحَركات في الشّبكة العنكبوتية وداخل المنتديات الاجْتماعية العالمية ليربطوا علاقات مع مناضلين عُمّاليين أو ونشَطاء بيئيين من بلدان أخْرى، مثل ما حَصل بين حركات المزارعيين بأمريكا الجنوبية ونظرائهم في الصّين، وذلك بهدف مقارنة ظروف العمَل التي شتغلون فيها ومناقشة التخطيط الاستراتيجي وتنظيم التضامن الدولي. شكلت هذه الشبكات المستقلة، في سياق السياسات الوطنية، أساس السلطة العمودية للرؤساء التقدميون ك لولا وكيرشنر وكوريا وشافيز وموراليس، مشجّعة بذلك الحُكومات على تحدي سُلطة الملاك المحليين الكِبار والشّركات متعددة الجنسية أو تقوم، على الأقل، بانتقادها عندمَا لا تقوم بعملها كمَا يجب. هؤلاء السّكان الأصْليون المرتبطون بالشّبكة يعتبرون اليوم طليعةَ الحَركات العالمية، فهم يتحدون الرأسمالية، ويقمون بحماية الأرض ويُحافظون على الطّبيعة من النّهب والتدمير المرتكب باسم الربح. وبعيدا عن اعتبارها "متخلفة تاريخيا"، تملكت هذه المجتمعات الريفية وببراعة تكنولوجيا الاتصال التي صنعتها الرأسمالية الأكثر تقدما، من وضْعها في خدمة تحررها. في سَنة 2011، وعبر الاتّصال بالشّبكات الإجْماعية، أطاحت الجَماهير العربية، التي كانت تنعت ب"الظلامية"، بالدكتاتوريات المتجدرة في تونس ومصر عبر الشبكات الاجتماعية. (للأسف، فالمجموعات ذات الايديولوجيا الأكثر ظلامية، كالقاعدة والدولة الإسلامية، هي التي اسْتغلت بشكل أكْبر الإنترنت من أجل التّجنيد والدعاية). ماذا عن المستقبل؟ هل يسْتطيع نموذج تشبيك الشّبكات هذا، إذا نجح في موَاصلة اثبات فَعاليته كمنظومة مرِنة وعَمليّة قابلة للتوسع والتجديد، أن يرسم أيضاً معالم بنية مجتمع كوني مستقبلي منظم ذاتيا؟ إن العيب الخلقي للديمقراطية ضل دائمًا هو الحاجة إلى تفويض السّلطة لمسْؤولين كثيرا ما ينتهي بهم المطاف إلى تشْكيل طبقة سِيّاسية منْفصلة ترْعى مصَالحها الخاصّة. ماذا سيحصل لو أمكن تنظيم الدّيمقراطية التّشاركية على المسْتوى الإقليمي وحتى العالمي من خلال شَبكة الإنترنت على الشاكلة التي توجد به، في بعض الأحْيان، على المسْتوى المحلي؟ ماذا لو كان بإمكان كل مواطن/ة على سَطح هذا الكَوكب إسْماع صَوته مثل غيره، والحُصول على معْلوماته من متخصصين أكفاء والإجتماع مع آخرين يتقاسَمون معه نفس وجْهات النّظر؟ ثم بَعدها التّصويت إمّا مَحليا في جْمع عام أو على المسْتوى الدّولى بفضل شبكة آمنة للانترنت؟ ماذا لو كان بالإمكان مناقشة الأسئلة الكُبرى التي تواجه الإنْسانية في كل مكان قبل أن يُحسم فيها خلال اسْتفتاء عالمي عبر الأنترنت؟ لو كان من الممكن جعل التخطيط الاقتصادي على المسْتوى العالمي يتقاطع مع التدبير الذّاتي العمالي وأكبر قدر من الاستقلال الذاتي المحلي؟ لو كان بإمكان كل فرد المشاركة في اتخاذ القرارات بصِفته مواطن ومنتج، كمقيم ومستهلك...؟ وأخيرا، لو أصْبح النّاس العاديون أسْياد قدرهم ومجتمعاتهم التي بدأت من الحضيض، بعد كل هذه القرون التي تمت خلالها مصادرة الثورات الناجحة وتحريفها من قبل الطبقة الحاكمة الجديدة ؟ منذ سنة 1958، حين كانت أجهزة الكمبيوتر جد تقليدية، كان كورنيليوس كاستورياديس فيلسوف ''الاستقلال الذاتي في السياسية'' (ماركسي) أول من وضَع الخطوط العريضَة لنَموذج من هذا المجْتمع المنظّم ذاتيا والمرتبطة بفضْل المعلوميات، وذلك في مقالته "مضمون الاشتراكية''. باعتباره صاحب نقدٍ شامل للتدبير البيروقراطي الهَرمي، كما تم وضعه من طرف "الشيوعية'' وكذا "المجموعات الرأسمالية" الحديثة الكبرى. اعتقد كاستورياديسان أن الاشْتراكية سَتكون بمثابة خلق النذشاط المسْتقل للعمال. وكاقتصادي، بلور كاستورياديسان تصورا مفصّلا وشَاملا وقابل للانْجاز لاقتصاد وطني خال من الاستبداد والفوضى الكامنة في التخْطيط الممركز الروسي. في تصور كاتورياديس تهيء "مصانع التصميم" مجموعة كاملة من الخطط الممكنة وتتم مناقشتها والتصويت عليها في جموع قبل أن يتم اختيارها من طرف جميع فئات المجتمع بفضل شبكة معلوماتية. وينبغي أن يتضمن كل مَشْروع من مشَاريع الخُطط هذه عرضاً مبسطاَ وواضحاً حول التكاليف المترتبة عن ذلك من حيث وقت العَمل والموارد والنّمو ومستويات الاستهلاك، مما يمنح المجتمع إمكانية الاختيار بين مزيدٍ من الوقت الحر أو مزيدٍ من العمل بغرض أهدافٍ محددة. خلّف لديّ هذا النموذج الواقعي الكاستورياديساني،منذ أكثر من نصف قرن، انطباعا عميقا جعَلني لا أشك أبداً في ال"جدوى" الحقيقية لاشتراكية ديمقراطية. تُعتبر الرؤية "الكاستورياديسانية للتخطيط الاقتصادي من القاعدة" تفنيداً لحجة سوق "جائزة نوبل للاقتصاد" فريدريش هايك Friedrich Hayek. كتب هايك قائلاً أن مآل التخطيط المُمركز هو الفشل الحتمي، بسبب استحالة قدرته على تجميع كل البيانات النهائية المدرجة في "معجزة" نظام الأسعار الذي "يسجل معارف وميولات وقيم ساكنة لا تحصى." هذا النقص الذي يعتري التخطيط المركزي غير موجود في نظام يدار ذاتيا ً بشكل ديمقراطي من طرف القاعدة. يحيل المجتمع المنظم ذاتيا حسب رؤية كاستورياديس وكما يحب إنجلز أن يصوره على عالم جديد يقوم على بقايا العالم القديم، وهي الفكرة المؤسسة لاتحاد عمال الصناعة العالمي (Industrial Workers of the World) سنة 1905. الشّيء المتفرد في سَنة 1958 كان هو تبني كاستورياديس لنظريات نوربرت فينر الرياضي (نسبة إلى الرياضيات) ذي الحس الاشتراكي ورائد الإعلاميات الذي درس مبدأ التأثير الراجع أو التغذية الراجعة (feed back) والذي وضح الطبيعة "الناشئة" للسبرنيتيقيا، وهي الكلمة التي ابتكرها. اليوم، يقوم سبيرنتقيون وفزيائيون وعلماء أحياء ورياضيون واقتصاديون وباحثون في ميادين مختلفة أخرى بدراسة وتحليل الظواهر المرتبطة بتهميش التنظيم الذاتي، ووضعها في اطار نظرية ال « chaos-complexité-émergence ». و''التي سنعود إليها في الجزء القادم'' يتبع ترجمة: عبد الصمد أيت عيشة، هشام منصوري، قدس لفناتسا