قامت السلطة بتنظيم هجوم قمعي كاسح على حركة 20 فبراير، واتخذ الهجوم صوراً تذكرنا بما أصبح في نظر البعض يعتبر جزءاً من الماضي. تم التنكيل بشباب الحركة في الشارع العام وضربهم وركلهم وملاحقتهم عبر الأزقة والدروب، واعتقال العشرات منهم، والاعتداء عليهم جسديا مما أسفر عن المئات من المصابين والعشرات ممن تطلبت حالاتهم إجراء تدخلات طبية وجراحية استعجالية أو ممن ترتب عن العنف الممارس ضدهم وقوع عاهات أو إجهاض أو توقف عن العمل. ومرة أخرى، وعبر التدخل الأمني ليومي 22 ماي و 29 ماي على الخصوص، أصدرت بعض المنظمات الحقوقية العالمية نداءاتها إلى السلطات المغربية للتوقف عن تعنيف المتظاهرين، وأبدى الاتحاد الأوروبي قلقه من استخدام العنف لقمع المظاهرات، ودعا الاتحاد السلطات المغربية إلى "الحفاظ على سجله في السماح للمواطنين بالتظاهر السلمي" ومن المعلوم أن الجو القمعي المخيم على المملكة اليوم، ستكون له انعكاسات سلبية خطيرة على قصيتي الاستفتاء على الدستور والصحراء. فلا قيمة لأي دستور يجري التصويت عليه في ظل مناخ من الاعتداء على الحرية، إذ لا يمكن أن يُعتد بنتائج التصويت إذا كان الاستفتاء قد سبقه أو صاحبه تقييد للحق في التعبير والاختيار الحر. ولن نستطيع إقناع أحد في العالم بأن حقوق الإنسان في الصحراء مكفولة ومُصانة إذا كانت الهراوات تنزل على رؤوس المتظاهرين السلميين في الشمال من طرف نفس السلطة المؤتمنة على حماية حقوق الإنسان في الصحراء. يكفي العودة إلى المشاهد التي بثتها قناة الجزيرة أو أُذيعت عبر الإنترنيت أو نشرتها الصحف الوطنية، للتأكد من أن ما تدعيه السلطة من أنها كانت تكتفي فقط بتفريق المتظاهرين –علما بأن الطابع السلمي للتظاهر لم يكن يستدعي مباشرة التفريق- مخالف للحقيقة، فصور الاعتداء على أفراد منعزلين عن الجموع والإصرار على ضربهم فرداً فرداً تعني تعمد الإيذاء والرغبة في الانتقام والمعاقبة والترهيب لإيلام المتظاهرين وحملهم على عدم معاودة التظاهر. والغريب أن نفس السلطة تدعي اليوم أيضاً ألا وجود لمعتقل تمارة، بينما مستوى العنف الذي يمارسه أفراد القوات العمومية أمام أنظار الجميع وفي الشارع العام في مواجهة مواطنين لم تُوجه إليهم تهم الإرهاب، يقدم لنا فكرة كافية عما يمكن أن يُمارس على المعتقلين في الأقبية المنعزلة والمخافر وأماكن الاعتقال المختلفة. ألم تكن الصور المنشورة في حد ذاتها كافية ليُفتح تحقيق وطني وليتدخل المجلس الوطني لحقوق الإنسان ولتُبَاشَر إجراءات متابعة الذين أعطوا الأوامر وطنياً بقمع المظاهرات والتنكيل بالمتظاهرين والتسبب عمداً في إراقة دمائهم وإلحاق إصابات متفاوتة الخطورة بهم. إن تعمد إلحاق الأذى بالمتظاهرين وإعطابهم والمس العنيف والوحشي بسلامتهم لا يمكن أن يُبًرَّر أبداً، ومع ذلك فإن النظام وبعض المنظرين المسايرين لأطروحته الأمنية، يعتبرون أن السلوك الذي تعاملت به السلطة مع حركة 20 فبراير خلال يومي 22 و29 ماي 2011 هو انعطافة قسرية أو تحول ضروري يجد سنده في بعض العناصر الطارئة التي أملت على السلطة تغيير سلوكها والانتقال من "التسامح" إلى "المواجهة". وهذه العناصر هي : 1- سقوط حركة 20 فبراير رهينة في يد متطرفين أصبحوا يتحكمون في مصيرها ويجندونها لخدمة أجندتهم الخاصة البعيدة عن الأهداف المعلنة للحركة. 