في مختلف الدساتير التي عرفها المغرب خلال فترة الحسن الثاني، نجد أنها تتبنى نوعا من اليعقوبية شديدة التمركز فيما يتعلق بالهوية الوطنية، حيث ضحت بكل قيم المغاربة وتعدد اختلافاتهم الثقافية من أجل "الوحدة الوطنية". فأخر دستور منحه الحسن الثاني للمغاربة سنة 1996، يعتبر أن "المملكة المغربية دولة إسلامية، لغتها الرسمية هي اللغة العربية وهي جزء من المغرب العربي الكبير"، وبذلك فإن الاختيار اليعقوبي المغربي اكتسب صبغة دينية واستقرعلى الإسلام كدين موحد، وعلى اللغة العربية (حيث تقدم باعتبارها لغة الإسلام) كلغة يفترض فيها أن تشمل كل المغاربة، ونفى بذلك اليهودية كمكون ديني وثقافي لبعض المغاربة (وإن كانوا يشكلون أقلية)، كما ضحى بالأمازيغية كلغة وثقافة ونمط عيش لشريحة كبيرة قد تكون هي الأغلبية في المغرب. إن اليعقوبية التي تبنتها مختلف الدساتير الممنوحة، لم تكن موجهة أساسا لتحديد الهوية المغربية بشكل ديمقراطي، لكنها كانت اختيارا أمنيا بالدرجة الأولى، وتهدف إلى استمرار النظام السياسي في الحكم. ولذلك فإن قفزها على الواقع التعددي المغربي، لم يكن سهلا وسلسا، وإنما كان مصاحبا للقمع والعنف بشتى تلاوينهما خلال فترة ما بات يعرف بسنوات الرصاص. كما أن اختيار العناصر الموحدة التي تشكل اليعقوبية المغربية، لم تكن اعتباطية، فهي أولا مستقاة من الإرث التاريخي للاستعمار الفرنسي، ثم اكتسبت طابعها المغربي من الفكر السلفي الذي تبنته الحركة الوطنية قبيل الاستقلال، بالاضافة إلى الزحف القومي العربي نحو المغرب وتبنيه من طرف النخبة السياسية المغربية التي دخلت في صراعات سياسية مع الملكية المطلقة. ولعل الحراك السياسي الذي عرفته شمال إفريقيا والشرق الأوسط منذ مطلع السنة الحالية، بالإضافة إلى الضغوطات التي يقوم بها الشارع المغربي منذ فبراير الماضي، أنعشت المطلب التعددي في الهوية المغربية، وشكلت مؤشرات نحو أول دستور ديمقراطي يعرفه المغرب (وإن كان ممنوحا). لكن الملكية المغربية لم تكن قادرة على تجاوز اليعقوبية الهوياتية، لأنها تستمد شرعيتها وكينونتها من الدين. كما أن العناصر المحافظة في قمة هرم السلطة، لم يكن بوسعها التخلي على مكتسباتها السياسية والسلطوية، ولذلك تم الاستنجاد بأحزاب سياسية جد محافظة لخلق التجاذبات والتجاذبات المضادة لأجل التحكم في ما ستسفر عنه مسودة الدستور فيما يتعلق بالهوية الدينية للدولة وكذلك لتقويض مختلف مكونات التعدد الثقافي المغربي كي لا يؤثر على مكانة العروبة والإسلام ضمن تشكيل الهوية الوطنية. فالتوافق المصطنع بين القوى المحافظة والأحزاب السياسية رغم ضعفها وعجزها على الاستقطاب، أثر بشكل بكبير على مضمون الدستور بشكل عام، وعلى دسترة الهوية الوطنية المتعددة بشكل خاص، فرغم أن مشروع الدستور فتح الباب أمام الاعتراف بالتعدد الثقافي المغربي، إلا أنه لم يحسم في اختياراته. ففي مضمونه ذكر مختلف تكوينات الهوية الوطنية، وفصلها إلى مكونات أصلية وروافد (دون الاشارة