هل ستكون المراجعة الدستورية المرتقبة طريقا نحو التخلص من حالة الدستور الذي يعيش باستمرار تحت رحمة أدوات وفصول تسوغ الخروج عن مقتضياته في أية لحظة وتعطيله كمؤسسة بإرادة الحاكم. هل سيكون بإمكاننا تحصين الدستور وتحصين الديمقراطية وعدم جعلهما بمثابة قوس يمكن أن يُغلق في أية لحظة. كيف سيتأتى لنا حماية أنفسنا من الخطر المتواصل الذي يهدد وضعنا الدستوري، ويجعلنا ننتقل بين عشية وضحاها من بلاد لها دستور به بعض الضمانات إلى بلاد ليس بها ضمانات دستورية. لماذا نوجد في وضع يُقال رسميا أنه يقع تحت تأطير الدستور، ولكنه من الناحية العملية يقع تحت تأطير إرادة ملكية، يوفر استعمالها سبيلا للعصف بأهم ما تقدمه كل الدساتير للناس وهو تأمين معنى وشرط ممارسة السيادة الشعبية وتقييد السلطة. كيف يمكن لنا في المغرب أن نضمن الاستظلال الدائم بدستور يخدم هذا المعنى وينضبط لهذا الشرط. لقد تم في الآونة الأخيرة تكثيف النقاش حول "النزيف الدستوري" الذي يتسبب فيه الفصل التاسع عشر وما تتيحه القراءة التقليدية –والتي هي في ذات الوقت قراءة ملكية- لهذا الفصل من إهدار للفصول الأخرى وتجاهل للصلاحيات الممنوحة للمؤسسات الأخرى وتبديد لجوهر الفكرة الدستورية، ولكن النقاش مع الأسف لم يمتد بالقدر الكافي إلى بعض الفصول الأخرى التي يمكن أن يؤدي استخدامها إلى نفس الآثار والمطبات التي يؤدي إليها استخدام الفصل التاسع عشر. وهكذا يلاحظ مثلاً أن المذكرات المقدمة من طرف الأحزاب إلى لجنة مراجعة الدستور لم تتعرض إلى الفصل 35 من الدستور المغربي الحالي. إن الفصل 35 يمثل في نظرنا قنبلة موقوتة وسلاحاً دائما وحاسما للانقلاب على الدستور في أية لحظة، وتسويغ السلطة المطلقة وإمكان التهميش المطلق للمؤسسات المنتخبة إلى ما شاء الله بدون حواجز أو قيود أو ضمانات فعالة وحقيقية. مشكلة الفصل التاسع عشر هو أنه يُمَكِّنُ الملك باسم القراءة المحافظة من أن يدفع بأن شرعيته متأتية من البيعة، وهي تحتل مرتبة أعلى من الدستور نفسه، لأن أساسها ديني، وأن هذه الشرعية تخول له، كأمير للمؤمنين –رغم جميع المقتضيات المخالفة الواردة في الدستور- حق تدبير جميع شؤون الرعية والحسم في كل القضايا واتخاذ كل القرارات وعدم التقيد بفصل السلطات. يمكن للملك باسم الفصل التاسع عشر أن "يسترد" جميع الصلاحيات التي قد توحي بعض فصول الدستور أنها انتقلت إلى غيره، ويمكن للملك باسم ذات الفصل أن يسترجع متى شاء سلطة ممارسة الحكم بشكل يحدد هو نفسه مناط هذه السلطة ومجالها وليس الدستور. ويمكن للملك بناء على ذلك أن يُشَرِّعَ وأن يعاقب وأن يدبر أمور البلاد في مختلف تفاصيلها وأوجهها، بلا استشارة مع أحد ولا تقاسم للسلطة مع آخرين أو شراكة مع مؤسسات أخرى. إذا كان الأمر كذلك فما الفائدة من وجود دستور في الأصل، وما قيمة هذا الوجود إذا كانت تُسَيِّجُهُ قراءات تنازع في سموه ومرجعيته كوثيقة تتضمن أيضاً فصولاً أخرى، وترمي إلى تسييد المنطق الذي تقوم عليه تلك الفصول "الأخرى". إن مهمة الدستور، وفق التأويل المترتب عن القراءات المشار إليها آنفاً، هي أن يكون مصدر الاحتكام في اللحظة التي لا يقرر فيها الملك