2- تحول الحركة إلى رفع شعار إسقاط النظام. 3- المس بحق السكان في الأمان وبحق التجار في ممارسة تجارتهم دون تهديد أو فوضى. 4- انتقال حركة 20 فبراير إلى حركة فوق القانون بالإمعان في تجاهل المقتضيات المنظمة للتظاهر. 5- عدم ملاءمة الاستمرار في التظاهر خلال فترة الإنجاز "الجماعي" للإصلاحات نفسها التي طالبت بها الحركة. 6- انتقال الحركة إلى تبني أشكال للعمل مكلفة أمنياً وماسة بمؤسسات لها حرمتها. في مواجهة هذا الخطاب، تنتصب في نظرنا مجموعة من المعطيات الواجب التذكير بها هنا : أولا- لسنا أمام عملية موجهة لحركة 20 فبراير فقط، بل هناك حملة منهجية عامة ل "تنظيف" الفضاء العام ولاسترجاع السلطة الأمنية لما اعتبرت أنه ضاع منها، وهكذا شاهدنا تزامن قمع الحركة المذكورة مع ضرب الأطباء والأساتذة والمعطلين، ومع فك جميع الاعتصامات تقريباً، ومع اعتقال الصحفي رشيد نيني، ومع شن حملة علاقات عامة عبر العديد من الصحف لتلميع صورة مديرية مراقبة التراب الوطني وإنكار استعمال مقرها في تمارة كمعتقل. وفي النهاية هناك من يعتبر ربما أن الدولة كادت أن تفقد هيبتها ولذلك يتعين على كل مغربي يريد أن يذهب للمشاركة في مظاهرة أو وقفة أو مسيرة أن يعلم بأنه يعرض نفسه لاحتمال العقاب الجسدي، فيصبح هذا النوع من المشاركة عملية "فدائية"، يتعين التخلي عنها وإخلاء الفضاء العام للنضال بأشكال أخرى كما كان الأمر في الماضي. ثانيا- لم يكن هناك في يوم من الأيام "تسامح" مع حركة 20 فبراير أو رضى بوجودها وقبول بها، بل كان هناك على ما يبدو تأجيل للحسم القمعي المباشر إلى ما بعد، على أمل أن تنتهي هذه الحركة ويكون مآلها التشتت والاندثار لأنها لا تتوفر على مقومات الاستمرار بحكم تناقض مكوناتها، فانفراط عقد الحركة يعفي النظام من تكليف نفسه عناء محاولة إنهائها باستعمال الآلة القمعية بلا رحمة أو شفقة. لو كان هناك تسامح مع حركة 20 فبراير لما تم اللجوء إلى محاولة تشويه سمعة أعضائها، والتلويح بالقمع، وصنع "المجموعات المضادة"، وإرسال الإنذارات وإشعارات المنع الصريح من طرف السلطات المحلية إلى قوائم طويلة من نشطاء الحركة والشخصيات الداعمة لها منذ شهر فبراير 2011. وجاء في تلك الرسائل أن المظاهرات التي دُعي إلى تنظيمها "ممنوعة شكلا ومضمونا". أي أن السلطة لم تعتبر أن المشكلة قانونية فقط (عدم إيداع تصاريح) بل سياسية أيضاً (المنع من حيث الموضوع)، كانت الحركة في بدايتها ولم تكن قد طرأت "المستجدات" التي أدت -حسب البعض- إلى حياد الحركة عن أهدافها الأصلية، ومع ذلك أفتت السلطة بعدم مشروعية تلك الأهداف منذ الانطلاق. ثالثا- يُقال أن حركة 20 فبراير أصبحت اليوم تحت سيطرة وتوجيه جماعة العدل والإحسان وعناصر السلفية الجهادية وتنظيم النهج الديمقراطي، وأن هذه التيارات الثلاثة تتولى تسخير الحركة لخدمة أجندتها الخاصة. كل البلدان التي منعت