تعرضت حركة 20 فبراير للكثير من الاتهامات. قيل بأن الحركة أصبحت أداة في خدمة أجندة تيارات متطرفة تصنع بها ما تشاء وجنحت بعيدًا عن توجهها الأصلي. لكن الاتهام ظل مجرد قراءة للنوايا، ولم يتبين لحد الساعة بشكل ملموس أثر ذلك الجنوح المفترض على برامج الحركة وشعاراتها وأشكال عملها واستقلال هياكلها وطريقة اتخاذ قراراتها. قيل أن الحركة تحولت إلى المطالبة بإسقاط النظام، بينما لم يسبق لهذا الشعار أن وُضِعَ ضمن لائحة الشعارات المعتمدة رسميًا أو رفعته اللجان التنظيمية التابعة للحركة، إضافة إلى تأكيدها باستمرار أنها لا تتبنى رفع الشعار. سُجلت حقاً منذ انطلاق المظاهرات الأولى حالات رفع معزولة للشعار لكنها اعتُبرت دائمًا شذوذًا عن القاعدة. قيل بأن الحركة تمس بحق ممارسة التجارة والصناعة وحق السكان في التمتع بأوضاع آمنة. ويتجلى المس في كثرة المظاهرات التي خلقت جوًا من الرعب، ونتج عنها نقص مريع في مداخيل التجار وأصحاب الدكاكين. وحاولت وسائل الإعلام العمومية الإيحاء بأن تشدد السلطات العامة في التعامل مع الحركة يعود إلى تجاوبها مع مطالب وتظلمات التجار والسكان. لكن المشكل الأساسي هنا هو أن الذين قُدِّموًا كرافعين لتلك المطالب حملوا لافتات تحدد موقفًا سلبيًا من طبيعة الشعارات المرفوعة أثناء المظاهرات ومن طبيعة الحركات السياسية المشاركة في المظاهرات، وبذلك كشفوا عن الخلفية السياسية للقضية، إذ لن يُرفع الضرر الحاصل مبدئيًا إذا تبنى المتظاهرون رفع شعارات أخرى. فهل المطلوب الكف عن التظاهر أم الكف عن رفع شعارات معينة. المشاركون في مظاهرات حركة 20 فبراير، لم يتعمدوا الإضرار بالغير أو الإضرار بتجارته، وحرصوا على حماية الممتلكات الخاصة والمتاجر بواسطة سلاسل بشرية. صحيح أن أصحاب المتاجر في المغرب يعانون عمومًا من ظاهرة التجار المتجولين الذين يضعون سلعهم على قارعة الطريق، وعبروا مرارًا عن تذمرهم، ولكن السلطات العامة بعد حادث البوعزيزي بتونس أصبحت تتفادى أحيانا حصول اصطدامات مع فئة (الفراشة) التي عمَّت المدن المغربية بفعل الأزمة. ما نخشاه هو أن يتعرض أصحاب المتاجر إلى مساومة تتم عبرها إشارة ما إلى تعليق حل المشكل على شرط دعم أصحاب المتاجر لخطة محاربة 20 فبراير. وللتذكير، فإن حل مشكل (الفراشة) يجب أن يؤمن لهؤلاء حق الحصول المشروع على موارد للعيش. قيل بأن حركة 20 فبراير تضع نفسها فوق القانون، وتباشر بشكل متعمد رفض تقديم تصاريح بالمسيرات كما ينص على ذلك التشريع المعمول به، هذه الحجة استخرجتها جميع الأنظمة المستبدة لمحاولة تبرير قمعها للمتظاهرين، بينما هؤلاء في الأصل يخرجون إلى الشارع للمطالبة أولاً بالحرية، وعلى رأسها حرية التظاهر، إذ اعتادت الأنظمة العربية منع الترخيص بالتظاهر كلما خالفها المتظاهرون الرأي ولم تعجبها شعاراتهم. إن هؤلاء لهم مشكلة مع السلطة العامة في بلدهم فهم يؤاخذون عليها إهدارها لحقهم في التظاهر، ويعلمون أن التماس الطريق القانوني للحصول على هذا الحق لا يجذي فتيلاً. إن المكرس عالميًا هو أن الضرر الناجم عن عدم تقديم تصريح بالتظاهر لا يُقاس بالضرر الناجم عن قمع الحرية. والمنظمات الحقوقية التي تتضامن مع المتظاهرين لا تشترط قيام هؤلاء بإتباع المساطر القائمة في بلدانهم، خاصة إذا كانت الظروف الموضوعية تثبت أن السلطات العامة تتحفظ على حق معارضيها أو جزء منهم في التظاهر متى شاؤوا وبالشعارات التي يريدون. إن المشكل في المغرب سياسي وليس قانونيًا، فمتظاهرو 20 فبراير يطالبون بالتغيير الشامل، ويحاكمون البنيات القائمة في