إلى المنهجية المتبعة في هذا الفصل)، لكنه استعمل عبارات فضفاضة، وجمل طويلة للتعبير عن مكانة كل مكون على حدة، وجعلها مفتوحة على جميع التأويلات، ربما لأن الأمر يتعلق ب "الوحدة الوطنية" التي يراد لها أن تتجاوز العرقية والاثنية (وهذا ما يمكن أن يفهم في جملة انصهار كل مكوناتها التي ذكرت في المسودة) ، وربما لأن الأمر كذلك يتعلق بموضوع لم يتم الحسم فيه نظرا لأنه كان يشكل طابوها سياسيا فيما مضى، فأراد مشروع الدستور أن يتركها تحتمل العديد من التأويل، خصوصا أن بعض الأحزاب في الآونة الأخيرة، هددت بالتصويت ضد الدستور إذا مس بإسلامية الدولة، كما أن هناك أحزاب عارضت دسترة اللغة الأمازيغية كلغة رسمية. وهنا نشير إلى أنه لا يمكن الاختلاف على ضرورة استمرار دسترة اللغة العربية في الدستور، لكن لايجوز ربطها بالدين الإسلامي، لأن ذلك يسعى فقط لمنحها قدسية يمكن استعمالها في أية لحظة لكبح الاعتراف الرسمي بالمكونات الاخرى للهوية الوطنية، خصوصا إذا علمنا أن استعمال اللغة العربية في الحياة اليومية المغربية، لا يتجاوز طابعه الرسمي في الخطب الملكية والممارسة الدينية في المساجد ثم في المدارس. وخارج إطارها الرسمي، سرعان ما تترك مكانها للدارجة أو للأمازيغية، لكنه في المقابل لا يمكن نكران دور الثقافة العربية في تشكيل الشخصية المغربية عبر التاريخ، ولهذا كان من الأجدر الاعتماد على هذا الجانب أكثر من منح اللغة العربية صفة القداسة الذي يمكنه أن يعاكس المكونات الأخرى (الغير مقدسة) ويقف حجر عثرة أمام تنمية وتطوير اللغة الأمازيغية. ومن جانب الأمازيغية أيضا، لابد من الوقوف بتأمل حول الطريقة التي أشير إليها في مسودة الدستور، فهي "أيضا لغة رسمية للدولة، باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة، بدون استثناء"، وليس لكونها جزء من الشخصية المغربية، بل إنها العنصر المميز لهذه الشخصية وللهوية الوطنية. فسكوت الدستور عن المساواة بين الامازيغية والعربية، والتراتبية التي اعتمدها تشوش بشكل كبير على المطلب الديمقراطي لاعتماد الطابع التعددي للهوية الوطنية، والذي رفعته الحركة الامازيغية منذ تسعينات القرن الماضي، وكذلك حركة 20 فبراير منذ بداية حراكها السياسي. فدسترتها بهذه الطريقة، ماهو إلا تحصيل حاصل، إذ لا يمكن تصور تعديل دستور في الفترة الحالية دون الإشارة إلى الأمازيغية، خصوصا أن المطالب الأمازيغية أصبحت أكثر نضجا بل إنها مسموعة على الصعيد الدولي، حيث لا يخلو أي تقرير للمنظمات الحكومية والغير حكومية الدولية الموجه للسلطات المغربية من ضرورة التنصيص على الأمازيغية في الدستور، ولذلك فإن ترسيمها في مشروع الدستور الحالي، فرضه الشارع والمنتظم الدولي، رغم أن هناك التفاف على هذا الترسيم مادام لا يحقق المساواة مع العربية (المحظوظة في مشروع الدستور الحالي أكثر من سابقيه)، ولايفرض على الدولة أن تطورها وتنميها، بل سعت إلى رهنها بقوانين تنظيمية يمكنها أن تعرقل رسميتها. وتجدر