المظاهرات قالت أن لأصحابها أجندة غير معلنة. ولم يستطيع أحد لحد الساعة أن يثبت لنا كيف غيَّرت الأجندة المتحدث عنها مسار وشعارات وهيكلية وعمل الحركة. فهذه الأخيرة كيان مفتوح وتُتخذ فيه القرارات بطريقة ديمقراطية، ويُعلن فيه أعضاء الحركة التزامهم بالوثائق المؤسسة للحركة، ويتناقش فيه الأعضاء بصورة مكشوفة عبر الانترنيت، وهي ليست تحالفاً أو فيدرالية للإطارات السياسية بل تتم العضوية فيها بشكل فردي تلقائي، ويُعلن عن البرنامج عبر ندوات صحفية. قد يريد البعض تنفير الناس من حركة 20 فبراير وتقديمها في صورة حركة للهدم والتدمير والانتقام من الدولة وبنياتها والسعي لزرع "الفتنة" ونشر الفوضى، ومعاداة المجتمع والاستقرار، ولكن الواقع الماثل أمامنا لحد الساعة مخالف لتلك الصورة : فحركة 20 فبراير قررت تنظيم مسيرة في مراكش للتنديد بتفجير (أركانة)، والحركة خصصت يوما من نشاطها لتوزيع الورود على أفراد القوات العمومية، وبرمجت تنظيم حملة نظافة بعض الأحياء (في يعقوب المنصور بالرباط مُنع مناضلو الحركة من تنظيف الحي للحيلولة دون رواج صورة إيجابية عن الحركة) وحملة تبرع بالدم، والحركة نظمت فقرات غنائية في بعض الساحات العامة، والحركة عرفت دعما من طرف عدد من المثقفين والأكاديميين ورجال الأعمال والفنانين. إن حركة حافظت على قدرة إنتاج مثل هذه المبادرات والقيم لايمكن القول أنها تحولت إلى أداة في يد أصحاب الفكر الظلامي والعدمي. طبعا من حق أي تيار سياسي أن تكون له أجندته الخاصة، ولكننا لا نحكم على النوايا، بل نحكم على الوقائع الملموسة. جماعة العدل والإحسان ارتكبت في حظيرة مجموعة العمل الوطنية لدعم العراق وفلسطين مخالفات للتعهدات المشتركة، ووجدت نفسها خارج المجموعة بسبب رد فعل الأطراف الأخرى على تلك المخالفات. وحين كانت تُرفع شعارات معادية لديانة معينة أثناء مسيرات الرباط الكبرى، لم تعمد السلطة إلى منع تلك المسيرات، لأن الموضوع كان متعلقا بالعراق وفلسطين، لكن بعد انتقال موضوع التظاهر إلى قضايا الشأن الوطني، شرع الناطقون باسم السلطة في الحديث عن أجندة غير مرئية، فأثناء مسيرات حركة 20 فبراير لم نسمع شعارا مشحونا بمفاهيم الكراهية أو إشادة بأنصار الأصولية أو أعلام الحركات الجهادية أو شعارات مدافعة عن دولة الخلافة، حتى نقول أن الجماعة الآنفة الذكر قد سطت على حركة 20 فبراير. لقد ظلت هذه الأخيرة كما انطلقت وفية لطبيعتها كتيار شبابي تعددي ينادي بالتغيير ويناهض الاستبداد والفساد. أما أعضاء ما يسمى بالسلفية الجهادية، فليسوا حاضرين –حسب علمنا- ضمن "تركيبة" حركة 20 فبراير، هناك حضور لعائلات معتقلي السلفية في المسيرات للمطالبة بإطلاق سراحهم، أما السلفية الجهادية كما يقدمها لنا خطاب الدوائر الأمنية فهي مبدئيا حركة تكفيرية سرية لايُعقل أن يقرر أنصارها العمل في العلن والنزول بجانب شباب 20 فبراير وتعريض أنفسهم للانكشاف. رابعا – أما شعار إسقاط النظام، فلم يتحول قط إلى شعار مركزي في فعاليات حركة 20 فبراير، وهذه الأخيرة تحصر مسبقا شعاراتها قبل انطلاق المسيرات، وتوزع لائحتها