ممارسة صلاحياته كأمير للمؤمنين، ويكتفي بممارسة صلاحياته كرئيس دستوري للدولة. هذا المجال الواسع للتقدير والغموض والتداخل بين الشرعيات والمرجعيات والخلط بين الصفات والأنظمة، يهدر الحقوق، ويفرغ الدستور من معناه، ويحول أية مكاسب ديمقراطية إلى مكاسب مؤقتة. ومشكلة الفصل 35 لا تقل خطراً على الديمقراطية من مشكلة الفصل التاسع عشر. ينص الفصل 35 على ما يلي : "إذا كانت حوزة التراب الوطني مهددة أو وقع من الأحداث ما من شأنه أن يمس بسير المؤسسات الدستورية، يمكن للملك أن يعلن حالة الاستثناء بظهير شريف بعد استشارة رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس المستشارين ورئيس المجلس الدستوري وتوجيه خطاب إلى الأمة؛ ويخول بذلك، على الرغم من جميع النصوص المخالفة، صلاحية اتخاذ جميع الإجراءات التي يفرضها الدفاع عن حوزة الوطن ويقتضيها رجوع المؤسسات الدستورية إلى سيرها العادي أو يتطلبها تسيير شؤون الدولة. لا يترتب على حالة الاستثناء حل البرلمان. تُرفع حالة الاستثناء باتخاذ الإجراءات الشكلية المقررة لإعلانها". إن نقد مضمون هذا الفصل، بالاحتكام إلى المعايير الديمقراطية، يقودنا إلى تسجيل أربعة عيوب يحملها المضمون المذكور : أولاً- منح الملك مجالاً واسعا لتقدير وجود ما يوجب إعلان حالة الاستثناء. فالعبارات الواردة بالفصل مغرقة في العمومية، ولا تتسم بالدقة، وتوسع هامش التقدير بشكل مبالغ فيه، وتفسح بالتالي مجالاً للحكم بإعلان حالة الاستثناء بدون أن يكون هناك ما يبررها من ناحية المنطق الديمقراطي، وإمكان اللجوء إلى استعمال الفصل لدواع وخلفيات غريبة عن فلسفة حالة الاستثناء. في الدستور المغربي يكفي لتبرير حالة الاستثناء أن نكون أمام أحد الظرفين ولا يوجب الدستور اجتماعهما. الظرف الأول هو أن تكون حوزة التراب الوطني مهددة، كأن يكون هناك مثلاً استعداد لشن هجوم عسكري على المغرب. الظرف الثاني هو أن يقع من الأحداث "ما من شأنه" أن يمس بسير المؤسسات الدستورية. في هذا الظرف لا يُشترط أن يكون قد وقع مس فعلي قائم بسير المؤسسات الدستورية، بل يكفي أن يكون هناك حدث أو أحداث "من شأنها" أن تمس بسير المؤسسات الدستورية، وللملك واسع النظر في تقدير أن هذا الحدث أو ذاك، حتى وإن لم يمس بسير المؤسسات فإن من شأنه أن يمس بسير هذه المؤسسات. لم تتحدد مسبقا طبيعة هذا الحدث، هل هو حدث اقتصادي أو سياسي أو اجتماعي أو أمني، فالأمر إذن يتعلق بحدث كيفما كان نوعه يحمل على الاعتقاد الملكي بإمكان مسه بسير المؤسسات الدستورية وأيًا كان المس المنتظر، سواء كان طفيفا أو جسيمًا. للتذكير، فإن الحزب الذي تأسس قبيل انتخابات 1963 بالمغرب والذي سمى نفسه "جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية" انطلق من أن هذه المؤسسات مهددة ولذلك "نذر" نفسه لحمايتها، ولطالما اعتبر النظام أمام أبسط الاختبارات أنه يواجه تهديدا يستهدف سير المؤسسات، فاعتُبرت الإضرابات العامة وجها من أوجه تهديد المؤسسات وكذلك اعتُبرت ممارسة الكثير من الحقوق الديمقراطية والاحتجاجات الشعبية، وتم باستمرار استخراج ورقة المؤامرة الخارجية لإعطاء ذلك التهديد طابعا