من أجل فهم أعمق لطبيعة الصراع في المغرب حمل الحراك السياسي والاجتماعي الذي يعيش المغرب على إيقاعه في الفترة الأخيرة لنا خطابا سياسيا جديد يتمثل في مجمل الشعارات والمطالب المعبر عنها في بياناتها وأرضياتها المختلفة، وان تمكن في صهر الاختلافات والخلافات بين مكوناتها والتي تضم مكونات من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين يصعب فهم وتحديد طبيعة التحالفات التي يمكن أن تنشأ بينها، وحدود الأهداف المشتركة التي يمكن أن تجمعها، شعارات ومطالب أصبحت تتداول بشكل كبير بين مناضلي الحركات الاحتجاجية الفئوية والقطاعية المختلفة التي نبتت كالفطر في الآونة الأخيرة لاقتناص الفرصة التاريخية التي تولدت مع الحراك الذي تشهده المنطقة المغاربية والعربية خلال الشهور الأخيرة والتي تميزت بسقوط رئيسين اثنين مستبدين بالحكم لفترات طويلة بكل من تونس ومصر، حركية نضالية عرضية لكسب المعركة وانتزاع مكاسب خاصة وفئوية ضيقة (معلمين، معطلين، دكاترة، بريديون، أسرى الحرب، عائلات متقاعدي الجنود والقوات المسلحة، الشيوخ والمقدمين، ....واللائحة طويلة) وحتى حركة "شباب" 20 فبراير لم تسلم من هذه الظاهرة بل كانت المبادرة إلى ذلك في كثير من الأحيان، حتى صارت مجموعة من الشعارات جزءا من هوية الحركة الاحتجاجية وأساس مطالبها الآنية والمستعجلة، إذ ارتبطت بها بشكل كبير من قبيل رفع لائحة اسمية لمن يتوجب عليهم الرحيل أو أن يحاسبوا (الماجيدي، الهمة، العماري، العرايشي، اخشيشن...)، أو استهداف عائلات دون أخرى (الفاسي، بناني، ...الخ) مما يدعو إلى التساؤل على مدى نضج تصور الحركة وفهمها لطبيعة وجوهر الاختلالات التي تشل الاقتصاد والسياسة وباقي المجالات، خاصة وأن السياسة كانت ولا تزال تحكم العلاقات الاجتماعية كلها في ترابطها الداخلي في كل واحد متماسك. القراءة السريعة وغير المتأنية للوضع الإقليمي مغربيا والاستلهام الميكانيكي للتجارب من جيراننا أسر الخطاب ورهنه بمحاولة استنساخ تجاربهم ولو بفارق في المطلب والسقف والآليات المتبعة لبلوغ ذلك، انه تأثير الصدمات التي خلفتها الثورتين التونسية والمصرية مع تحفظ شخصي على استعمال كلمة ثورة لأن الأمر في نظري ليس إلا استبدالا لم ينفذ إلى عمق الإشكالات السياسية المتعلقة بطبيعة النظامين حيث لم ينفذ التغيير إلى بنيته وكيفية انبنائه واقتصر فقط على استبعاد أفراد عن سدة الحكم دون أن يتم تقويض الأركان التي يقوم عليها الحكم ذاته فالنظام هوهو، ببنعلي أو بدونه وبمبارك أو بدونه فالنظام الذي صنعهما قادر على أن يصنع آخرين على نفس الشاكلة ليضمن استمراريته وهيمتنه على القرار مع بعض التعديلات بطبيعة الحال أي أننا سنكون بصدد نظام معدل وبنفس الجوهر، إذن فنحن بادراك مكتمل أو بعفوية وتلقائية نعيب الصنيعة لا الصانع، ما أنتج لنا حراكا سياسيا واجتماعيا حالما في مطالبه ويفتقد للحمة التنظيمية والفكرية التي كان يفترض توفرها من أجل ضمان استمرار الحركة في ذاتها لأنه مؤسس في مجمله على البداهة، ولهذا يلجأ النظام إلى لغة البداهة نفسها بسبب اهتزاز مواقع سيطرته في الوعي الاجتماعي نتيجة التأثر المباشر بوسائل الإعلام الخارجية ووسائل الاتصال والتواصل الحديثة (الفايسبوك، التويتر، الجرائد والنشرات الاليكترونية...) في مواكبتها لما يعتمل في باقي البلدان من حراك سياسي واجتماعي، مستغلا