على الأعضاء، وتكلف لجانا للتنظيم بالإشراف على ترديدها، لكن يمكن دائما في كل مسيرة مفتوحة أن يستقل فرد أو أفراد لأسباب مختلفة بشعاره الخاص. المهم أن ذلك يمثل ظاهرة معزولة وأن أغلب المشاركين لايسايرونها. إن البحث بالمجهر عن قطعة كارتونية كتب عليها أحد المشاركين في مظاهرة شارك فيها الآلاف أو عشرات الآلاف شعارا لم يرد في اللائحة المعتمدة للشعارات، من أجل الحكم على المظاهرة ككل هو تعسف شديد يُمارس في حق المظاهرة. إن القول بأن حركة 20 فبراير هي في طريق تبني شعار إسقاط النظام يحمل اتهاما خطيرا لأعضاء القيادات الحزبية الوطنية - الذين يساهمون في مسيرات الحركة، بما في ذلك قيادات الأحزاب المشاركة في الحكومة – بأنهم متواطؤون مع دعاة إسقاط النظام، والحال أن الأعضاء المذكورين لو لاحظوا انزياحا نحو المس بشخص الملك أو نحو التخريب والعنف لغادروا صفوف التظاهر. وعلى كل، فإن الاتهام برفع شعار إسقاط النظام قد ينفع في الداخل، ولكن في الخارج لن نستطيع - أمام منظمة هيومان رايتش ووتش مثلا - تبرير صور الرؤوس التي تنزف دما، بكون أصحاب تلك الرؤوس طالبوا بإسقاط النظام فهشَّمتها هراوات قوات التدخل السريع، إذ ستواجهنا المنظمة الحقوقية المذكورة بكون ترديد الشعار هو جزء من حق التعبير الحر إذا كان صاحب الشعار أمسك عن استعمال العنف ولم يتدخل ماديا لتعطيل سير المؤسسات الدستورية في البلد وإن كنا لانزكي رفع ذلك الشعار. خامسا – بالنسبة لحكاية تعبير السكان والتجار عن ضجرهم وانزعاجهم من نشاط المتظاهرين الذي فوت عليهم فرص الكسب المشروع والحياة العادية، فهي حكاية قديمة لجأت إليها كل الأنظمة التي تناهض الحرية، وقد جيء ب "ضحايا" التظاهر إلى تلفزيونات البلدان العربية مؤخرا، ولكن ذلك لم يكن لينطلي على المشاهدين بسهولة. "الحركة" المناهضة لحق التظاهر، باسم الحق في ممارسة التجارة والحق في الأمن، كان إخراجها سيئا في المغرب، إذ ما الداعي لكي يعبر المتظاهرون ضد التظاهر –في هذه المناسبة بالضبط - عن تشبتهم بالفصل 19 من الدستور، وما الداعي لكي يصدروا حكم قيمة على موضوع المظاهرات التي تضرروا منها على شعاراتها، فكيف تكون تجارتهم قد تضررت بسبب طبيعة تلك الشعارات، بمعنى أنهم لو وجدوا أنفسهم أمام شعارات أخرى لما كان هناك مشكل، وما الداعي لكي يكتب التجار شعارات مناهضة للعدل والإحسان بينما المظاهرات والوقفات في المغرب ينظمها في العادة المعطلون من حملة الشهادات والنقابات والجمعيات الحقوقية وتنسيقيات مناهضة غلاء الأسعار وحركة 20 فبراير وهيئات أخرى، ولا تتم باسم العدل والإحسان إلا نادرا، لماذا التركيز في الخطاب على حركة تحظرها السلطة العامة وتشن عليها حاليا حملة إعلامية شرسة، وما الداعي إلى تنقل تجار لمشاركة في المظاهرة ضد التظاهر ومتاجرهم توجد بمناطق لم يسبق أن عرفت أية مظاهرة، وما الداعي إلى ربط التنديد بتفجير (أركانة) بالتنديد بكثرة المظاهرات. إن وضع قضية الضرر المترتب عن الإرهاب وقضية "الضرر" المترتب عن المظاهرات في نفس السلة هو عملية تنطوي في أقل التقديرات على مخالفة للذوق !