عمومها، فهي لحظة ثورة سلمية تروم تغيير النظام من داخل النظام، وليست لحظة مطالبة جزئية. الشباب الذي يطالب بالملكية البرلمانية في المغرب الآن يدرك بأن ذلك يعني طبعا رحيل وزير الداخلية الحالي لأن وجوده على رأس الوزارة لا علاقة له باختيارات الناخبين المباشرة، ولهذا فمن المستبعد في السياق السياسي الحالي أن يسمح قانونيا هذا الوزير بتظاهرة تطالب برحيله. ومتى قامت قرائن معقولة على أن إرادة السلطة قد تتجه إلى رفض التظاهر، وتَعَزَّزَ ذلك بوجود سوابق، فإن المنطق يقتضي اعتبار الداعين إلى المظاهرة معفيين من واجب إيداع الوثائق المطلوبة، وخاصة أن الغاية من هذا الإيداع هي حصول علم السلطات العامة بالواقعة حتى تضمن توفير الشروط الأمنية، وأن حركة 20 فبراير تتولى التحضير لتظاهراتها عبر شبكة التواصل الإلكتروني وتذيع على العموم إعلان تنظيم المظاهرة قبل موعدها بزمن كاف. في المظاهرة التي أعلنت الأحزاب تنظيمها بمناسبة صدور قرار البرلمان الأوربي عن الصحراء بعد أحداث أكديم إيزيك، شُرع مباشرة في التعبئة لها عبر الإعلام العمومي دقائق بعد اجتماع ممثلي الأحزاب مساءً وقبل إيداع أي تصريح. بعد ثورة شباب فرنسا في ماي 1968، قال محرر فرنسا الرئيس شارل دوكول "أنا فخور بشباب فرنسا". وهو الرئيس الذي غادر سدة الحكم قبل انتهاء مدة ولايته، لأنه وجد نفسه يوماً في تناقض مع إرادة الناخبين الذين كان لهم رأي مخالف لرأيه. قيل بأن حركة 20 فبراير تمارس نوعا من العناد أو الغلو، لأنها تصر على التظاهر في وقت تحققت فيه الإصلاحات التي نادت بها أو هي في طور التحقق. حسب المنطق الديمقراطي، عندما يقرر أحدنا أن يتظاهر، فهناك منا من يؤيد قراره ويقدر صوابه، وهناك منا من يعتبر القرار خاطئا وغير ملائم ومفتقد إلى أساس منطقي سليم، لكن لا يمكن للذين لا يشاطرون المتظاهر الرأي أن يفرضوا عليه رأيهم وينازعون حقه في التظاهر. هذه هي كلفة الديمقراطية، فلا يمكن لممثلي السلطات العامة أن يحددوا لنا متى نتظاهر ومتى لا نتظاهر، وإلا فإننا سنكون أمام وصاية عفا عنها الزمن وهجرتها المجتمعات الديمقراطية. من حق حركة 20 فبراير أن تعتبر تواصل الضغط في الشارع وسيلة عملية لتحقيق المزيد من المكاسب وتعميق مسار الإصلاح والذهاب به إلى مداه الأقصى. قيل بأن حركة 20 فبراير بانتقال مظاهراتها إلى الأحياء الشعبية تُضَاعِفُ إمكانات تهديد الأمن العام، وبانتقال مظاهراتها إلى بعض المواقع الأمنية الحساسة (مقر مديرية مراقبة التراب الوطني بتمارة) تتجاهل الطبيعة الخاصة لبعض المؤسسات وتنتهك حرمتها وتعرض سيرها للاضطراب وصورتها للخدش. إن الحركة تقدم للمغاربة اليوم تمرينا منهجيا شاملاً على التظاهر السلمي، ففي الأحياء الشعبية يكتشف الذين لم يسبق لهم أن تظاهروا في هذه الأحياء، أن بالإمكان ممارسة التظاهر بشكل منظم ومسؤول وبهي في تلك الأحياء، والعودة في وقت آخر لتنظيف الحي. انزعاج البعض ليس مرده قضية "الكلفة الأمنية" للمظاهرات في الأحياء الشعبية، بل الخوف من توافد فئات جديدة على أنشطة الحركة. إن من حق هذه الأخيرة أن تسعى إلى تعزيز صفوفها وتغذية جسدها بدماء جديدة. والحركة لم تقرر اقتحام مؤسسة من المؤسسات العمومية، بل قررت تنظيم نزهة قريبا من مكان تواجد معتقل تمارة لتأكيد موقفها الرافض لاستعمال مقر إداري كمعتقل خارج الضوابط القانونية وفي غياب الشروط والضمانات التي تؤمن شرعية الاعتقال وسلامة المعتقلين وعلنية الاعتقال وخضوعه للرقابة القضائية وانتظامية توثيق وقائعه. وفي الإجمال، فإن السؤال الذي يتعين أن نطرحه