خطيرًا. ونحن عندما نقول بقيام المس بسير المؤسسات، فإننا نوجد أمام واقعة مادية تتمثل في الاضطراب أو الارتباك أو التعثر أو التجميد الذي يطال سير المؤسسات، لكننا عندما نقول بوجود ما من شأنه إيقاع المس مستقبلاً، نكون أمام افتراض ذهني من الصعب التدليل عليه ماديًا. ثانيًا- السهولة المسطرية الممنوحة للملك في إعلان حالة الاستثناء. ليس أمام الملك حواجز أو تقييدات فعلية قادرة على لجم التوجه غير المبرر نحو خيار حالة الاستثناء. الفصل 35 لا يُلزم الملك سوى باستشارة رئيسي مجلس النواب ومجلس المستشارين ورئيس المجلس الدستوري وتوجيه خطاب إلى الأمة، أما هذه الاستشارات فلا تترتب عنها نتائج مُلزمة، إذ الملك يمكن له أن يمضي في مسطرة إعلان حالة الاستثناء حتى وإن كانت الشخصيات التي تمت استشارتها لها رأي آخر، وتفضل جميعًا تجنب إعلان حالة الاستثناء، فرأيها لا يفرض على الملك التراجع عن مشروعه، وليس هناك من وسيلة لكي يعرف الناس بشكل حتمي مادار في تلك الاستشارات. الملك إذن إذا كان عقد العزم على إعلان حالة الاستثناء فإنه لن يجد أمامه عقبة فعلية يمكن أن تعرقل مسعاه أو تجلب له مشقة في الذهاب حتى النهاية فيها انتواه. ورأي الممثلين المفترضين للشعب إذا كان الإلمام به ضروريا، فإن ذلك لا يفرض على الملك التقيد به والخضوع له. ثالثا- اتساع السلطات الممنوحة للملك خلال مرحلة الاستثناء. إن هذه المرحلة لا تعني بشكل مباشر حل البرلمان، وهذا هو التعديل الذي جاء به دستور 1992، ومع ذلك فإن استمرار وجود البرلمان لا يعني في جميع الأحوال أهليته للتدخل في تحديد مسار الحياة السياسية واستمرار نشاطه وجلساته بالضرورة، فالسلطات التي تُمنح للملك في حالة الاستثناء تجعله قادراً على تجاوز كل ما قد يفيض عن البرلمان، فالملك بمقتضى هذه الحالة : - يملك صلاحية اتخاذ جميع الإجراءات التي يفرضها الدفاع عن حوزة الوطن ورجوع المؤسسات إلى سيرها العادي، وهذا مفهوم. - لكنه يملك أكثر من ذلك –وهذا الخطير- صلاحية اتخاذ جميع الإجراءات التي يتطلبها تسيير شؤون الدولة، وبعبارة أخرى فإن هذا المقتضى الذي أُضيف إلى الفصل المتعلق بحالة الاستثناء عام 1970- ولم يكن واردًا في دستور 1962- يمنح الملك سلطة مطلقة في إدارة شؤون الدولة. رابعا- عدم تقيد حالة الاستثناء بأجل معين. يمكن لهذه الحالة أن تمتد إلى ما شاء الله، وأن تستمر لسنوات طوال، كما وقع في المرحلة السياسية من 1965 إلى 1970. وتُرفع تلك الحالة باتخاذ الإجراءات الشكلية المقررة لإعلانها في الأصل، أي أن الملك هو من يقرر رفعها متى شاء، وإذا قرر الإبقاء عليها فليس هناك مسطرة قانونية لفرض إنهاء الحالة خارج الإرادة الملكية. أي أن الديمقراطية في المغرب يمكن أن تُعَلَّقَ بقرار ملكي بإجراءات بسيطة وميسرة ولمدة غير محددة !. ولذلك، فإن مبدأ الدفاع عن الديمقراطية، يفرض مراجعة مضمون الفصل 35 من الدستور. ويكفي الرجوع هنا إلى أحكام الدستور الفرنسي لتبين أهمية الضمانات التي يوفرها بالنسبة لقضية حالة الاستثناء. 