الشعارات والدعائم نفسها لضرب الحركة وتفكيكها ما مرة. وقراءة في الشعارات والمطالب التي أنتجها الحراك توضح، وإن ليس في مجملها، يمكن القول أن الحركة قد سقطت في فخ القراءة والتحليل السطحي البسيط الذي لا يحب التعقيد ويركن إلى البساطة لأنها تريح وتعفي من الإجهاد الفكري بغية الفهم والتفهم، فيختزل الأمور والقضايا فتنشأ الخلاصات منتقصة ومبتورة، مما يقود إلى براثن الجهل أو التجاهل بحقيقة الصراع الدائر والانحصار في تحليل سطحي لطبيعته دون النفاذ إلى عمقه وكشف الترابطات التي تحكمه، ومن الاحكام المسبقة التي يتم الترويج لها: الحكم والجزم التام بمسؤوليات الأفراد/العائلات لا المؤسسات في ما يعم الواقع من فساد واختلالات فتحصر الخلل في الشخص/الفرد لا في المؤسسة أو النظام، بشكل يتماهى الأفراد بالمؤسسات ويتم شخصنتها مما يفرغها من محتواها كإطار مؤسساتي ومجتمعي تعاقدي يخضع لمعايير وضوابط محددة متوافق عليها بين مكونات المجتمع الواحد بحسب التوازنات وموازين القوى طبعا، ونفس الشيء يمكن قوله بخصوص الوضع الليبي و حتى اليمني، في ليبيا فالإعلام المحلي والدولي لا يكف عن إبراز أن الصراع على الحكم صراع قبلي عشائري بين مريدي القذافي من قبيلته و ثوار أغلبهم ينتمي إلى قبائل أخرى والحقيقة أن الصراع أعمق من هذا وذاك ويسير في اتجاه لا يخدم مصلحة الطرفين المتناحرين، ولا مستقبل ليبيا بالقدر الذي سيخدم مصالح لوبيات دولية تتحكم في مصائر البلدان التي ما تزال تعاني تخلفا من حيث تطور بنياتها الاقتصادية، السياسية والاجتماعية مما يحول دون تحررها من السيطرة ويكرس تبعيتها ولمن يبحث عن العبر أن ينظر إلى حال العديد من البلدان (كوت ديفوار، السودان، النيجر، الزايير سابقا الكونغو حاليا، ...) التي تعيش نزيفا يوميا ووضعا إنسانيا مأساويا رغم الخيرات والثروات التي تتوفر عليها(حقول البترول، مناجم الذهب والماس...). إن الدعوة إلى إسقاط أو ترحيل عائلات أو أشخاص بعينهم عن النفوذ الاقتصادي أو السياسي في الدولة، ينم عن وعي طفولي وبدائي بطبيعة الصراع ينطلق من جهل أو "تجاهل منهجي"، تفرضه ضرورة ما، لشكل انبناء وتشكل بنية النظام عندنا، فالتحليل لم يربط بين الأفراد وأدوارهم في ماكينة النظام وقام بعزلهم عنها، في نفي لأدوارهم في هرمية السلطة وارتباطهم بها، إن الفهم غير الدقيق لطبيعة العلاقة التي تربطهم بإحدى المؤسسات الأكثر نفوذا وهي المؤسسة الملكية التي تحتكر السلطة وتستبد بالقرار السياسي وكذا بموقعهم في تراتبية هرم السلطة بالمغرب، يقود في بساطته إلى الخلوص إلى أننا أمام دولة تتشكل من لوبيات مافيوزية ذات مصالح مشتركة ومتبادلة، ولسنا في دولة تقوم على المؤسسات حيث يبرز الأفراد والمجموعات هي الأساس في تشكلها، وتغيب معه المؤسسة كجهة مسؤولة عن أفعال وممارسات الأفراد والأجهزة المنتسبين لها، وتكريس هذه النظرة خطير جدا حيث يلغي كل المؤسسات وينفي وجودها ويشرع للفوضى وتبديد المؤسسات القائمة فعلا، إن الفهم يجب أن ينطلق من أن كل الاختيارات وكل القرارات تسير في اتجاه خدمة المصالح الإستراتيجية لاستتباب النظام كما هو وان على حساب المؤسسات القائمة عبر إضعافها، وبالعودة إلى الماضي القريب ألم يرحل البصري عن الداخلية والعنيكري عن الأمن وآخرون عن مناصب المسؤولية مركزيا أو محليا، فما الذي تغير؟ رحل الشخص وبقية الماكينة/المؤسسة مشتغلة كما كانت فلا الداخلية توقفت عن بسط سيطرتها على باقي الوزارات ومؤسسات الدولة، وفرض وصاية تسلطية عليها كما أنها لم تكف عن العبث بالانتخابات وبمصائر الناس وتعطيل عجلة التنمية بنهجها لنفس سياساتها وبنفس العقليات المبنية على المقاربة الأمنية، ولا جهاز الأمن توقف عن ردع التظاهرات والتنكيل بالمواطنين في العديد من المحطات النضالية ولن تكون آخرها وقفات ومسيرات 2ّ0 فبراير، وقد يرحل اخشيشن دون أن يغير ذلك من واقع المنظومة التربوية الوطنية وسيبقى المغرب رغم ذلك قابعا في المراتب المتدنية الخاصة بمؤشرات جودة التعليم، أي أن الرحيل وحده لا يكفي بل القضية أعمق من هذا، إن الإشكال الحقيقي يكمن في تصوراتنا لنظام الدولة وأشكال مأسستها وهو ما سيحمي فعلا الديمقراطية والحقوق والحريات، وسيعمل على صيانتها ويحد من تجاوزات الأفراد ومزاجيتهم التي قد تحضر في بعض الحالات. إن القوى الحية والفاعلة والمشكلة للمشهد السياسي المغربي الآن في المحك، إنها أمام اختبار حقيقي لإرادة النظام المغربي وخاصة المؤسسة الملكية، بحكم ريادتها للمجال السياسي وتحكمها فيه بشكل مطلق رغم مأسسته وفق النظم الحديثة، إلا أن الضمانات الدستورية لإرساء فصل السلط يبقى هشا وغير مكتمل المعالم، مما يحد من ادوار باقي المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية ويزيد من رجحان كفة السلط لجهة القصر ويضعف باقي المؤسسات، التي تروم ترسيخ وتكريس نظام ديمقراطي من دعائمه أن يقوم على مأسسة حقيقية للسلط والفصل بينها، حتى تتوضح معه اختصاصاتها ومسؤولياتها ويحد من تنفذ الأشخاص والعائلات (الأسرية أو المصلحية:لوبيات سياسية واقتصادية) في المجال السياسي والاقتصادي وحتى الثقافي، ويؤسس لمبدأ المساءلة وتعميمه على الجميع من منطلق أن من يدبر يساءل كمبدأ أساسي للحكامة الجيدة، آنذاك يحق للمغاربة أن يفرحوا وأن يشيدوا بنظامهم على أنه فعلا يشكل الاستثناء من حيث طبيعته وقدرته على التفاعل الايجابي مع حركية الشارع ومطالب الشباب، فما دامت الإجراءات والتدابير المتخذة بعيدة عن ملامسة الجوهر المؤسس للدولة والذي تتأسس عليه، فإن التغيير يبقى صوريا وشكليا ، وسيسقط مع أول اختبار له، ويعيد الاستبداد كما كان أو أسوأ مما كان. إننا الآن في لحظة تاريخية لبحث سبل تعاقد جديد بين كافة الأطراف من أجل بناء مغرب أكثر تماسكا على المستوى الاجتماعي يقطع مع ماضي الاستبداد وهدر الإمكان البشري، الاقتصادي والحضاري للشعب المغربي، ويروم إعادة مأسسة الدولة بشكل يحقق توازن السلط واستقلاليتها ويسهم في رسملة المجهود الجمعي لكل القوى، والذي يعد التغيير الدستوري مدخلا أساسيا لتوفير الضمانات الدستورية والقانونية لحماية الحقوق والحريات، كل الحقوق والحريات طبعا، وإقرار المساواة بين الجميع، كما يعضد الجهود الرامية إلى إرساء نظام ديمقراطي يقوم على العدالة الاجتماعية والحكامة الجيدة التي تكرس إشراك الجميع في القرار والتدبير عبر مؤسسات حقيقة ومنتخبة بشكل ديمقراطي شفاف ونزيه، ويضمن شفافية التدبير واتخاذ القرار السياسي والاقتصادي وبلورة الاختيارات الإستراتيجية للدولة، ويسهر على التدبير المعقلن للموارد، وتعزيز نظام للمساءلة والمحاسبة السياسية والإدارية والمالية يشمل كل المؤسسات دون استثناء ويعزز ادوار الرقابة على الجميع ودون استثناءات. ناشط حقوقي وأمازيغي