على أنفسنا هو التالي : هل حركة 20 فبراير تصرفت كما تتصرف الحركات الشبابية الاحتجاجية في العالم أم أنها كانت أقل حكمة وأدنى وعياً. نجد أن شباب 20 فبراير يشكل لحد الساعة نموذجا من حيث النضج والتحضر ومدرسة لفعل سياسي جديد تعددي وخلاق ومشبع بروح ديمقراطية. على الذين ينتقدون الحركة إذن أن يقارنوها بما جرى ويجري في العالم، والحركة نفسها هي تعبير عن الرغبة في أن يعيش الإنسان المغربي مثل أي إنسان في العالم، ينعم بالحرية ويقرر مصيره ويرفض الوصاية وتُحفظ له كرامته وتُصان حقوقه كإنسان وكمواطن وتتوفر له شروط العيش اللائق. السلطة تتعامل مع ظاهرة حركة 20 فبراير بطريقة مركبة، تبدو كما لو كان يحكمها الارتباك. هناك من جهة محاولة لإضعاف الحركة وتجنب قمعها المباشر وانفتاح الإعلام العمومي عليها –في مرحلة ما- إلى درجة الإشادة، وهناك من جهة ثانية لجوء أحياناً إلى الهجوم السافر الذي يمثل القمع الذي وُوجهت به الحركة خلال محطتي 22 ماي و 29 ماي 2011 درجته الأعلى. السبب في هذا الذي قد يبدو تناقضاً هو أن السلطة تشعر بنوع من التخوف المزدوج : تخوف من أن يحصل نمو لحركة 20 فبراير، وتتوصل إلى تنظيم مظاهرات "مليونية" وتلتحق بها أمواج بشرية عارمة، ويعتبر النظام في هذه الحالة أنه سيبدو أقل شعبية، وأن الحركة قد تفرض عليه تغييرًا أعمق وأقوى من التغيير الذي تتحمله في نظره شروط المرحلة التاريخية. إن النظام المغربي قد نجح حتى الآن في "ضبط" إيقاع الإصلاح، ولم يجبره أحد منذ عشرات السنين على اعتماد إيقاع أسرع. تخوف من أن يؤدي قمع الحركة إلى اصطدامات دموية أو انفجار اجتماعي يؤدي إلى تجذير شعارات المتظاهرين وتصنيف المغرب في خانة الأنظمة العصية على الإصلاح والمرشحة للزوال. يدرك النظام أن هناك جيشا عرمرم من المهمشين والمعدمين الذين قد تستفزهم بعض مظاهر القمع والتحكم وتحفزهم على ركوب قطار الانتفاضة الشاملة. لكن حركة 20 فبراير إذا نجحت في استقطاب هؤلاء تدريجيا في جو من الانفتاح وانعدام التشدد فإنها ستُخْضِعُهم لأخلاقياتها وستمرسهم على روح الانضباط والمسؤولية والتزام الطابع السلمي للاحتجاج. في آسفي، وبعد مقتل الشاب كمال العماري، لوحظ أن عدد المشاركين في مسيرة 5 يونيو 2011 مثَّل أضعاف العدد الذي كان يخرج عادة في مسيرات حركة 20 فبراير بالمدينة. إن القمع يمكن أن يؤدي إلى حالة توتر واحتقان تجد معها فئات جديدة نفسها مُساقة إلى حلبة الاحتجاج، لا تستطيع الحركة أن تؤطرها بالضرورة إذا كانت هذه الحركة قد أنهكها القمع. ما يخشاه النظام في النهاية هو أن يتحول الشارع العام على يد حركة 20 فبراير إلى سلطة مضادة. لقد نَعِمَ النظام بأعوام عسل لم يذق خلالها طعم وجود سلطة مضادة قوية ووازنة وتحظى بمصداقية في الداخل والخارج وتقودها نخبة غير مشكوك في نزاهتها. الشارع المغربي تحول منذ مدة إلى ميدان للاحتجاج الاجتماعي السلمي ولكننا لم نتعود بعد على تحول الشارع إلى ميدان للاحتجاج السياسي السلمي. هناك من يخشى تحول الشارع إلى مكان عاد ومألوف –ومفضل ربما- للاحتجاج والتعبير عن المواقف السياسية. هناك من يخشى أن يتحول الشارع إلى الضغط غدًا من أجل مطالب سياسية محددة، فيطلب إزاحة رؤوس محددة وفتح ملفات معينة وتقديم مسؤولين بأسمائهم إلى المحاكمة. هناك من يخشى بعد الدستور الجديد أن يتحرك الشارع لمحاسبة النظام على وقائع أو انتهاكات، أو لرفض إجراء أو قرار أو لإسقاط قانون. والأصل أن من له نية حقيقية في الإصلاح العميق والجذري لا يجب مبدئيا أن يخشى الشارع . أسبوعية "الحياة الجديدة"