1- الدستور الفرنسي يتطلب اجتماع ظرفين وليس ظرفا واحداً لإعلان حالة الاستثناء. يجب أن يكون هناك من جهة تهديد يمس مؤسسات الجمهورية واستقلالها الوطني وسلامة ترابها أو يمس تنفيذها لالتزاماتها الدولية، وأن يكون ذلك التهديد خطيراً وحالاًّ. ويجب من جهة ثانية أن يكون السير العادي للمؤسسات العمومية الدستورية قد أضحى متوقفاً، أي حصول توقف وليس احتمال التوقف. 2- الدستور الفرنسي إذا كان هو أيضاً يكتفي باستشارة رئيس الجمهورية لكل من الوزير الأول ورئيسي البرلمان ورئيس المجلس الدستوري وتوجيه خطاب، فإن رئيس الجمهورية هو منصب يؤول لصاحبه بالانتخاب وبالتالي فإنه معرض للمحاسبة ومعاقبة الناخبين له، إذ يمكن أن يُقصى ديمقراطياً أو يقصى حزبه اعتماداً على أن التعسف المفترض في استعمال حق إعلان حالة الاستثناء يمثل خطأ سياسياً يُحاسب عليه انتخابياً. 3- الدستور الفرنسي يقيد مجال الإجراءات والصلاحيات المخول لرئيس الجمهورية اتخاذها خلال حالة الاستثناء، إذ ينص صراحة على أنها يجب أن تكون مستوحاة من إرادة تأمين وسائل آداء السلطات العمومية الدستورية لمهامها في أقرب الآجال. والمجلس الدستوري يجب أن يُستشار بهذا الخصوص. 4- الدستور الفرنسي يفرض تقييدات زمنية صارمة. فالمجلس الدستوري بعد مرور 30 يوماً من حالة الاستثناء، يمكن أن يحيل عليه أحد رئيسي البرلمان أو 60 عضوا في إحدى غرفتيه طلبا للبت فيما إذا كانت الشروط التي أملت حالة الاستثناء لازال مجتمعة. ويجب على المجلس الدستوري أن يبت في أسرع الأوقات برأي عمومي بحكم القانون بعد 60 يوما، وفي أي وقت بعد هذا الأجل. فلماذا نجد أنفسنا في المغرب باستمرار أمام حالة دستورية تَتَوَفَّرُ للملك في إطارها مجموعة من الأدوات الاحتياطية لممارسة سلطة مطلقة رغم كل المقتضيات الدستورية المخالفة إذا قدَّر ضرورة ذلك في زمن ما : أحياناً تُمارس تلك السلطة باسم الفصل 35 وحالة الاستثناء، وأحياناً تُمارس باسم الفصلين 101و102 الذين كانا ينظمان المرحلة الانتقالية التي كانت تمتد في بعض الظروف لعدة سنوات، وأحياناً تُمارس باسم الفصل19. قد تكون الأحزاب شعُرت بالحرج بسبب ما قد توحي به إثارة الفصل 35 من إظهارها بمظهر من يشعر بعدم الثقة حيال المؤسسة الملكية، وبعدم جدوى طرح حالات نادرة وغير مؤكدة الوقوع مستقبلاً وليست في نظرها في صلب الإشكالات المتعلقة بتوزيع السلطة في الظروف العادية، أما الظروف غير العادية فليست هي الأساس، ولا يُتصور في السياق الحالي أن تقع أو تطول إذا وقعت. يمكن الرد على ذلك بأن لحظة وضع الدستور هي عالمياً لحظة يحدد فيها الفرقاء الأحكام التي تضبط كل الحالات والظرفيات "العادية" و"غير العادية" وهي تهم المؤسسات، أما الثقة فتعني الأشخاص، ولا يمكن ل "الثقة" وحدها أن تعطي الضمانات اللازمة للأجيال القادمة. وكيف يسمح طرف لنفسه بإعداد كل الأسلحة الاحتياطية لمواجهة الظروف "غير العادية" والتعامل مع كل المفاجآت، بينما يعتبر طرف ثان أن اللياقة تقتضي منه التزام مظاهر حسن النية والانطلاق من الثقة ومنح شيك أبيض. ألغينا في المغرب ظهير كل ما من شانه. وحان الوقت لمراجعة كل الفصول التي تجعل من الدستور المغربي "دستور كل ما من شأنه". أسبوعية "الحياة الجديدة" 12-18 ماي 2011 العدد 140 الصفحة 15