الاشارة الى أن النظرة الناقصة للدستور تجاه الهوية الوطنية المتعددة، لم يمس الأمازيغية فقط، بل مس مختلف مكوناتها. فالمكون الصحراوي تم ربطه بالحسانية فقط، دون باقي الروافد، وذلك راجع كما يبدو إلى الظرفية السياسية الاقليمية التي تعرفها الصحراء، فدسترة المكون الصحراوي "الحساني" لا يعدو أن يكون مجرد اعتراف سياسي، باعتبار ان الدولة المغربية، لم يسبق لها أن تناولت القضية الصحراوية من منظورها الثقافي. كما تجدر الاشارة كذلك إلى أن التناول الدستوري للمنظور الافريقي للهوية الوطنية، اقتصر على جعله مجرد رافد وليس مكون، رغم أن المغاربة كلهم بدون استثناء أفارقة بحكم الانتماء للقارة الافريقية، بل إن الدولة المغربية أهملت الانتماء الافريقي للمغاربة طيلة الخمسين سنة الماضية من أجل الانتماء الى الوطن العربي الغير موجود على ارض الواقع، حتى أن أغلب المغاربة لم يعودوا يقيمون أدنى اعتبار لانتمائهم الإفريقي، ولا يتم ذلك إلا فيما يتعلق بكرة القدم ومختلف الرياضات، وهذا الأمر يؤدي إلى رفض المغاربة لكل ماهو افريقي أصيل، بل وتتنامى العنصرية تجاه كل ماله علاقة بافريقيا نظرا لتضخم الأنا المتفوق لدى المغاربة. وفي نفس الاتجاه، فان الطريقة التي أشير فيها إلى العنصر اليهودي، واعتباره مجرد رافد "عبري"، تفيد أن السلطة المحافظة لم تكن راغبة في استعمال لفظة اليهودية إلى جانب الدولة الاسلامية، لأنها ترفض أية منافسة للطابع الديني الاسلامي للدولة، لكن اليهودية في المغرب هي أكثر من مجرد دين، حيث طبعت تاريخ المغاربة، لكنها أصبحت منبوذة بحكم الاسلام وتعرضت للإقصاء ضمن التشكيل الهوياتي المغربي منذ الاهتمام بصراعات الشرق الاوسط، بل وانتهكت حرمتها في بلادها، وساهم ذلك في اشتداد المعاداة لها وتنكر المغاربة لها، ولذلك فإن عدم رد الاعتبار لها في مصوغة الدستور الحالي يعد اقصاءا لجزء مهم من الذاكرة الجماعية المغربية ضمن المكونات المعترف بها في تشكيل الهوية الوطنية، حيث لايمكن بأي حال من الأحوال أن تعوضها كلمة العبرية التي تحيل على ما هو لغوي أكثر من ما هو ثقافي وديني. في الأخير، أعتقد أن الدستور المطروح على التصويت، لم يكن واضحا في تناوله لمسألة التعدد الثقافي في تشكيل الهوية المغربية، واعترافه بما أطلق عليه المكونات والروافد، لا يعدو أن يكون مجرد ذر للرماد في العيون، ومحاولة لارضاء الجميع، ويجعل ذلك مشروع الدستور الحالي تائها بين اليعقوبية الهوياتية التي أكسبها صفة تيوقراطية باعتمادها على العروبة والاسلام، وبين الاعتراف بمختلف المكونات المتعددة للهوية الوطنية، رغم أن هذا الاعتراف لا يعني بالدرجة الاولى، التزام الدولة بتنمية وتطوير مختلف هذه المكونات في الحياة العامة، ولا يعدو ذلك سوى أن يكون مجرد تجميل صورة الدولة أمام المنتظم الدولي، الذي بات مراقبا أكثر لهذه المنطقة التي اندلعت فيها ثورات استطاعت أن تسقط نظامين من أعتد الأنظمة الدكتاتورية في العالم، وقادرة على أن تسقط المزيد منهم.